بين أزمتين !
نعيش هذه الأيام على أعصابنا، وتلتهب مشاعرنا، ونعانى من أزمتين فى وقت واحد، وكل منهما تكفى لكى تجعلنا نشعر بالإحباط. أزمة أو مأساة العبّارة السلام 98 التى تسببت فى إقامة مأتم كبير بطول البلاد وعرضها.. وليس سهلا أن يموت ألف إنسان مرة واحدة حرقا وغرقا وبسبب الإهمال والفساد.
والأزمة الثانية هى تداعيات نشر الرسوم الكاريكاتيرية التى أساءت إلى الرسول الكريم وعبّرت عن اتجاه عدائى للإسلام والمسلمين فى الدانمارك، واتساع نطـاقها بإعادة نشر هذه الرسوم فى صحف أخرى وعدد من الدول الأوربية بقصد التحدى وبحجة الإصرار على الدفاع عن حرية الرأى وحرية الصحافة.
الأزمة الأولى نكتشف يوما بعد يوم أنها أكبر وأخطر مما كنا نتصور، فالدكتور مفيد شهاب الوزير المختص بتمثيل الحكومة فى السلطة التشريعية يعلن بوضوح أمام مجلس الشعب أن هناك أخطاء جسيمة، وإهمالا شديدا وراء الحادث. ثم نكتشف أن وزير النقل الأسبق أصدر قرارا غريبا بالسماح للسفن المصرية بمخالفة القوانين البحرية الدولية بحيث يرخص لها بالإبحار لمدة خمسة عشر عاما بعد انتهاء عمرها الافتراضى وفقا لهذه القوانين، وبذلك كان معلوما أن السفن المصرية ممنوعة من الوصول إلى المياه الإقليمية لدول أوربا، ومع ذلك فإنها تعمل رافعة علم دولة أجنبية لن تخسر شيئا عندما يغرق ألف أو عشرة آلاف مصرى، ثم يزداد الإحباط عندما أعلن وزير الاستثمار أن مالك السفينة ليس مصريا وأنها مملوكة لشركة أجنبية مسجلة فى بنما وأن الشركة المصرية تتولى الإدارة فقط دون أن يعلن من هم مُلاّك الشركة الأجنبية المسجلة فى بنما، وهل فيهم مصريون أو كلهم أجانب؟ ويعتصر الألم قلوبنا عندما نقرأ كل يوم ما يجعلنا نشعر بأن الشعور بالأمان أصبح صعبا مثل عدم وجود معدات حديثة لإطفاء الحرائق، وعدم تدريب طاقم السفينة تدريبا كافيا على مواجهة حالات الحريق والغرق، وسابقة غرق عبّارات أخرى لنفس الشركة ولم تصلح من أحوال عبّاراتها وأيضاً لم يصبها سوء ولم توقع عليها عقوبات بل حصلت على ملايين الدولارات من التأمين على كل عبّارة غارقة.
وفوق كل ذلك يأتى وزير السياحة لينذرنا بأن حادثة العبّارة قابلة للتكرار فى النيل أيضا حيث تعمل 290 باخرة فى النقل السياحة منها 113 باخرة تحمل البشر فى النهر بدون ترخيص، و90 باخرة من هذه البواخر الكارثة لا تتوافر فيها شروط الدفاع المدنى الخاصة بسلامة الركاب فى أوقات التعرض للخطر و33 باخرة تعمل بدون تصريح للملاحة، وباختصار فإن 40% من سفن النقل النهرى فى مصر تعمل بلا تراخيص.. كيف ذلك؟ وهل يصل غياب أجهزة الدولة إلى هذا الحد؟
ليس ذلك فقط بل إن التقارير الصحفية المنشورة تحذر من تكرار حدوث كوارث أخرى لأن الحكومة لم تفتح أبدا الملفات السوداء لسوء الإدارة وتفشى الفساد فى قطاع النقل البحرى على مدى العقود العديدة الماضية، وسلبيات هذا القطاع ليست خافية على أحد كما قال الأستاذ إبراهيم سعده وأشار إلى تحقيقات نشرتها أخبار اليوم عن السلبيات والإهمال والفساد فى هذا القطاع استنادا إلى معلومات موثقة فلم يكن رد فعل الجهات المسئولة فى الدولة إلا استخدام حق الرد والتأكيد على أن هيئات وشركات النقل البحرى حريصة على أن يكون كل شىء فى السفن المصرية على ما يرام وإن كل ما نشر من معلومات تسىء إلى هذا القطاع الوطنى الشريف غير صحيح.. وهكذا يفعل المسئولون فى الجهات الحكومية دائما فتضيع الحقيقة وينتصر الكذب على الصدق!
