ماذا يريد بابا الفاتيكان؟
حاولت أن ألتمس عذرا لبابا الفاتيكان بندكت السادس عشر عن عبارات الإساءة إلى العقيدة الإسلامية وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتبنيه للأكاذيب التى كان يرددها أعداء الإسلام التقليديون منذ قرون، فلم أجد له عذرا. كان بابا الفاتيكان يلقى محاضرة مكتوبة ومعدة قبل إلقائها بشهور. ومنصب بابا روما له قداسة وتأثير على مليار و200 مليون مسيحى فى أنحاء العالم، ولذلك فهو عادة لا يقول كلمة إلا بعد دراستها مع مستشاريه وهم كثيرون، فكل كلمة مقصودة ومحسوبة، وفيها رسالة إلى العالم المسيحى من الزعيم الروحى للمسيحيين الكاثوليك فى العالم.
كانت المحاضرة فى ألمانيا، والبابا ألمانى، وكان أستاذا لعلوم اللاهوت فى جامعة ألمانية أى أنه على علم بعقائد الأديان جميعا، وعلمه ليس مقصورا على العقيدة المسيحية وحدها. كان موضوع المحاضرة عن الدين والعقل، وكان البابا يحاول إثبات أن العقيدة المسيحية تتفق مع طبيعة العقل، وهذا واجبه، ومن الطبيعى أن يرى فى المسيحية جميع الفضائل، فكل مؤمن بدين يعتقد أن دينه هو الأفضل. وإلا لما كان يؤمن به.. ولكن ذلك لا يعطيه الحق فى أن يكون عدوانيا تجاه الديانات الأخرى فيهاجم دينا يؤمن به مليار و200 مليون مسلم ويشوه مبادئه بالباطل.
ما فعله البابا أنه أقحم على سياق المحاضرة إشارة إلى حوار دار بين إمبراطور بيزنطى وبين مفكر مسلم فى القرن الرابع عشر، ونقل ما قاله الامبراطور البيزنطى فى الهجوم على النبى الكريم وعلى الدين الإسلامى، ولم يذكر ما قاله المفكر المسلم دفاعا عن الإسلام، وقال البابا إنه قرأ هذا الحوار فى كتاب لمؤلف ألمانى هو تيودور خورى وهو مشهور بأنه من أشد أعداء الإسلام ومؤلفاته هى الوقود لموجات العداء للإسلام فى ألمانيا وفى الغرب عموما. والفقرة التى اختارها البابا تقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يأت إلا بما هو شرير ولا إنسانى، وإنه نشر الدين الإسلامى بحد السيف، وإن الآية (لا إكراه فى الدين) ترجع إلى الفترة التى كان المسلمون فيها فى مكة فى حالة ضعف ويتعرضون للأذى من أهل مكة، وأن موقفهم اختلف بعد أن أصبحوا قوة فتحولوا إلى العنف والعدوان.
موقف البابا لا يمكن تبريره لعدة أسباب:
أولا: إن الآية (لا إكراه فى الدين) نزلت فى المدينة وليس فى مكة، وكان نزولها فى وقت كان الإسلام فيه قد أسس دولة مستقرة وكان الداخلون فى دين الله أفواجا، ولا يمكن أن يعتمد أستاذ جامعى يعرف أصول المنهج العلمى، وأكبر زعيم روحى فى العالم نصا دون التأكد مما سيقوله عنه. وما كان أسهل ان يفتح المصحف ليعرف أين ومتى نزلت هذه الآية، أو يفتح أحد كتب التفسير المعتمدة ليعرف متى نزلت وأسباب نزولها، ومكتبة الفاتيكان فيها عشرات الآلاف من الكتب والمراجع عن كل ما يتعلق بالديانات السماوية وغير السماوية.
