مستقبل المنطقة فى العراق
كان الهدف الحقيقى من الغزو الأمريكى للعراق هو إعلان قيام الإمبراطورية الأمريكية، وأن هذه الإمبراطورية تمتلك من القوة العسكرية والاقتصادية ما يجعلها قادرة على فرض الهيمنة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط، والانفراد بإدارة شئونه وفق المصالح الأمريكية وأيضا إعلان أن هذه الإمبراطـورية قادرة على العمل وحدها وليست ملزمة باحترام الشرعية الدولية والأمم المتحدة ولا باحترام حلفائها الأوروبيين ولا أصدقائها العرب.
بمعنى أن الإدارة الأمريكية أرادت أن يعلم الجميع أن النظام العالمى الجديد سوف يكون بقيادة أمريكية وحدها وعلى الجميع أن يتبعها طوعا أو كرها.. وهكذا كانت أمريكا تريد أن تغير العالم وأن تغير منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة ليكون منطقة نفوذ أمريكية ولا تنازعها فيه أية قوة أو دولة أخرى..
ولأن الهدف يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية العليا، وبمستقل أمريكا ووضعها العالمى الجديد، فلم تهتم كثيرا بتزايد أعداد الضحايا من الأمريكيين والعراقيين، ولا بما يلحق بالعراق من دمار وخراب وانهيار اقتصادى. ولم تذرف دمعة على قتلاها حتى بعد أن وصل عددهم إلى أكثر من ثلاثة آلاف جندى وضابط بخلاف ما يستجد، كما لم تشعر طبعا بالذنب عن القتلى المدنيين العراقيين الذين زاد عددهم على مائة ألف قتيل (شهيد) وكل ما فعلته هو نقل القتلى من جنودها سرا دون إعلان وحظر نشر الصور أو الأسماء أو الأعداد الحقيقية لهم.
من أجل هذا الهدف الاستراتيجى لم تشعر الإدارة الأمريكية بالخجل عندما تكشفت سلسلة الأكاذيب الملفقة التى أعلنتها كمبررات للحرب. لم تعرف حمرة الخجل طريقها إلى ديك تشينى أو رامسفيلد أو كوندوليزا رايس أو وولفووتز أو غيرهم من المسئولين عن هذه الحرب من مجموعة اليمين الدينى المتعصب التى تتولى قيادة أمريكا فى هذه المرحلة. لم تكن هناك أسلحة دمار. ولم يحصل صدام حسين على يورانيوم من النيجر. ولم تكن هناك أية علاقة بين النظام الحاكم فى العراق وبين تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن. ولم تكن أمريكا تهدف إلى إقامة ديمقراطية أو إعادة ثروة العراق إلى الشعب أو تنمية اقتصاد العراق، فكل هذه كانت مجرد دعايات كاذبة. وكانت الإدارة الأمريكية تستخدم هذه الدعاية الكاذبة وهى تدرك أن العالم يعرف الحقيقة ولكنها لم تهتم بذلك على أساس أن النصر الأمريكى فى العراق سوف يسكت كل الألسنة ويهزم كل معارضة، والتبجح وقتها يمكن أن يصل إلى حد القول بإننا دمرنا العراق لكى نفرض نفوذنا على المنطقة كلها ومن لديه اعتراض فليتفضل!
كانت من المبررات المزيفة للحرب ما أعلنه الرئيس بوش من أن الإطاحة بصدام حسين سوف تهز أنظمة الحكم الديكتاتورية فى المنطقة، وتحرر شعوبها وقد حاولت الإدارة الأمريكية خداع الشعب الأمريكى بعرض صور الناخبين فى العراق وهم فى مراكز الاقتراع، والإدعاء بأن الشعب العراقى حصل أخيرا على حريته ونال كل ما يتمنى بفضل الاحتلال الأمريكى لبلاده، ولم تهتم- طبعا- بتفسير التناقض بين وجود قوات احتلال عسكرية أجنبية وقيام ديمقراطية وحرية للشعب الواقع تحت الاحتلال، كما لم تهتم بتفسير كيفية الاطمئنان إلى انتخابات تجرى فى ظل وجود دبابات أمريكية فى الشوارع وحول مراكز الاقتراع.
