بيت حانون ليست آخر الأحزان!
أثارت مذبحة بيت حانون مشاعر الشعوب العربية، وعبرت الصحف الأوربية- وحتى بعض الصحف الأمريكية- عن إدانتها الوحشية التى تتعامل بها إسرائيل مع الشعب الفلسطينى. لقد فتحت المدفعية الإسرائيلية نيرانها عشوائيا فقتلت 19 فلسطينيا معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، ودمرت بيوتهم وحولتها إلى أنقاض، وأعادت بذلك ذكرى عشرات المذابح التى قتلت فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وسوف تعقبها مذابح أخرى.. بيت حانون لن تكون الأخيرة ما دامت الولايات المتحدة تقف وراء اعتداءات إسرائيل بالتأييد والتبرير، ومادام مجلس الأمن عاجزا بسبب الفيتو الأمريكى، ومادامت أوربا لا تقدم سوى التصريحات والمواساة والألفاظ المعسولة بسبب الضغط الأمريكى عليها.
الشعب الفلسطينى يتعرض للإبادة الجماعية. كل يوم غارة إسرائيلية تقتل وتهدم. جيش إسرائيل تحول إلى فرق اغتيال. وزراء الحكومة الإسرائيلية يعلنون دون خجل أنهم يأمرون القوات بالقتل العمد، ولا يجدون إدانة من المجتمع الدولى على هذه الجرائم. والغريب أن الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش أعلن أن ما تقوم به إسرائيل هو عمليات للدفاع عن النفس- والرئيس بوش هو الذى أعلن بعد 11 سبتمبر 2001 الحرب الصليبية، وهو الذى أمر بإمداد إسرائيل بأسلحة حديثة محرمة دوليا استخدمتها إسرائيل ضد الشعب اللبنانى.. قنابل فسفورية حارقة، وقنابل عنقودية تنفجر داخل جسم الإنسان وتمزقه، وقنابل الأعماق التى تدمر مسافة عشرة أمتار تحت الأرض، وقنابل ثقيلة لتدمر المنشآت والبيوت.. كل الأسلحة المحرمة دوليا تحصل عليها إسرائيل من الترسانة الأمريكية وتستخدمها وتهدد بها العرب.
الحكومة الإسرائيلية أعلنت أكثر من مرة أنها تحصل على الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية، وقبل كل جريمة أو بعدها يسافر رئيس الوزراء الإسرائيلى ليلتقى بالرئيس الأمريكى ونائبه ووزيرى دفاعه وخارجيته.
والضوء الأخضر يعطى إسرائيل الإذن بهدم القرى والأحياء والبيوت، ومحطات المياه، والكهرباء، والصرف الصحى، والمطارات، والكبارى، والطرق، وكلها أهداف مدنية.. حدث ذلك فى لبنان وتحولت قراها وأحياء من العاصمة بيروت إلى أنقاض.. وحدث ذلك ويحدث فى الأراضى الفلسطينية.. وجاء رد فعل الرئيس بوش فى تصريح قال فيه إنه يتألم لفقد أرواح المدنيين! فقط لا غير!.. وعندما قصفت إسرائيل القوات الدولية على الحدود اللبنانية لم تتحرك الإدارة الأمريكية، لأنها هى التى جعلت إسرائيل دولة مارقة خارجة على الشرعية الدولية، وعلى القانون الدولى الإنسانى، وأباحت لها ارتكاب جرائم حرب دون محاسبة أو عتاب، واعتداء إسرائيل على قوات الأمم المتحدة ليس جديدا..
وحتى عندما أرادت الدول العربية حفظ ماء الوجه وذهبت إلى مجلس الأمن بمشروع قرار لإدانة مجزرة بيت حانون ومطالبة إسرائيل بالتوقف عن عدوانها ومطالبة الفلسطينيين أيضا بالتوقف عن إطلاق صواريخ الأقسام (التى لا تصيب هدفا ولا تؤذى أحدا وهى مجرد تعبير رمزى عن إرادة المقاومة ورفض الاحتلال) استخدمت الولايات المتحدة الفيتو لمنع صدور القرار، وبذلك أعلنت أنها تؤيد قيام إسرائيل بمجازر جديدة ضد الفلسطينيين، وتعتبر ذلك من حق إسرائيل، وتطلب من الفلسطينيين أن يستسلموا للقتل دون اعتراض ودون تعبير عن الغضب.. هذه هى العدالة الأمريكية..والديمقراطية الأمريكية.. والقيم الأمريكية التى يتحدث عنها الرئيس بوش كثيرا!!
الولايات المتحدة- وإسرائيل- لا تبدو منها أية بادرة تدل على الاهتمام بموقف الدول العربية وكأن الدول العربية ليست فى حساباتهما، وقد اجتمع وزراء الخارجية العرب فى الجامعة العربية لإعلان موقف موحد إزاء هذه السياسة الإسرائيلية العدوانية التى لا تريد أن توقف عدوانها، فماذا أسفر عنه اجتماعهم؟ أعلنوا أن الفيتو الأمريكى يدل على موقف (غير ودى) إزاء الدول والشعوب العربية، وأن الولايات المتحدة بذلك تمنع مجلس الأمن من أداء دوره وتحمل مسئولياته، وأن هذا الموقف يحمل رسالة تشجيع لمواصلة إسرائيل لعدوانها، ولا يساعد على إحلال السلام، ويمس مصداقية الأمم المتحدة.. عبارات تصلح لمقال صحفى أو خطبة ولا تعبر عن موقف فيه الجدية الواجبة التى تناسب بشاعة الجرائم الإسرائيلية.. ثم إنهم قرروا عرض موضوع المجزرة على الجمعية العامة للأمم المتحدة وهم يعلمون أن قرارات الأمم المتحدة تضرب بها الولايات المتحدة وإسرائيل عرض الحائط وفى سجلات الجمعية العامة عشرات القرارات من الإدانة والرفض لاعتداءات إسرائيل والتأكيد على الحقوق الفلسطينية، وكل هذه القرارات ألقى بها فى سلال المهملات ولم تعد لها قيمة إلا فى الخطب الرسمية لإظهار أن الدول العربية تتحرك لحماية الشعب الفلسطينى.
القرار الوحيد الذى يمكن أن تكون له قيمة هو قرار وزراء الخارجية العرب بالمطالبة بإرسال قوات دولية تابعة للأمم المتحدة لتوفير الحماية للشعب الفلسطينى، وهذا المطلب يحتاج إلى إرادة سياسية من جميع الدول العربية وممارسة الضغوط على جميع الأطراف بكل ما لدى العرب من أوراق، وإذا لم يفعلوا ذلك فسوف ينتهى به الحال إلى النسيان ويعتبر كلاما مما اعتادت الحكومات العربية أن تعلنه لتهدئة شعوبها وامتصاص غضبها!
أما قرار وزراء الخارجية بالمطالبة بعقد دورة طارئة لمجلس حقوق الإنسان لبحث الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين فهو مطالبة بورقة جديدة لإدانة إسرائيل صدرت قبلها عشرات القرارات من جميع منظمات حقوق الإنسان وإسرائيل دولة لا تعرف الخجل ولا تعترف بحقوق الإنسان للفلسطينيين.. والولايات المتحدة تشجع جمعيات رعاية حقوق الإنسان إذا كانت تحقق أهداف أمريكا فى إثارة المشاكل للأنظمة العربية وتنفيذ سياستها عن (الفوضى الخلاّقة) فى المنطقة تمهيدا لإعادة بنائها وفقا للمواصفات الأمريكية وبما يحقق مصالحها ويحقق أطماع إسرائيل. وأمريكا تؤيد جمعيات رعاية حقوق الحيوان ولكنها ترفض الاعتراف بحقوق الإنسان الفلسطينى. بدليل حرب التجويع التى تفرضها على الفلسطينيين، والقبول بسياسة التطهير العرقى والعقاب الجماعى التى تنفذها إسرائيل.
كانت الإدارة الأمريكية فى وقت من الأوقات تدعى أنها الوسيط النزيه بين العرب وإسرائيل للتوصل إلى سلام شامل وعادل يحقق الأمن لجميع الأطراف ويضمن الاستقرار لدول المنطقة ويقضى على السبب الرئيسى للتوتر والعنف والإرهاب فيها.
وفى يوم من الأيام جاء الرئيس الأمريكى إلى شرم الشيخ، ووقف على شاطئ البحر أمام الميكروفونات والكاميرات وقال أمام العالم:
أنا جورج دبليو بوش أتعهد شخصيا بالعمل على إقامة دولتين: دولة فلسطينية، ودولة إسرائيلية، تعيشان جنبا إلى جنب فى سلام بنهاية عام 2005، وعمت الفرحة أنحاء العالم، وهتف العرب: تعيش أمريكا ويعيش بوش. ولما جاءت نهاية عام 2005 وقف الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش وأعلن-دون أدنى شعور بالحرج-أن الوعد لن ينفذ قبل نهاية 2008 أى بعد انتهاء ولايته ومغادرته البيت الأبيض إلى الأبد!
قد يحدث لقاء بين رئيس الوزراء الإسرائيلى والرئيس الفلسطينى وتعتبر إسرائيل أن ذلك هو غاية المنى، وأن كل ما جرى قبله يجب أن ينساه العرب ويفتحوا صفحة جديدة.. وفى الصفحة الجديدة سوف ترتكب إسرائيل مجازر جديدة.
وقد يحدث تحرك أمريكى لامتصاص غضب العرب، فتدعو إلى إجراء مباحثات-فى مؤتمر دولى أو إطار الرباعية أو فى صيغة أخرى-ويعلن الجميع استئناف (عملية السلام) وتستمر المباحثات.. وتستمر (العملية) دون أن تتوصل إلى شىء كما حدث خلال العشرين عاما الماضية.. لأن الموقف الأمريكى كما أعلنه الثعلب الأمريكى العجوز هنرى كيسنجر صانع الإستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط هو أن تصبح (عملية السلام)، هى الهدف وليس (السلام).. أى أن تكون عملية السلام هى كل ما يحصل عليه العرب ولن يحصلوا على السلام. وتستمر المباحثات واللقاءات والوعود والاجتماعات ولا شىء بعد ذلك.. لماذا؟ لأن أمريكا وإسرائيل تريدان أن يستمر العالم العربى فى حالة التوتر والانشغال بالصراع العربى الإسرائيلى وآثاره، فتشعر الأنظمة العربية بحاجتها إلى مساندة أمريكا لها لكى تبقى فى مواجهة غضب الشعوب، ولا تجد هذه الحكومات فرصة لالتقاط الأنفاس للمضى فى التنمية وتحسين الأوضاع المعيشية لشعوبها، ولكى يتم استنزاف الأموال العربية فى شراء الأسلحة من أمريكا بالمليارات، ولإعطاء إسرائيل الفرصة لتحقيق مشروعها فى التوسع والهيمنة.
لقد طالبت الكويت فى اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير بأن توقف الدول العربية عملية التطبيع مع إسرائيل إلى أن تتوقف عن ارتكاب المجازر ويتحقق السلام.. فلا تطبيع فى ظل العدوان والعداء.. لا تجتمع الصداقة والعداوة معا فى وقت واحد.. إن أمريكا وإسرائيل تطالبان العرب بقبول ذلك وهو أمر مستحيل لا يقبله عقل أو منطق.
هل تجد الكويت من يأخذ مطلبها بجدية أو يلتزم بتنفيذه على فرض أن أصبح ذلك قرارا.. وهناك قرارات كثيرة مماثلة سبق إعلانها؟