ثانيا: لا يمكن أن يكون البابا -صاحب القداسة، ممن يسيئون فهم حقيقة الجهاد فى الإسلام ليردد قول المرجفين بأنه يعنى استخدام العنف وإباحة سفك دماء غير المسلمين، وكان فى إمكانه أن يسأل من يدله على المبدأ الذى يحكم القتال فى الإسلام كما فى الآية: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين) البقرة (190) ولا بد أنه يعرف رأى الأستاذة البريطانية المشهورة كارين أرمسترونج التىظلت سبع سنوات من حياتها راهبة كاثوليكية ثم تركت الرهبنة وتفرغت لدراسة الأديان بروح علمية محايدة، ولم تعتنق الإسلام، ولكنها قالت كلمة الحق عنه بقولها: (إن مفهوم الجهاد فى الإسلام إنه كفاح وجهد وليس حربا مقدسة كما يحلو للغربيين وصفه، إنه جهد فى جميع مجالات الحياة الروحية، والسياسية، والاجتماعية، والشخصية، والعسكرية، والاقتصادية ويتأكد ذلك من قول نبى الإسلام بعد فتح مكة: انتهينا من الجهاد الأصغر (الحرب) إلى الجهاد الأكبر (جهاد النفس). وهناك باحثون غربيون آخرون تولوا شرح حقيقة الجهاد فى الإسلام وذكروا أنه حرب دفاعية ضد الذين يحاربون المسلمين.
ثالثا: إن البابا بندكت اختار لهجومه على الإسلام التوقيت الذى يوافق اليوم التالى لذكرى 11 سبتمبر التى يتهم المسلمون بسببها بأنهم إرهابيون ويتعرض فيه الإسلام لحملة تشويه لا مثيل لها، يقودها رجال دين ورجال سياسة وقادة دول وسبق أن أعلن الرئيس بوش الحرب الصليبية، ثم اتهم المسلمين بأنهم فاشيون. والبابا يعلم ويتابع ما يتعرض له المسلمون فى الولايات المتحدة ودول أوربا من تمييز واضطهاد ومضايقات، وكأنه بإعلان موقفه من الإسلام أراد أن يدخل هذه المعركة بكل ثقله الروحى بل السياسى حتى أن بعض المحللين قالوا إنه أراد أن يدخل التاريخ على أنه البابا الذى حارب الإسلام كما دخل سلفه البابا يوحنا بوس الثانى التاريخ على أنه البابا الذى حارب الشيوعية وكان لدوره تأثير كبير فى انهيار الاتحاد السوفيتى. كما قال البعض إنه اختار لنفسه اسم بندكت لأنه كان اسما لأحد البابوات الذين شاركوا فى الحملات الصليبية كما كان اسما لبابا آخر قاد عمليات التبشير والتنصير فى أنحاء العالم. والبعض قال إن البابا بندكت كان فى مرحلة شبابه الأولى عضوا فى منظمة شبيبة هتلر النازية وتعلم منها نظرية تفوق عنصر معين على سائر البشر، والبعض قال إن البابا اختار هذا التوقيت لأن الإسلام ينتشر فى الولايات المتحدة وأوربا فى هذه الفترة أكثر من أى وقت آخر وهذا ما أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس فى زيارتها الأخيرة للقاهرة حيث قالت إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشارا الآن. فأراد أن يبعث الخوف والكراهية من الإسلام لدى الراغبين فى اعتناقه.
رابعا: إن البابا بندكت أراد أن يغلق الباب أمام المطالبين باعتذار الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها فى قيادة الحروب الصليبية على العالم الإسلامى وما سببته هذه الحروب من خسائر فى أرواح آلاف المسلمين فضلا عن احتلال بلادهم واغتصاب ثرواتهم. وليس هناك من يفكر أنها لم تكن حربا من أجل الصليب ولكنها كانت من أجل الاستعمار. كذلك أراد البابا أن يكون إعلانه لموقفه من الإسلام مقدمة لزيارته المقررة إلى تركيا ورفضه لانضمام تركيا إلى حلف الأطلنطى لأنها دولة مسلمة (!).
