ســيناريـو الخروج من المأزق العراقى
وصلت الإدارة الأمريكية إلى نقطـة يصعب فيها الخروج من المأزق العراقى. انكشفت الأكاذيب عن أسلحة الدمار الشامل وعلاقة العراق بالإرهاب وتنظيم القاعدة وصفقة اليورانيوم من أفريقيا. وانكشفت الكذبة الكبرى بإعلان انتصار أمريكا النهائى فى العراق وإعلان الرئيس بوش فى لحظـة زهو تاريخية وانتهت المهمة. فشلت القوات الأمريكية فى القضاء على ما تسميه بالإرهاب. كل يوم قتلى من الجنود الأمريكيين حتى بلغ الرقم الرسمى 2200 جندى والرقم الحقيقى أكبر من ذلك بكثير. الإدارة الأمريكية تفرض رقابة على الإعلام فيما ينشره عن الانفجارات والضحايا وأسماء القتلى من الجنود الأمريكيين.
?ردود الفعل الغاضبة ازدادت فى المظاهرات واحتجاجات الرأى العام، وفى الصحافة، ثم فى الكونجرس، ووصل الأمر إلى معارضة قيادات كبيرة فى الحزب الجمهورى-حزب الرئيس بوش- لاستمرار الوجود العسكرى فى العراق والمطالبة بالانسحاب. وفى العراق رفض للاحتلال من جميع الفصائل والجماعات السياسية والعرقية والدينية. وحتى عندما أمكن جمع قيادات التيارات العراقية المختلفة فى الجامعة العربية، بما فيها التيار المتعاون مع الاحتلال، أعلن الجميع دون استثناء ضرورة انسحاب القوات الأجنبية.
هذا هو المأزق الاستراتيجى، بمعنى أن كل المنافذ تقريبا مسدودة أو محفوفة بالمخاطر.. فما هو الحل؟ كيف يمكن الانسحاب دون أن تهز المكانة الدولية للقوى العظمى؟
أمام الإدارة الأمريكية الآن أن تختار سيناريو للخروج من هذا المأزق والخيارات أمامها محدودة وكلها بها سلبيات وآثار جانبية يبدو أنه لا مهرب منها. وعليها أن تقبل ببعض الخسائر وتدفع ثمن هذه الحرب التى يطلق عليها المحللون الأمريكيون أكثر الحروب غباء، والتى قامت بسبب وحيد هو السبب الحقيقى وراء الأسباب الأخرى الملفقة، وقد كشف عنه باتريك أونيل وزير التجارة الأمريكى فى إدارة الرئيس بوش منذ البداية،وقد استقال ونشر مذكراته، وقال إن الرئيس بوش فى أول اجتماع للحكومة بعد أن أصبح رئيسا وكان ذلك قبل غزو العراق بثلاث سنوات، قال إنه سوف يقضى على الرئيس العراقى صدام حسين لكى ينتقم منه لأنه حاول اغتيال والده الرئيس الأسبق بوش أيام حرب الخليج. وكان المفتش السابق فى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتفتيش عن الأسلحة العراقية المحظورة-سكوت ريتر- قد أعلن عقب استقالته هو الآخر أن الحكومة الأمريكية تعمل على استفزاز العراق لكى تتمكن من الإطاحة بنظام صدام حسين والإتيان بالبديل الذى يدين لها بالولاء!
كل سيناريو أمام الإدارة الأمريكية للخروج من المأزق يواجه عدة مخاطر مؤكدة. أولها تزايد أعداد القتلى الأمريكيين والعراقيين ثانيها: تزايد الاحتمالات بتحول الخلافات بين السنة والشيعة إلى صراع دموى طويل. ثالثها- استقلال الأكراد جدولة ولو فى إطار كونفدرالى سيكون له تاثيره السلبى على تركيا وسوريا وإيران. ورابعها- أن يتكرر ما حدث فى أفغانستان عقب حرب المجاهدين على قوات الاحتلال السوفيتى، ثم انتشروا فى أنحاء العالم وقاموا بعمليات قتل وتدمير امتدادا لعقيدتهم عن الجهاد واشتهروا باسم (العرب الأفغان).
معظم الأمريكيين يرون الآن أن الرئيس بوش شن هذه الحرب على العراق على أنها الحرب العالمية للقضاء على الإرهاب، ولم يستطع القضاء على ما يسميه بالإرهاب فى العراق أو فى أفغانستان، بل ساعد على إيجاد ساحة تجذب الإرهابيين للتجمع فيها لمواجهة الأمريكيين ولتدريب أجيال جديدة منهم فى ميدان قتال حقيقى.
وكانت الفكرة السائدة فى مجلس الحرب الأمريكى أن تجمع الإرهابيين المعادين لأمريكا فى مكان واحد سيكون فرصة نادرة بالنسبة لأمريكا لكى تتمكن من القضاء عليهم جميعا، وتعلن انتصارها التاريخى الذى وعدت به الشعب الأمريكى والعالم. لكن أمريكا فشلت فى ذلك فبدأت فى إلقاء مسئولية الفشل على سوريا وإيران باتهامهما بتسليح الإرهابيين وتسهيل دخولهم إلى العراق عبر أراضى كل منهما. وقامت القوات الأمريكية بمراقبة الحدود مع البلدين بقوات برية وجوية، وقامت بتدمير وإحراق القرى على الحدود وضربت بالصواريخ كل تجمع هناك حتى إنها قتلت المشاركين فى حفل عرس وأعلنت أنهم مجموعة إرهابية (وقد حدث ذلك أيضا فى حفل عرس فى أفغانستان).
السيناريو الأول أمام الإدارة الأمريكية هو أن تتمكن من تكوين قوات بوليس تقدر على إنهاء حالة الفوضى وإعادة الأمن، وأن تتمكن من تشكيل حكومة تدير الأمور نيابة عن سلطات الاحتلال، وبذلك يمكنها إعادة جزء من قوات الاحتلال إلى الولايات المتحدة وسحب بقية القوات إلى قواعد بعيدة عن متناول المقاومة والإرهاب وتعيد للشعب الأمريكى الثقة فى الإدارة الحالية والاطمئنان على (الأولاد) فى العراق.
لكن هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، لأن قوات الشرطة العراقية بعد إعدادها وتسليحها قد تستجيب للروح الوطنية ودعوات الاستقلال فتوجه أسلحتها- مع المقاومة- نحو القوات الأجنبية، وتكرر ما حدث من قوات البوليس المصرى حين دخلت فى معارك مع قوات الاحتلال البريطانى فى القناة، وكما فعل ذلك أيضا أفراد من ضباط وجنود الجيش المصرى، وهناك صعوبة أخرى هى الشك فى قدرة الحكومة العراقية أيا كانت على إقناع الشعب العراقى بقبول استمرار وجود الاحتلال الأجنبى وإذا فعلت ذلك فسوف تفقد ثقة الشعب وتعاونه وبالتالى تفقد شرعيتها. وبالطبع فإن هذا السيناريو لا يضمن توقف عمليات التفجير ولكن سيكون أغلب الضحايا من العراقيين فى هذه الحالة!
السيناريو الثانى: أن تتمكن الإدارة الأمريكية من الضغط على الدول العربية لإرسال قوات تتولى حفظ الأمن ومواجهة الإرهابيين، وبذلك تتمكن القوات الأمريكية من الانسحاب من المدن إلى معسكراتها التى أصبحت جاهزة. مع توفير غطاء الجامعة العربية إن أمكن، المشسكلة أن الجامعة العربية أعلنت رفضها لفكرة إرسال قوات عربية مشتركة فى وجود قوات احتلال أجنبى وأعلنت أن ذلك ممكن عندما ترحل القوات الأجنبية ويكون ذهاب هذه القوات بطلب من الحكومة العراقية وقبول من الشعب العراقى، كذلك فليست هناك دولة عربية يمكن أن تقبل إرسال قواتها لحماية قوات الاحتلال. فهذا السيناريو المفضل لدى الإدارة الأمريكية مرفوض تماما من الجانب العربى.
السيناريو الثالث هو زيادة القوات الأمريكية فى العراق حتى تتمكن من القضاء على (الإرهاب) وإعادة الأمن، ولكن هذا الحل يواجه اعتراضات الرأى العام والكونجرس وتزايد المطالبة بإعادة القوات مما اضطر الرئيس بوش إلى إعلان بدء انسحاب جزئى للقوات فى وقت ما هذا العام فلا يمكن فى هذه الحالة زيادة القوات، وفى نفس الوقت فإن المحللين العسكريين الأمريكيين يقولون إن ذلك غير ممكن عمليا لأن الجيش الأمريكى كله منشغل تقريبا فى العراق، قوات تعود وقوات تذهب لتحل محلها، ولا يمكن سحب قوات من القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة فى أنحاء العالم.
السيناريو الأخير هو أن تقرر الإدارة الأمريكية انسحاب قواتها مع ترتيبات لإحلال قوات حفظ السلام من الأمم المتحدة والدول العربية بحيث تدخل هذه القوات بعد إتمام الانسحاب وليس قبله للتأكد من أن الانسحاب حقيقى وليس مجرد مناورة. مع تآكل مصداقية الإدارة الأمريكية. ولكن بعض المسئولين فى البيت الأبيض يرون ان هذا الحل سيؤدى إلى اهتزاز مكانة أمريكا ويكرر مأساة فيتنام. ولكن يرد على ذلك سياسيون معارضون للحرب والاحتلال بأن مكانة أمريكا اهتزت بالفعل، ويكفى أنها لم تستطع بكل جيوشها وأسلحتها المدمرة ان تحقق انتصارا عسكريا فى بلد صغير مثل العراق.
كما أن أحدا فى العالم لا يصدق ما قاله وزير الدفاع رامسفيلد للجنود الأمريكيين فى العراق وهو يحتفل معهم بالكريسماس إن غزو العراق لم يكن بسبب أسلحة الدمار الشامل، ولا من أجل البترول، ولا من أجل إسرائيل، ولكن كان من أجل مساعدة الشعب العراقى. ويبدو أنه تصور أن هناك عاقلا يصدق أن دولة تقوم بغزو دولة أخرى وتدمير منشآتها وهياكلها السياسية والإدارية وتفكيك الجيش والبوليس ونشر البطالة والجريمة وقتل مائة ألف إنسان وتعذيب الآلاف فى السجون الأمريكية.. وكل ذلك من أجل مساعدة الشعب.
شعب العراق يعلن كل يوم أنه يرفض هذه المساعدة.
الحل الوحيد هو الانسحاب.. وكلما كان الانسحاب مبكرا كان أفضل، ويمكن أن تقوم الأمم المتحدة بالمهمة.