كارثة السفينة. وكوارث محتملة فى النهر والبحر، والضحايا دائما مصريون، ولن يكون هناك مسئول أبدا عن هذه الكوارث غير القضاء والقدر. أرواح رخيصة!
وأخيراً سوف نصدق هذه المرة أيضا ما أعلنته الحكومة فى مجلس الشعب عن إعداد خطة طوارئ جديدة لمواجهة أية حوادث مستقبلا وتعديل قوانين النقل البحرى، وإعادة هيكلة هذا القطاع، وإزالة معوقات مشاركة الاستثمار الأجنبى فى تحديث أسطول السفن المصرى البحرية والنهرية.. سوف نصدق وننتظر عسى أن تنفذ الحكومة هذه المرة وعودها!
أما الأزمة الثانية- أزمة استمرار التوتر بين العالم الإسلامى وبعض الدول الغربية بسبب نشر الرسوم الكاريكاتيرية التى جرحت مشاعر المسلمين وعكست الكراهية والعداء للإسلام، فهى أزمة تحتاج إلى ضبط النفس والتفكير الهادئ لفهم دوافعها، ومعرفة المستفيد من المواجهة بين الغرب والإسلام، والبحث عن الوسائل العقلانية لحل هذه الأزمة، لأن استمرارها لن يفيد الغرب كما لن يفيد المسلمين، وقد يخرج عن السيطرة ويتحول الغضب إلى صدام ستكون نتائجه خطيرة جدا خصوصا فى هذه الفترة المشحونة بالتربص والاستعداد للانقضاض على العالم الإسلامى.
وتطورات هذه الأزمة يدعو للقلق. عدد الصحف التى تعيد نشر هذه الرسوم يزداد كل يوم رغبة فى التحدى. والمظاهرات فى الدول الإسلامية تزداد يوما بعد يوم. وصحيفة إيرانية نظمت مسابقة لرسامى الكاريكاتير فى العالم ورصدت لها جوائز وموضوع المسابقة المحرقة اليهودية، ما هى النتيجة؟ وماذا يستفيد المسلمون من كل ذلك؟
على الجانب الآخر تبدو علامات انفراج للأزمة. الصحيفة الدانماركية التى نشرت هذه الرسوم أول مرة نشرت اعتذارا مطولا وواضحا. ورئيس وزراء الدانمارك اليمينى والمعادى للمهاجرين فى الدانمارك والذى رفض استقبال سفراء الدول الإسلامية تخلى أخيرا عن الصلف والمكابرة، واستقبل السفراء، وأدلى بتصريحات تتضمن معنى الاعتذار، وبدأ فى حوار مع مجموعات من المسلمين فى الدانمارك للبحث عن وسائل مقبولة للتعايش الهادئ بين المسلمين وغيرهم فى الدانمارك، وكوفى أنان السكرتير العام للأمم المتحدة انتقد الرسوم ووصفها بأنها تدل على نقص فى الحساسية وبأنها عدوانية، وإن كان قد ألمح إلى إدانته للعنف فى رد الفعل لدى المسلمين وقال: بالتأكيد هناك عناصر فى هذه الديانة (الإسلام) وعناصر مهمشة لجأت إلى العنف ولكن هذا لا يعنى أن هذه الديانة (الإسلام) تدعو إلى العنف، والرد على الأزمة يجب ألا يكون بالعنف. ورئيسة أيرلندا أعلنت إدانتها لهذه الرسوم ولدوافعها. وقالت إن هذه الرسوم كانت من أجل الاستفزاز فهى رسوم وقحة مقصود بها إلهاب المشاعر. وآخر استطلاع للرأى فى الدانمارك أظهر أن 56% من الدانماركيين يتفهمون سبب شعور المسلمين فى أنحاء العالم بالغضب من نشر هذه الرسوم.
من ناحية أخرى بدأت منظمة المؤتمر الإسلامى فى إعداد برنامج عمل لمكافحة كراهية الإسلام فى الغرب تنفيذاً لقرار القمة الإسلامية الاستثنائية التى عقدت لهذا الغرض فى ديسمبر الماضى. وتم توقيع بيان ثلاثى بين منظمة المؤتمر الإسلامى والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة لمعالجة الآثار السلبية التى ترتبت على نشر هذه الرسوم.
وأخيراً جاء المنسق الأعلى للسياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى ليوضح الموقف الرسمى للحكومات فى الدول الأوروبية وهو موقف يرفض الإساءة إلى الدين الإسلامى.
وإذن فقد حققت وقفة الغضب الإسلامية أهدافها وبقى أن نفكر بهدوء كيف نزيل العداوة والكراهية للإسلام فى الغرب.. ماذا عليهم أن يفعلوا؟. وماذا علينا أن نفعل؟. لأن المسلمين يجب أن يدركوا أن توضيح الصورة الصحيحة للإسلام يتوقف على مواقف وتصرفات المسلمين