بناء التوازنات الاجتماعية بالدستور
مصر الآن فى مرحلة تحول كبرى من نظام سياسى شمولى إلى نظام ديمقراطى، ومن نظام اقتصادى اشتراكى إلى نظام اقتصاد السوق. وهذه المرحلة هى لحظة الولادة للنظام الجديد.. يعانى فيها المجتمع من آلام وتقلصات، وقلق، وانتظار لما سيكون عليه المولود الجديد.
وتعديل الدستور تعديلا شاملا سوف ينهى هذه الآلام والتقلصات والقلق إذا حدد لنا صورة واضحة وكاملة لما سيكون عليه البلد، وإذا قضى على التناقضات القائمة بين ما فى الدستور الحالى من نصوص المفروض أن تكون ملزمة لجميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية
ومع ذلك فإن هذه النصوص لا تطبق ولم تعد ملزمة لهذه السلطات، بل بالعكس أصبح ملزما لها أن تتجاهلها وتفعل عكسها، وهذا التناقض كان له آثاره السلبية العديدة وقد آن له أن ينتهى.
من هذه الآثار السلبية مثلا أن كثيرا من نصوص الدستور- وهو القانون الأعلى للبلاد- لم تعد موضع الاقتناع ولا تلبى توقعات الناس وتطلعاتهم المشروعة، كما أنها لم تعد قادرة على بناء التوازنات بين القوى الاجتماعية الجديدة وسائر المواطنين على أساس من العدل، ومن هنا فإن الإصلاح الدستورى هو البداية الحقيقية للإصلاح فى جميع المجالات. الدستور هو الذى يحدد الطريق والأهداف والمبادئ التى يسير عليها العمل الوطنى، وانتهاء حالة الغموض والترقب يتوقف على معرفة الناس ما لهم وما عليهم وما سيحدث غدا وبعد غد بلا ارتجال أو مفاجآت وبذلك يتحقق الاستقرار فى المجتمع.
الهوة واسعة بين الدستور الحالى والحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى استجدت.. الدستور يتحدث عن أشياء بينما مؤسسات الدولة تفعل أشياء أخرى. وهذه بعض الأمثلة.
الدستور الحالى يتبنى شعار (الحرية والاشتراكية والوحدة) وصيغة (تحالف قوى الشعب العاملة) والمادة (12) تنص على أن واجب المجتمع مراعاة (السلوك الاشتراكى) والمادة (23) تحدد نظام الدولة الاشتراكى الذى يقوم على التخطيط المركزى الشامل لتنظيم الاقتصاد القومى وتلزم الدولة بوضع حد أعلى للأجور، والمادة (24) تلزم بسيطرة الشعب على (كل) أدوات الإنتاج، والمادة (30) تلزم الدولة بدعم القطاع العام بحيث يقود (جميع) المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية فى خطة التنمية، والمادة (37) تلزم الدولة بإقامة سلطة تحالف قوى الشعب العاملة على مستوى القرية، والمادة (56) تلزم النقابات والاتحادات بدعم السلوك الاشتراكى وتلزم المادة (59) الدولة والمواطنين بحماية المكاسب الاشتراكية ودعمها والحفاظ عليها، وتلزم المادة (73) رئيس الجمهورية بحماية المكاسب الاشتراكية، وتلزم المادة (194) مجلس الشورى بحماية تحالف قوى الشعب العاملة والمكاسب الاشتراكية وتعميق النظام الاشتراكى الديمقراطى وتوسيع مجالاته، وحتى القوات المسلحة فإنها ملزمة بالمادة (180) على حماية مكاسب (النضال الشعبى الاشتراكى).
هل هذه النصوص يمكن أن تلزم سلطات الدولة فى الوقت الحاضر؟ وهل من المستساغ أن تخالف سلطات الدولة الدستور وهو أعلى قانون فى البلاد ويجب أن يكون فوق جميع القوانين وجميع السلطات، وكل قانون، وكل إجراء، يخالف الدستور يكون باطلا بل يكون بالتعبير القانونى (منعدما) أى كأن لم يكن.
دستورنا يحدد الطريق ونحن نسير فى عكس الاتجاه. فالسياسة التى تسير عليها الدولة هى بيع القطاع العام، وتمكين القطاع الخاص من الحلول محله.. لذلك فإن التعديل سوف يضع الأمور فى نصابها، ويقضى على الحيرة والتناقض بين النصوص والواقع، وقد نبه إلى ذلك كثير من الباحثين. ويضيف رجال الفقه الدستورى مسألة أخرى فى منتهى الأهمية، وهى أن مصر وقعت على الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وهذه المعاهدات ملزمة للدول التى انضمت إليها، وحقوق الإنسان من الأمور التى لا يجوز تقييدها بالقوانين أو القرارات أو الإجراءات، وهذه المعاهدات تنص على تحريم التعذيب، وإباحة حرية العقيدة، وحرية الرأى، وحرية التعبير، وحرية التجمع دون أية قيود إلا المحافظة على الأمن العام وحقوق الآخرين. ولابد أن تدخل نصوص هذه المعاهدات فى الدستور للقضاء على الفجوة بين ما التزمت به مصر فى هذه المعاهدات وما تلزم به السلطات بالدستور. والمفكر الكبير الراحل الدكتور إبراهيم شحاتة كان يكرر أن إطلاق الحريات بنصوص محددة وقاطعة فى الدستور هو المقصود بالإصلاح السياسى، بحيث لا يؤدى ذلك طبعا إلى الفوضى، وعلى ذلك فإن الحكمة تقضى بأن يكون الانتقال إلى مناخ الحريات الواسعة على النمط المعروف فى الديمقراطيات المغربية تدريجيا، على ألا يضع الدستور قيودا على الحريات ومن الأفضل أن يضع الدستور ضمانات لممارسة هذه الحريات دون استجابة للأصوات التى تحذر من أن إطلاق الحريات سيؤثر على الأمن، لأن الحقيقة أن القيود والشعور بالحرمان من الحقوق والحريات هما الخطر على الأمن، وكل الدول الديمقراطية تضع الإطار القانونى الذى يعاقب الخارجين على القانون مع إطلاق الحرية والكرامة لعامة الناس.
وفى الدستور الحالى نصوص تبدو غيرقابلة للتطبيق، وعلى سبيل المثال نص المادة (13) التى تقرر أن العمل حق تكلفه الدولة، والدولة الآن تعلن أنها ليست ملتزمة بأن تكفل العمل لكل مواطن، والمادة (17) التى تنص على أن تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعى والصحى ومعاش العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا، وهذا النص لم ينفذ فيما يتعلق بمعاش البطالة وشمول التأمين الصحى والتأمين الاجتماعى لسائر المواطنين كما يقضى الدستور، وتنص المادة (57) على أن كل اعتداء على الحرية الشخصية، أو على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين أو على الحقوق والحريات العامة الواردة بالدستور، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية عنها بالتقادم، كما تنص أيضا على أن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء. وهذا الشق لا ينفذ ولا تتحمل الدولة بالتعويض العادل لكل من يقع عليه اعتداء على حريته الشخصية أو على حرمة حياته الخاصة، أو على حق من حقوق الإنسان.
والمفكر الكبير الراحل الدكتور إبراهيم شحاتة ظل لسنوات ينبه إلى أن الدستور الحالى فيه تفاصيل ليس محلها الدستور وليس لها مثيل فى دساتير الدول الديمقراطية. وربما كان السبب فى ذلك أن الدستور وضع سنة 1971 فى وقت كان الرئيس السادات يعمل على القضاء على مراكز القوى، كما نبه إلى أن فى الدستور نصوصاً تفترض وجود نائب لرئيس الجمهورية دائما، فالمادة (82) تلزم فى حالة قيام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته أناب عنه نائب رئيس الجمهورية. والمادة (85) تنفى فى حالة اتهام رئيس الجمهورية يتولى نائب رئيس الجمهورية رئاسة الجمهورية مؤقتا لحين الفصل فى الاتهام،ومن الطبيعى ألا تظهر الحاجة إلى تنفيذ هاتين المادتين الآن، ولكن الدستور يوضع للتطبيق فى المستقبل، ووجود المادتين مع عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية يعنى عدم إمكان سريانهما، وبذلك تكون مثل هذه النصوص مجرد عبارات غير قابلة للتطبيق. ولابد أن يحدد الدستور ويحسم مسألة نائب رئيس الجمهورية، فإذا نص الدستور على وجوب انتخاب أو تعيين نائب لرئيس الجمهورية يمكن بقاء المادتين، وإذا بقى الحال على ما هو عليه بأن يكون وجود نائب الرئيس جوازيا وليس وجوبيا فإن ذلك يلزم بتعديل المادتين والنص على من يتولى سلطة رئيس الجمهورية فى الحالتين المنصوص عليهما.
هذه بعض القضايا التى يثيرها البحث عن تعديل الدستور لإزالة الزوائد والتناقضات والنقص فى الدستور الحالى، ولتحقيق التوازنات الاجتماعية بين فئات وطبقات المجتمع، خاصة مع نمو طبقة الرأسمالية وتزايد دور الاحتكار واستمرار الاستقطاب الاجتماعى الذى يؤدى إلى أن يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقراً، ولابد من نصوص ملزمة فى الدستور لتحقيق العدالة الاجتماعية ووضع ضمانات واضحة ومحددة لحماية الفقراء، وإلزام الدولة بأن تضع القواعد والنظم لمنع الاحتكار ليس بمجرد إصدار قوانين فقط، ولكن بتنفيذها بمنتهى الحسم والدقة كما يحدث فى الدول التى تطبق اقتصاد السوق. ذلك لأن الرأسمالية بطبيعتها لا تهدف إلا إلى تحقيق أكبر قدر من الربح فى أسرع وقت، فإذا تركت لها الساحة الاقتصادية خالية بدون قيود وضوابط يكون ذلك فرصة للفساد والاحتكار، وهذا ما حدث ويحدث فى دول أخرى كثيرة. لذلك فإن الدستور يجب أن يضع الضمانات لعدم ظهور الرأسمالية المستغلة، وقد كان الاستغلال وسيطرة رأس المال على الحكم من أسباب قيام ثورة 23 يوليو. وأمامنا الفرصة الآن فى تعديل الدستور لحماية المجتمع وحماية الرأسماليين أيضا من أنفسهم.
وهكذا نرى أن تعديل الدستور ليس مهمة سهلة، وأنه يحتاج إلى وقت للبحث الهادئ المتأنى، ولفتح الباب لحوار يشارك فيه المفكرون والمتخصصون فى العلوم الاجتماعية والسياسية وفى القانون الدستورى، وتشارك فيه أيضا الأحزاب ومراكز البحوث والجامعات.. فالدستور هو الإطار الذى يحكم الحاضر والمستقبل... ونريده أن يحقق آمال وتطلعات الشعب المصرى ليكون صفحة ناصعة فى تاريخ حكم مبارك.