خامسا: إن هجوم البابا بندكت على الإسلام فتح الباب على مصراعيه لحملات هجوم جديدة شرسة على الإسلام، وعلى سبيل المثال فإن أسقف كانتربرى السابق اللورد كارى تراجع عن موقفه السابق الذى أعلنه فى لقائه فى لندن وفى القاهرة مع الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى من احترام للعقيدة الإسلامية ورغبة فى الحوار بين الكنيسة البريطانية والأزهر على أساس أن المسيحية والإسلام كلاهما دين يعبد إلها واحدا وكلاهما يؤمن بالتسامح وبالسلام ويرفض العدوان والكراهية، ولكنه بعد حديث البابا أعلن أن الصراع بين الحضارات الذى يهدد العالم ليس بين الغرب والمتطرفين الإسلاميين ولكنه مع الغرب والإسلام ذاته، وفى محاضرة ألقاها فى جامعة نيوبولد البريطانية بعنوان (الصليب والهلال: الصدام بين الأديان فى عصر العلمانية) وصف الإسلام بأنه دين يدعو المؤمنين به إلى ممارسة العنف، وقال إنه لن يكون هناك نمو اقتصادى وحضارى فى الدول الإسلامية بسبب العقل المسلم الذى يؤمن بمفاهيم وشعارات يقدسها تعرقل التقدم والتحديث، وقال إن نظرية صراع الحضارات صحيحة، وأن مشكلة الغرب الرئيسية مع الإسلام ذاته باعتباره حضارة مختلفة يعتقد أصحابها فى تفوق ثقافتهم لكنهم يعانون من نقص قوتهم، وقال أيضا إن خوف المسلمين من الغرب أصبح مرضا أسماه (ويست مونبيا) وأن هذا المرض متأصل فى العالم الإسلامى لكنه ازداد خلال السنوات القليلة الماضية، وبذلك قلب الحقيقة وهى انتشار الخوف من الإسلام فى الغرب (الإسلاموفوبيا).
سادسا: على الجانب الآخر تصدى مفكرون محترمون فى الغرب للبابا واستنكروا موقفه بشدة، وعلى سبيل المثال فإن الكاتب البريطانى جوناثان فريد لاند هاجم البابا فى مقال فى صحيفة الجارديان قال فيه إنه كان عليه ان يعرف أشياء أكثر عن الإسلام قبل إقراره لنظرية حرب العقائد. إن البابا بما قاله انضم إلى ركب أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة فى اقحام الصراع السياسى الراهن فى صراع الحضارات، وقال أيضا: إن البابا انتهك اتفاق القيادات الدينية بعدم انتقاد الأديان.
وكان المثير فى المعركة التى أثارها البابا بندكت أن بعض كبار رجال الدين اليهودى وكبار المثقفين الإسرائيليين انتقدوا موقف البابا: فقد هاجم البابا حاخام اليهود الشرقيين (شلوموعمار) وقال إن كلامه تجاوز ويثير حربا دينية، وكتب الحاخام شلومو ذلك فى رسالة بعث بها إلى الشيخ يوسف القرضاوى، وقال أيضا فى رسالته: (إننا كرجال دين اعتدنا على احترام الأديان وأنا استشهد بكلمات الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) فى هذا السياق.. وحتى عندما تكون هناك صراعات بين الشعوب يجب أن نحرص على تهدئة الأجواء وليس إثارة الحروب الدينية. وقال حاخام المستوطنات الإسرائيلية (مناحم برومان) إن كل يهودى يعرف أعمال أجداد اليهود الكبار وفى مقدمتهم موسى ابن ميمون الذين كانوا يعيشون وسط الأمة العربية والإسلامية وشاركوا كبار المفكرين وأصحاب الرأى والفلاسفة المسلمين جهودهم لتفسير كلام الله، وأضاف الحاخام:نحن نعرف أن الحرب بين اليهود والمسلمين هى من أعمال الشيطان الملعونة، ونعرف أن الإسلام يدعو للسلام). وقالت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية إنه من الطبيعى أن يصل الغضب الإسلامى إلى الذروة بسبب أزمة البابا بعد أزمة الرسول الكاريكاتيرية الدنمركية، وأن كلمات البابا بندكت ليست زلة لسان، خاصة أنه قرر منذ شهور إلغاء قسم حوار الأديان فى الفاتيكان, وأعلن أن الحوار مع الإسلام فشل.
أليس أقل واجب على البابا أن يعتذر؟!