ووصل الخداع إلى درجة خداع النفس، فقد تصورت الإدارة الأمريكية أنها بتدمير العراق دمرت قوة إقليمية معادية لإسرائيل يمكن أن تكون مصدر تهديد للدولة العبرية وبالتخلص من ياسر عرفات تخلصت من تيار التشدد فى المطالبة بحدود 67 وعودة اللاجئين وعروبة القدس وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة لكن ذلك لم يحدث وفى انتخابات حرة اختار الشعب الفلسطينى أن تتولى منظمة حماس القيادة..
الديمقراطية التى أرادتها الإدارة الأمريكية ديمقراطية غربية ولا مثيل لها فى العالم فهى قائمة على تقسيمات طائفية بين السنة والشيعة والأكراد وغيرهم، فهى فى حقيقتها تكريس لتقسيم الدولة وإيقاظ الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، وكانت بذلك تمهد لتحويل العراق إلى ساحة للحرب الأهلية تحقق البقية الباقية من الهدف الأمريكى وهو تدمير ما تبقى من كيانات الدولة العراقية ووضع الحجر الأساسى لإقامة عراق جديد مشغول بالصراعات الداخلية ويعانى من نتائج ذلك: الفقر والفوضى والإحباط ، وبذلك يكون بقاء قوات الاحتلال الأمريكية ضروريا ولا غنى عنه لحفظ الأمن المفقود بفضل بقاء الاحتلال الأمريكى!
من هنا نصل إلى فهم ما يجرى من تصعيد للعنف والتوتر الطائفى.
والسؤال: من المستفيد من تدمير المراقد الشيعية المقدسة وهى فى حماية السنة منذ أكثر من ألف سنة؟ ثم من المستفيد.. بل من المحرك لتدمير مائة وخمسين مسجدا من مساجد السنة؟ ومن المستفيد من حالة الفوضى والغليان وانفلات الأمن إلى حد حظر التجول وتواجد الدبابات والمدافع فى الشوارع؟
هل يمكن فى ظل هذه الحالة من الانفعال والتوتر وانفلات المشاعر لما لحق بالمقدسات المذهبية أن يثور الشعب العراقى – أو ينشغل العالم – بالفضائح والجرائم الأخلاقية والقانونية التى ارتكبها جنود الاحتلال الأمريكى فى السجون العراقية والتى تعترف المصادر الأمريكية بأن كل الأعمال الوحشية التى تمت وتتم حتى الآن ضد العراقيين صدرت بها قرارات على المستوى السياسى فى الإدارة الأمريكية استنادا إلى قرار الرئيس بوش بعدم مسئولية إدارته بالالتزام بالقوانين الدولية أو باتفاقات جنيف أو بالدستور الأمريكى، وبفرض حالة من الفزع فى المجتمع الأمريكى من تهديدات إرهابية فى محاولة لإجهاض المعارضة.
وما وصلت إليه الأمور فى العراق الآن يقدم الضمان للرئيس بوش لعدم تعرضه للعقوبة السياسية التى تطالب بها المعارضة. وقد لجأ الرئيس بوش إلى خفض الضرائب على الأغنياء وذوى الدخول المرتفعة لإسكاتهم عن مطالبته بتقديم كشف حساب عن الخسائر البشرية والمالية والثمن السياسى لغزو العراق.
وهكذا تغطى الإدارة الأمريكية كل فشل لها فى العراق بإلقاء الزيت على النار الطائفية والقبلية. لكن ذلك لن يفيد على المدى البعيد.
فقد تنبه قادة الشيعة والسنة على الفور إلى وجود (أصابع خفية) ليست من السنة ولا من الشيعة وراء هذه التفجيرات والاعتداءات على بيوت الله. وطالب الجميع بعدم الانسياق لانفعال، والتهدئة، والتعامل مع المؤامرة بحكمة وتعقل.
وتسببت أمريكا بما تفعله فى العراق فى استثارة إيران، وقد شاهدت عن قرب ما حدث فى العراق، وأدركت أنها تحتاج إلى حماية نفسها من التهديدات الأمريكية والإسرائيلية بالحصول على أسلحة نووية تضمن لها الأمن والسلامة من الجيوش الأمريكية والإعتداءات الإسرائيلية المحتملة خاصة وقد أصبح الجيش الأمريكى بكل أسلحته التكنولوجية الفائقة القوة على حدود إيران بل على مرمى النيران! ولكى تحول أمريكا دون حصول إيران على السلاح النووى فإنها تحتاج إلى تعاون الدول التى سبق أن تجاهلتها وأعلنت التحدى لها قبل غزو العراق، فأمريكا فى وضع صعب فى مواجهة إيران، كما هى فى وضع صعب أمام كوريا الشمالية، ولا سبيل أمامها إلا التخلى عن سياسة الاستعلاء والغطرسة والانفراد، والعودة إلى الحلفاء والأصدقاء وإلى الشرعية الدولية، وهذه نكسة للاستراتيجية الأمريكية المستهدفة القائمة على انفراد أمريكا بالعمل وحدها كقوة وحيدة لقيادة النظام العالمى الجديد وهى مضطرة الآن إلى الاعتراف بأنها ليست القوة الوحيدة وأنها لا تستطيع العمل بدون حلفاء أو فى عزلة عن بقية دول العالم.. أمريكا عليها أن تدرك الآن أنها تملك قوة لا مثيل لها فى العالم ومع ذلك فإنها مضطرة إلى استخدام هذه القوة بحكمة وبمراعاة للشرعية الدولية وبالتنسيق مع الدول الأخرى.
وقد فشلت الخطة الأمريكية بالسماح للميليشيات الخاصة بالأحزاب الكردية والشيعية بالوجود تحت إشراف الحكومة لأن وجود هذه الميليشيات أدت إلى ظهور جماعات مسلحة من السنة أيضا بعيدا عن إشراف الحكومة وعن إشراف القوات الأمريكية أيضا وتحول وجود هذه الميليشيات العلنية والسرية إلى مشكلة تضيف أعباء جديدة على القوات الأمريكية فى غياب وجود جيش وطنى واحد قادر على فرض الأمن والاستقرار فى البلاد؛ لأن أمريكا لا تريد أن يكون فى العراق سوى جيش واحد هو جيش الاحتلال ومن الغريب أن تسمح الإدارة الأمريكية بوجود، الميليشيات المسلحة على أمل أن تتحمل المواجهة مع جماعات المقاومة المسلحة وجماعة الزرقاوى وغيرها بدلا من تحمل القوات الأمريكية هذه المخاطر ثم تدعى الإدارة الأمريكية أنها أقامت الديمقراطية فى العراق.
هذا هو الحال فى العراق الآن.. احتلال سوف يستمر طويلا جدا.. أطول مما يتصور المتفائلون والمتشائمون.. وانهيار فى البنية التحتية وشعب يعيش محروما من الخدمات الأساسية من المياه النظيفة والكهرباء والصرف الصحى كما هو محروم من فرص العمل وتحقيق التنمية.. وعدم تنفيذ شىء من الوعود الأمريكية بإعادة الإعمار.. وتكريس الانقسامات الطائفية والعرقية والقبلية (فرق تسد).. وفتح أبواب العراق سرا وعلانية أمام الشركات الإسرائيلية والأمريكية.. والسيطرة على بترول العراق.. واستمرار الفوضى..
ولماذا نندهش.. وهل سمع أحد أن الاحتلال ساعد على إعمار وتنمية بلد على مدى التاريخ؟ وهل سمح الاحتلال فى أى مكان وأى زمان بإقامة ديمقراطية حقيقية سيكون أول مطالبها الاستقلال وخروج الاحتلال؟
والأهم من كل ذلك أن ما يحدث فى العراق ليس المقصود به العراق وحده، بل المنطقة كلها ومستقبل المنطقة سوف يتحدد فى العراق، فالعراق هو حجر الأساس أو حجر الزاوية للنظام الإقليمى الجديد.
ودفن الرؤوس فى الرمال لن يفيد.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف