ثمــن الديمقراطيــة
لماذا ازداد العنف فى هذه الانتخابات، وازداد أكثر وأكثر فى المرحلة الثانية عما كان عليه فى المرحلة الأولى؟
هذا السؤال لابد أن يشغلنا الآن لكى نضع هذه الظـاهرة المنذرة بالخطر موضع البحث والتحليل، وإذا لم يقم المركز القومى للبحوث الاجتماعية ومراكز البحوث السياسية والجامعات بدراسة هذه الظـاهرة ووضع الحلول الصحيحة لها فسوف تتفاقم وتنتشر وقد تصعب السيطرة عليها بعد ذلك.
فما حدث فى بورسعيد مثلا لا يمكن السكوت عليه، ومن بين ما نشرته الصحف وتناقلته وكالات الأنباء العالمية عن حرق صناديق الاقتراع، واحتجاز القضاة رؤساء اللجان لساعات، واقتحام إحدى اللجان لمحاولة الاستيلاء على الصناديق، وإغلاق عدد من القضاة أبواب اللجان على أنفسهم والاتصال برئيس محكمة بورسعيد طلبا للنجدة، وطلب الشرطة من القضاة ترك الصناديق داخل اللجان والخروج تحت حراسة الشرطة، وتهديد البلطجية للقضاة بأنهم لن يخرجوا أحياء إذا لم يتركوا الصناديق.
مثل هذه الصورة المفزعة تكررت بصورة أو بأخرى فى محافظات كثيرة، كما تكرر فى تقارير القضاة والمراقبين تسجيل موقف الشرطة السلبى ولأول مرة تظهر فى الصحافة العالمية صور البلطجية وهم يحملون السيوف والخناجر والعصى وخلفهم صفوف من الشرطة.
ما معنى كل ذلك؟
أولا: لقد بدأت الانتخابات فى المرحلة الأولى بدرجة مقبولة من العنف جعلت الأمين العام للحزب الوطنى يعلن ان هذه الانتخابات لم تحدث فى مصر من قبل، فهى انتخابات حرة ودون تدخلات من الإدارة وحياد أجهزة الأمن وإشراف قضائى واستخدام الحبر الفسفورى والصناديق الزجاجية.. فهى انتصار للديمقراطية ورسالة قوية للعالم الخارجى وللمصريين وهى الرد على الذين يدعون أن الحزب الوطنى يريد اغتصاب جميع المقاعد، بينما يرحب الحزب الوطنى بوجود المعارضة فى مجلس الشعب لأن الديمقراطية لا تكتمل بدون وجود معارضة.
ثم بعد ذلك أعلن الأمين العام للحزب الوطنى تضرر الحزب والأحزاب الأخرى من عدم دقة القوائم الانتخابية وهى شكوى مزمنة منذ عشرات السنين، ومن القيد الجماعى، والتصويت الجماعى، واستخدام سلاح المال والبلطجة، وأعلن نائب رئيس الاتحاد البرلمانى الأوروبى عن محاولات لمنع وفد الاتحاد الأوروبى من دخول مراكز الاقتراع.
هذه السلبيات وأمثالها تشير إلى أن الأحزاب تعمل بسياسة الحشد والتعبئة وليس بالعمل السياسى والتفاعل مع الناخبين. خاصة أنه قد أصبح العنف ظاهرة عامة وليس مقصورا على الانتخابات بل إنه موجود قبل الانتخابات وامتد إلى الشارع والمدرسة والجامعات والأندية وحتى داخل الأسرة، وأصبح الفيروس الذى يدمر العلاقات الحميمة التى كانت تميز المجتمع المصرى، وعلى الرغم من اعتراف الجميع بانتشار العنف بصوره المختلفة لم تقدم مراكز البحث والجهات المسئولة عن التربية والإعلام والشئون الاجتماعية ما يساعد على معالجة هذه الظاهرة.
والرشوة الانتخابية كما ظهرت علنا فى هذه الانتخابات تدل على أن سكان الأحياء الفقيرة والعشوائيات لديهم بطاقات انتخابية وليس لديهم اهتمام بالانتخابات، واهتمامهم مركز على تدبير الحد الأدنى من متطلبات حياتهم، وهم لا يشعرون بفائدة مباشرة تعود عليهم من نجاح هذا المرشح أو ذاك، ولا تشغلهم برامج الأحزاب، ولا يرون هؤلاء المرشحين ويتوددون إليهم إلا مرة كل خمس سنوات، فهذه إذن فرصتهم للحصول على شىء مقابل ما يطلبه منهم المرشحون.
وسقوط عدد قليل من المرشحين الذين اختارهم الحزب الوطنى لتمثيله يدل على وجود فجوة بين اختيارات الحزب واختيارات الناخبين، كما أن وجود أعداد كبيرة من المرشحين المنشقين عن الحزب أدى إلى الشعور بأن الالتزام الحزبى ليس شيئا حقيقيا، وما دام هذا الالتزام ليس موجودا بين المرشحين والمفروض أنهم من كوادر الحزب فكيف نطالب به الناخبين؟ وفضلا عن ذلك ظهر أن الناخب لا يختار المرشح بناء على برنامج الحزب الذى ينتمى إليه، ولا حتى بناء على معايير الصلاحية والكفاءة للقيام بمهمة التشريع والرقابة والمشاركة فى وضع السياسات العامة للدولة، ولكنه يختار المرشح الذى يتواجد فى الدائرة ويمكن الوصول إليه وقت الاحتياج والذى يقدم خدمات شخصية للمواطنين فى تعاملاتهم مع جهات الحكومة والحصول على الخدمات، لأن المواطن العادى لا يستطيع وحده أن يحصل على احتياجاته استنادا إلى حق المواطنة، ولكنه يحصل عليها فقط بالواسطة أو بالرشوة أو بتدخل شخصية لها نفوذ، ومهما قلنا إن عضو مجلس الشعب لا يمثل أهل الدائرة وحدهم وإنه يمثل الامة كلها ويتحدث باسمها ويعمل على تحقيق المصلحة العامة، ومهما قلنا إن عضو مجلس الشعب ليس منتخبا للحصول على تأشيرات من الوزراء لأبناء الدائرة وإن مهمته مناقشة التشريعات والخطة العامة والموازنة والرقابة على الحكومة، مهما قلنا ذلك فإن المواطن لا يعنيه إلا النائب. الذى يساعده فى الحصول على مسكن، أو وظيفة، أو الحصول على العلاج فى المستشفى.
كذلك فإن بعض المرشحين المنشقين عن الحزب الوطنى أرادوا الفوز بأية طريقة مشروعة أو غير مشروعة ليثبتوا لقيادات الحزب أنهم كانوا الأحق بالاختيار، وقد أشار إلى ذلك وزير الزراعة المهندس أحمد الليثى المرشح فى إحدى دوائر محافظة البحيرة وقال إن بعض المنشقين عن الحزب الوطنى يستخدمون المال فى شراء الأصوات.
والخلاصة أن الظواهر السلبية المزعجة فى هذه الانتخابات هى فيما يبدو الغريبة او الثمن الذى لابد أن نتحمله فى هذه المرحلة، مرحلة الانفتاح الديمقراطى والإصلاح السياسى، لأن الانتقال إلى الديمقراطية الكاملة ليس عملية سهلة، وفى كل الدول مرت عملية الوصول إلى الديمقراطية بما يشبه آلام المخاض، والديمقراطية لا تتحقق بقرار، ولا بالتصريحات والخطب، ولكنها درجة من درجات النضج السياسى والاجتماعى، تتحقق عندما يصل المجتمع إلى درجة النضج التى تؤهله لذلك.
ومعنى ذلك أن علينا أن ننظر إلى سلبيات هذه الانتخابات على أنها مجرد مرحلة نرجو ألا تتكرر، وأن تكون الانتخابات بعد ذلك أكثر نضجا ورشدا وتعقلا، وبالطبع لن يحدث ذلك بدون عمل سياسى واجتماعى وإعلامى وتربوى.
ونرجو ألا تستمر حالة الاسترخاء التى تؤدى إلى تزايد هذه الظواهر السلبية، فإن نظرية الاعتماد على أن الزمن وحده كفيل بالإصلاح نظرية غير صحيحة، فلكل ظاهرة أسباب تؤدى إليها، وعلينا أن نهيئ الأسباب للظواهر الإيجابية، ونكف عن إلقاء اللوم على غيرنا.
وعلينا أن ندفع ثمن الديمقراطية على ألا نستمر فى الدفع أكثر من ذلك.