مجلس.. أم وزارة ؟
فى التشكيل الوزارى الجديد تقرر إلغاء وزارة الشباب وتقسيمها إلى مجلسين أحدهما للشباب والثانى للرياضة. وقد اعتبروا أن هذه الصيغة مبتكرة وقالوا إنها وليدة أبحاث ودراسات، وأنها سوف تحقق للشباب المصرى الرعاية المتكاملة.. والحقيقة أن هذه هى المرة العاشرة التى يتم فيها إلغاء وزارة الشباب وتحويلها إلى مجلس أعلى ثم إلغاء المجلس الأعلى وتحويله إلى وزارة.. والقصة تتكرر منذ أكثر من خمسين عاما.. والشباب مازال-حتى اليـوم-ينتظر الرعاية.. والعاملون فى رعاية الشباب فقدوا الاستقرار والشعور بالأمان لكثرة التغيير والهدم والبناء.. ويعيشون حياتهم الوظيفية على كف عفريت فى انتظـار الضربة القادمة!
أكثر من خمسين عاما والعاملون فى رعاية الشباب لا عمل لهم سوى إعداد هيكل للوزارة أو للمجلس، واختيار العاملين المحظوظين، والتخلص من الكفاءات وتوزيعها على الوزارات على أنها عمالة زائدة، وإعداد القرارات الجمهورية بتحديد اختصاصات المجلس أو الوزارة، والبحث عن حل لمشكلة مديريات الشباب فى المحافظات، وتقسيم الميزانيات، وكل هذه الأمور لا تتم فى يوم وليلة بل تستغرق سنوات، وتشكل من أجلها لجان، ويستعان بخبراء، وتصرف مكافآت وحوافز، وأخيرا يجلس الجميع فى انتظار التعديل الجديد لتصبح الوزارة مجلسا، والمجلس وزارة!
والقصة تصلح موضوعا لرواية كوميدية، فقد ظهر أول كيان لرعاية الشباب فى الشهور الأولى لقيام الثورة، بإنشاء اللجنة العليا للرياضة فى هيئة التحرير التى تحولت إلى الاتحاد القومى ثم إلى الاتحاد الاشتراكى.. وكان مقر هذه اللجنة فى مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وجاء فى قرار تشكيلها أن مهمتها وضع سياسة لنشر الرياضة كوسيلة لتقدم ونهضة الشعب، ثم أنشئت بعد ذلك لجنة أخرى فى هيئة التحرير أيضا باسم الإدارة العامة لشباب التحرير، وجاء فى قرار تشكيلها أن هدفها توجيه الشباب نحو إعادة بناء المجتمع المصرى، وتنمية الوعى القومى للشباب، وتكوين رأى عام يؤمن بأهمية خدمات الشباب، واستثمار أوقات فراغ الشباب فى نشاط إنتاجى وفى مجالات مفيدة اجتماعية وثقافية ورياضية.
قوبلت هذه الخطوة بالتهليل كالعادة، وبعد فترة أعلن المسئولون الكبار فى هيئة التحرير أن هذه الإدارة لم تستطع القيام (بالأعباء الضخمة) التى كان يجب أن تقوم بها، ولم تستطع أن تنفذ الخطط والمشروعات التى كان عليها أن تنفذها. وقال المسئولون إن سبب هذا الفشل أن الإدارة أنشئت فى أول أيام الثورة ولذلك تمكنت بعض العناصر الرجعية من الاندساس فيها، وفى هيئة التحرير ذاتها، وتسبب ذلك فى فقدان الثقة فى هذه اللجنة، ولم يعترف هؤلاء المسئولون الكبار بأن فقدان الثقة شمل هيئة التحرير أيضا التى كانت كيانا سياسيا مهلهلا ونهبا للأطماع والانتهازية.
وفى 22 سبتمبر 1953 تقدم عضوا مجلس الثورة كمال الدين حسين وحسن إبراهيم باقتراح بإنشاء مجلس أعلى للشباب مهمته التنسيق بين جهود الهيئات التى تعمل فى مجالات رعاية الشباب من الفلاحين، والعمال، والطلبة، والموظفين، وذوى المهن الحرة، والمجندين.. وفى 23 يونيو 1954 وافق مجلس الوزراء برياسة جمال عبد الناصر، وكان رئيسا للوزراء على مذكرة قدمها كمال الدين حسين وزير الشئون الاجتماعية فى ذلك الوقت على إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الشباب والتربية الرياضية كلجنة من لجان المجلس الدائم للخدمات وتولى كمال الدين حسين رئاسة المجلس الأعلى للشباب مع رئاسته للمجلس الدائم للخدمات واختار عادل طاهر سكرتيرا عاما والدكتور عبد الخالق علام سكرتيرا عاما مساعدا، وأصبح مقر هذا المجلس الجديد فى مبنى مجلس الشيوخ. وجاء ضمن اختصاصاته وضع البرامج لرعاية الشباب، وتدريب وإعداد القادة المحترفين والمتطوعين، وإعداد التشريعات الخاصة برعاية وحماية الشباب، وتشجيع ونشر البحوث التى تكفل نمو حركات الشباب.. الخ
وتم تشكيل المجلس من 30 عضوا يمثلون الوزارات والجامعات و11 عضوا يعينهم وزير الشئون الاجتماعية ممن ترشحهم الهيئات الأهلية الكبرى، و3 أعضاء من ذوى الخبرة منهم سيدة، وأنشئت للمجلس فروع فى المحافظات باسم المجالس الإقليمية لرعاية الشباب.
وبعد فترة أعلن المسئولون الكبار مرة أخرى أن هذا المجلس لم يحقق أهدافه بسبب عدم كفاية الميزانية ولأن قراراته لم تكن ملزمة لأية جهة، ووجود النزاعات والانتهازية بين أعضاء المجلس (ويبدو أن النزاعات والانتهازية أصبحا من لوازم كيانات رعاية الشباب بعد ذلك) وبناء على ذلك صدر قانون فى سنة 1956 بإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الشباب برئاسة رئيس الوزراء على أن تكون قراراته ملزمة للوزارات والمصالح والهيئات مادام قد صدق عليها الوزير المختص، وإذا لم يصدق الوزير يعرض الأمر على مجلس الوزراء. وتولى جمال عبد الناصر رياسة هذا المجلس باعتباره رئيسا للوزراء ثم أناب عنه كمال الدين حسين بعد ذلك، وأنشئت مرة أخرى مجالس إقليمية لرعاية الشباب فى المحافظات.
وبعد الوحدة مع سوريا صدر قرار من رئيس الجمهورية سنة 1958 بامتداد نشاط المجلس الأعلى لرعاية الشباب إلى الإقليم الشمالى وأعيد تشكيله ليشمل الإقليمين.. وظل برئاسة كمال الدين حسين.
ثم أعلن المسئولون الكبار مرة أخرى فشل هذا المجلس وقالوا إن ذلك كان بسبب التضارب الذى حدث فى مجالات التنفيذ والتخطيط فى ميدان رعاية الشباب لتعدد الأجهزة العاملة فى هذا المجال وعدم وضوح دور كل جهاز منها. وبناء على ذلك عين طلعت خيرى أول وزير للدولة للشباب ورئيسا للمجلس الأعلى لرعاية الشباب فى سنة 1956، وترتب على ذلك إعادة تكوين المجلس وإنشاء وظائف وكلاء وزارة ومديرى عموم ومستشارين وخبراء، وبعد أن كان وزراء الخدمات هم أعضاء المجلس أصبح وكلاء الوزارات هم الأعضاء، وصدر قرار جمهورى بإنشاء الجهاز الوظيفى للمجلس من 36 إدارة ومراقبة وقسما، وبعد سنة انتهى المجلس من إعداد خطة لإعداد القادة ونشر التربية الرياضية والرعاية الاجتماعية والثقافية لطلبة المدارس والجامعات والفلاحين والموظفين والعمال. وقبل أن يبدأ فى تنفيذ هذه الخطة أعلن المسئولون الكبار أن القيادات المهنية لم تتفهم الأهداف فضاعت جهودها فى الصراعات وهربت الكفاءات من الميدان وآثرت الانزواء لعدم قدرتها على التعامل مع هجوم الدخلاء غير المتخصصين، وظهور قيادات مسيطرة منعت قيام القيادات ذات الخبرة من أداء رسالتها، ومن أسباب الفشل أيضا أن المحافظات قامت بتوجيه اعتمادات رعاية الشباب إلى مشروعات أخرى، وبناء على ذلك فشل المجلس فى تنفيذ ومتابعة مشروعاته ونشاطه متابعة ميدانية وجادة. فتقرر إلغاء المجلس الأعلى للشباب وإنشاء وزارة للشباب.
وعين الدكتور صفى الدين أبو العز وزيرا للشباب، وعاش فترة طويلة فى دوامة تحديد الاختصاصات واختيار الكوادر والقيادات، وإنشاء مديريات واختبار مديرين وخبراء وموظفين فى المحافظات.. وبعد أن انتهى من إعداد كل شىء وبدأ فى تنفيذ الخطة تقرر إلغاء وزارة الشباب وإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الشباب برياسة الدكتور مصطفى كمال طلبة.
بعد ذلك تكررت القصة.. مجلس ثم وزارة.. ثم مجلس.. ثم وزارة.. وأخيرا ها نحن أولاء قد وصلنا إلى اختراع جديد اسمه المجلس الأعلى للشباب.. ولابد أن ندرك أن فقدان عنصر الاستقرار كما بدد مئات من الخبراء والاحصائيين كان يتم الاستغناء عنهم فى كل تشسكيل جديد على أنهم عمالة زائدة للتخلص منهم وإفساح المجال أمام المحاسيب والمحظوظين ممن لا خبرة لهم فى هذا العمل ليصبحوا وكلاء وزارة ومديرى عموم.. وفى كل مرة لا يجد المسئولون عن المجلس أو الوزارة وسيلة للتغطية على القصور والتقصير وحالة الفوضى التى يعيش فيها هذا القطاع إلا بزيادة التصريحات والتقارير الوردية والحديث عن إنجازات لم تحدث، وباستقطاب من لديه قدرة على كشف الحقيقة باختياره فى اللجان وما فيها من مكافآت وسفريات ورحلات و.. و.. .. وحين أراد الدكتور ممدوح البلتاجى-آخر وزير الشباب-إصلاح الأحوال وتحقيق الانضباط والجدية ونظافة اليد وإعادة الشباب إلى مراكز الشباب والأندية الريفية بعد أن انفض عنها.. تقرر إلغاء الوزارة وإنشاء مجلس للشباب.
سوف يخرج علينا من يتحدث عن معسكرات ومشروعات وبرامج وما أسهل الكلام.. وإن كانت هناك فترة شهدت نشاطا حقيقيا لرعاية الشباب فقد كانت أيام عادل طاهر الذى أحاطت به المؤامرات خشية استمرار نجاحه.. وأعداء النجاح فى مصر هم أقوى الكتائب وأكثرها ذكاء.
كل هذا التخبط يحدث وفى مصر مئات من مراكز الشباب والأندية الريفية ولا تجد من يتولى إدارتها إدارة حقيقية تقدم للشباب خدمات ورعاية اجتماعية وثقافية ونفسية ورياضية كما يقال فى المؤتمرات الصحفية، وتنجح فى جذب الشباب وحمايته من الوقوع فى شراك المخدرات، أو الجريمة، أو الانحراف الاخلاقى، أو الفكر المتطرف، أو السلبية أو فقدان الدافع للمشاركة فى الحياة الاجتماعية والسياسية. ونتيجة للفراغ وعدم وجود نشاط يستوعب طاقات الشباب ويوجهه التوجيه السليم إزدادت فى المجتمع الظواهر السلبية التى أصبحت تهدد المجتمع وأخطرها تمرد الشباب على سلطة الأب والمدرسة والجامعة، واستسهال الخروج على النظام والقانون، والضرب بالقيم عرض الحائط، والوقوع فريسة للانحرافات عن طريق أصدقاء السوء، أو المواقع التى تحرض على الفساد الأخلاقى على الانترنت والفضائيات، وبعد ذلك ليس غريبا أن تنتشر البلطجة، والقيم الفاسدة.
ليس المهم أن تكون لدينا وزارة أو مجلس.. ففى دول العالم المتقدم هذا وذاك.. المهم أن تكون لدينا سياسة ثابتة مستقرة لرعاية الشباب، ونستعيد ما تبقى من الكفاءات والقيادات المبعثرة، ونعيد الثقة مرة أخرى إلى الشباب بأننا نهتم به، ونرعاه، ونقدم له خدمات حقيقية، ونساعده على اكتساب مهارات وسلوكيات تساعده على النجاح فى حياته.. والعبرة ليست بالهياكل الإدارية.. العبرة بما تقدمه.. والحكم بالنجاح والفشل ليس بالتقارير بل بما نلمسه فى الواقع من تطور فى أوضاع الشباب.
والخلاصة أن الشباب فى مصر يحتاج إلى رعاية حقيقية.. وأخشى أن يصاب القارئ بالملل إذا كررت الحديث عن أهمية الشباب للمستقبل وخطورة هذه المرحلة بما فيها من فضائيات ومصائب على شبكة الانترنت وحرب نفسية واقتصادية.. واحتياج البلاد إلى شباب قادر على تحمل المسئولية ومسلح بالوعى.. والقارئ معذور إذا أصابه الملل، لأننى أنا نفسى أصابنى الملل، وهذا الكلام تكرر أكثر من خمسين عاما.. حتى أصبحنا من أكبر دول العالم فى صناعة الكلام..
ومع ذلك دعونا نتفاءل وندعو لمجلس الشباب بالنجاح هذه المرة.. أدعوا وأنتم موقنون بالإجابة!!
.. أو أن يتحول إلى وزارة وتحقق النجاح..
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف