هل هذا صراع الحضارات؟
الحملة ضد الإسلام فى الدنمرك ليست جديدة، وجذورها ممتدة منذ سنوات طويلة. والدنمرك ليس البلد الأوربى الوحيد الذى ينمو فيه العداء للإسلام، وأن هذه الظـاهرة موجودة فى كل الدول الأوربية تقريبًا وبدرجات مختلفة، وموجودة فى الولايات المتحدة بدرجة تفوق كل ما عداها. وليكن ما يحدث فى الدنمرك الآن يشعل الغضب فى نفوس المسلمين، ويدعو إلى المطـالبة بإيقاظ المؤسسات الإسلامية من حالة الاستسلام والسلبية أوالاكتفاء بإصدار بيان استنكار لا يقدم ولا يؤخر.
ففى الدنمرك نشرت صحيفة (يولاندز بوستن) العديد من رسوم الكاريكاتير للرسول صلى الله عليه وسلم فيها من الإساءة والإهانة ما لا يغتفر، ونشرت الصحيفة هذه الرسوم على شبكة الإنترنت أيضا لكى تصل إلى جميع أنحاء العالم. وهذه الصحيفة تابعة للحزب الحاكم. وبالطبع أثارت هذه الرسوم غضب المسلمين فى الدنمرك (وعددهم 200 ألف مسلم) فتحركت الجمعيات الإسلامية التى تمثلهم وقابلت السفيرة المصرية هناك فقامت بجهد كبير مع المسئولين فى وزارة الخارجية الدنمركية، لكن رد فعلهم كان سلبيا، وقالوا إن هذه الرسوم تدخل فى دائرة حرية التعبير، وحاولت السفيرة بعد ذلك مع سفراء الدول الإسلامية مقابلة رئيس الوزراء لتقديم احتجاج على الإهانات المتكررة التى توجه إلى الإسلام فى الدنمرك فرفض رئيس الوزراء استقبالهم، وأعلن هو الآخر أن هذا الهجوم تعبير عن حرية الرأى، وكرر حكاية أن الدنمرك تكفل حرية الرأى وحرية التعبير.
وكاد الأمر يقف عند هذا الحد لأن المؤسسات الإسلامية فى الدول الإسلامية تعلم ولا تتحرك، والأحداث كلها منشورة يوما بيوم فى الصحافة العالمية، ومع ذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية لم يتحرك إلا منذ أيام فقط بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر– عندما وجد نفسه فى وضع محرج بحضور وفد من مسلمى الدنمرك إلى القاهرة، ذهب إلى جميع القيادات الدينية والسياسية طلبا للنجدة والتحرك لعمل شىء لكى تشعر الحكومات الغربية أن هناك من يدافع عن الإسلام. وأخيرًا أصدر المجمع بيانًا استنكر فيه هذه الإساءات للدين الإسلامى وللنبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن أن هذه الإساءات تكررت وتجاوزت حدود النقد المتاح وأدب الحوار، وأن جهود العقلاء فشلت فى إيقاف الحملات التى تسىء إلى ملايين المسلمين، وإلى قوانين العالم المتحضر التى ترعى حرمة المقدسات كما ترعى حرية التعبير، وإن تداعيات هذه الحملة تؤدى إلى المساس بمصالح الدنمرك وشعبها، والمساس أيضا بروح التعاون بين الدنمرك والشعوب الإسلامية، وإن ما تنشره صحف الدنمرك ترويج لثقافة الكراهية وإزدراء الأديان ويدخل فى دائرة القذف والسب وإزدراء العقائد، وأخيرا طالب المجمع حكومة الدنمرك بمراجعة موقفها من هذه الحملات ونظر الطلبات المقدمة إليها من الجمعيات الإسلامية فى الدنمرك.. وبعد ذلك لا شى! كلام جميل، ولكنه مجرد كلام قيل فى القاهرة قرأه من يقرأون اللغة العربية. وماذا بعده؟ لا شىء!
انتهى دور مجمع البحوث الإسلامية والأزهر– قلعة الإسلام والمسلمين– عند هذا الحد. لم يقرر شيخ الأزهر استدعاء سفير الدنمرك لتقديم احتجاج شديد باسم أكبر مؤسسة دينية فى العالم الإسلامى. ولم يقرر الأزهر– أو أية جهة أخرى فى مصر أو فى أية دولة إسلامية– إرسال وفد لمقابلة المسئولين فى الدنمرك للتعبير عن الغضب لدى الحكومة، والبرلمان، وقيادات الأحزاب والإعلام، والتنبيه إلى أن تجاهل الحكومات الغربية لهذا الغضب هو ما يدفع بعض الشباب المتحمس إلى الاتفجار لشعورهم بالإهانة والظلم والتجاهل لمشاعرهم الدينية.
والمسألة ليست فقط هذه الرسوم الساخرة التى تهزأ بالنبى الكريم الذى يؤمن به وبرسالته مليار و200 مليون مسلم فى العالم، ولكن المسألة- بالإضافة إلى ذلك- أن هذه الجريمة ترتكب فى حق الإسلام كل يوم فى الولايات المتحدة وأوروبا. والأحداث فى الفترة الأخيرة تبين كيف أن هذا الموقف يمثل اعتداء منهجيا، ففى الدنمرك أيضا سبق أن عرض منذ شهور فيلم للمخرج فان جوخ ملىء بالإساءات إلى الإسلام استفز مشاعر المسلمين إلى حد أن اندفع شاب مغربى وقتل مخرج الفيلم، وأدين القاتل بحكم القانون كما أدانته الدول والمؤسسات والصحف فى العالم الإسلامى، ولكن لم توجه كلمة نقد لما فى الفيلم من إساءات، بل إن رئيس الوزراء قام بتكريم مؤلفة الفيلم ومنحها جائزة، وأعلنت هذه المؤلفة بعد الاحتفال أنها بدأت فى إعداد فيلم جديد بعنوان (تصحيح أخطاء محمد)!
***
ومنذ أيام قام آلاف من الشباب فى استراليا بمهاجمة مجموعة شبان من أصول إسلامية وشرق أوسطية وهم يرددون شعارات عنصرية وصادفوا سيدة مسلمة فنزعوا عنها الحجاب. وأعلنت الجالية الإسلامية فى العاصمة سيدنى مسئولية تيار عنصرى فى وسائل الإعلام معاد للإسلام وللعرب وللمهاجرين، وهذا التيار يغذى الكراهية ويقود إلى هذه المصادمات العنصرية.
***
وفى بريطانيا يقام معرض للفنون المعادية للسامية رداً على كاريكاتير رسمه الفنان البريطانى ديفيد براون فى صحيفة الإندبندنت يصور شارون وهو يأكل طفلاً فلسطينيا، وبسبب هذا الكاريكاتير قامت الجماعات الإسرائيلية واليهودية بحملة هوجاء فى الإعلام وفى الأوساط السياسية البريطانية، وذهب إلى لندن وزير شئون مجلس الوزراء (ناتان شارانسكى) وقدم احتجاجات رسمية، وما زالت الحملة مستمرة فى بريطانيا بسبب رسم واحد.
فى هذا المعرض جمعوا كل ما نشر ويعتبرونه ضد اليهود واليهودية منذ مئات السنين وإلى اليوم ومن بينها رسم ألمانى من القرن الخامس عشر يصور عدداً من اليهود يشربون دم طفل، ورسم آخر معاصر له يصور ثعبانا يهوديا تتدلى من فمه قدم طفل.. وفى هذا المعرض أيضاً عرضوا رسوما لفنانين عرب منها رسم كاريكاتيرى لفنان فلسطينى نشر عام 2001 يصور شارون وهو يأكل بالشوكة فى طبق ملىء بالأطفال..
هكذا يفعل اليهود وتفعل دولة إسرائيل، فلماذا لا نفعل مثلها؟ لماذا تهون علينا أنفسنا ويهون علينا ديننا؟ ونكتفى بأن نكلم أنفسنا فى بيانات لا يقرؤها غيرنا؟ وكأن المسئولين عندنا لا يهمهم إلا إرضاء الرأى العام فى الداخل. لماذا لم ينظم أحد معارض فى أوروبا لصور ورسوم تمثل الاعتداء بجميع صوره.
والأمثلة كثيرة عن الهجوم على الإسلام وكتابه ونبيه، فى الكتب والمقالات الصحفية والأحاديث فى الإذاعة والتليفزيون، من قيادات سياسية ودينية وإعلامية، وقد عبّرت عن ذلك البرفيسورة (أنجريد ماتسون) أستاذ الأديان بكلية هارت بولاية كنتكت الأمريكية بقولها: (إن اليمينيين) فى أمريكا يكرهون الإسلام كعقيدة ودين، وكثقافة وكتاريخ، والأطفال المسلمون يعانون من تحرش زملائهم بهم ويرفضون إشراكهم فى اللعب معهم لأنهم مسلمون)، وقالت أيضاً: (إن الإسلام يظهر على شاشات التليفزيون الأمريكى على أنه شىء مخيف. وقد صدرت صحيفة واشنطن بوست يوما والعنوان الرئيسى على صدر صفحتها الأولى يقول: (الإسلام متعهد الإرهاب). ونشرت صحيفة هيرالد تريبيون مقالاً بعنوان (محاولة واشنطن لكسب صداقة المسلمين ليست إلا وهما ساذجا) وقال كاتبه (بيترو رودمان): (إن الانحطاط الثقافى والفساد هما نتاج العقيدة الإسلامية ذاتها). ونشرت وكالة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية قائمة بعناوين عشرين كتابا هى الأكثر مبيعا من بين عشرات الكتب التى صدرت فى عام واحد فى الولايات المتحدة عن خطر الإسلام، ومنها كتاب (الإرهابيون بين ظهرانينا) تأليف ستيفن إمبرسون، وكتاب (الإسلام المقاتل) تأليف دانيال بابيس.. وغير ذلك كثير.
كما نشرت مجلة تايم الأمريكية منذ سنوات خبرا فى منتهى الأهمية لم يلتفت إليه أحد فى مصر أو فى العالم الإسلامى يقول إن الدكتور (د. نداف سفران) الأستاذ الجامعى الأمريكى الجنسية من أصل مصرى واليهودى الديانة تلقى بصفته مدير مركز دراسات الشرق الأوسط فى جامعة هارفارد مبلغ 45 ألف دولار من وكالة المخابرات الأمريكية لعقد مؤتمر دولى لمهاجمة (الأصولية الإسلامية) على أن يبدو مؤتمراً أكاديمياً ويدعى إليه عدد من الباحثين المسلمين واليهود والمسيحيين!
أرجو قراءة هذا الخبر مرة أخرى، لأن هذا المؤتمر الذى عقد فى سنة 1986 تكرر بعد ذلك عشرات المرات، ولم يعد الذين يتولون تنظيمه يحصلون على 45 ألف دولار فقط بل ارتفع الرقم عشرات المرات وأخذ صوراً مختلفة: دعما.. معونة.. مكافآت.. وصورا أخرى تبدو بريئة وفى إطار دعم النشاط العلمى والأكاديمى ونشر الديمقراطية! ولمن يريد أن يستوثق من الخبر يمكنه الرجوع إلى عدد 13 يناير 1986 من مجلة تايم أشهر المجلات فى أمريكا.
***
ولعلنا نذكر ما كتبه المؤلف الفرنسى (ميشيل هولبيك) فى روايته (بلاتفورم) من إهانات للإسلام، وما قاله فى حديثه إلى مجلة (لير) الفرنسية (إن الإسلام هو أغبى الأديان على الإطلاق وعندما تقرأ القرآن تشعر بالملل) ودافع عن نفسه أمام المحكمة قائلاً: (إننى أظهر ازدرائى للإسلام وهذا الشعور لم يتغير) وفاز هولبيك بجائزة كبرى عن روايته التى قال فيها أيضاً: (إننى أشعر برعشة سعادة كلما سمعت عن مقتل فلسطينى).
***
فى الدنمرك.. وفى بريطانيا.. وفى فرنسا.. وفى أمريكا..فى كل دول الغرب تقريباً روح الكراهية للإسلام واضحة.
ماذا تفعل المؤسسات الإسلامية؟ وماذا تفعل الحكومات؟
هل ستظل مكتفية بالبيانات فى الداخل والحديث مع نفسها دفاعا عن الإسلام.. أو تفيق من غفوتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ واسألوا أنفسكم: هل هذا صراع الحضارات الذى تحدثوا عنه فى الغرب ولم نصدقه أو سنظل نكرر ونعيد ونزيد أننا نرفض صراع الحضارات بينما غيرنا لا يفعل ذلك؟