دروس أكتوبر الباقيـة
هل تعلمنا من حرب أكتوبر واستفدنا من الدروس التى خرجنا بها من هذه الحرب، أو اكتفينا بنشوة النصر، وتركنا نتائج هذه الملحمة التاريخية العظيمة تتآكل بفعل الزمن والنسيان ومجىء جيل جديد لم يعش مرارة الهزيمة فى 67، ولا قاسى- مثلنا- آلام المخاض بعدها الذى جاء بعقلية جديدة، وبقيادات عسكرية قادرة على إدارة الحرب بفكر عسكرى حديث، وتضيف إلى الاستراتيجية العسكرية ما يعتبر اليوم تجديدا وإضافة لعلوم وفنون الحرب؟.
دروس حرب أكتوبر كثيرة.. إعداد الجيش للحرب.. التخطيط العسكرى الدقيق الذى شهد له الأعداء.. خطة الخداع الاستراتيجى.. الحشد.. المفاجأة.. دقة معلومات المخابرات العسكرية عن المواقع الحساسة للقيادة والاتصالات وعن حشود العدو.. الشجاعة النادرة للضباط والجنود.. وبقية عناصر وأسباب النصر العسكرية، ومن هذه الدروس أيضا وقوف الدول العربية كلها تقريبا إلى جانب مصر وسوريا، ولعل معركة البترول كانت قمة التضامن العربى.
ففى هذه المعركة وقفت الدول العربية صفا واحدا، واتفقت على قرار واحد، وخاطبت العالم بصوت واحد. كانت هناك خطة مصرية لاستخدام البترول كسلاح فى المعركة، وقد بعث الرئيس السادات بهذه الخطة إلى الملك فيصل عاهل السعودية الراحل يوم 10 أكتوبر 1973. وكان موقف الملك فيصل عظيما لا ينسى أبدا بحماسته لهذه الخطة، كما لا يمكن نسيان موقف الشيخ زايد رئيس اتحاد الإمارات العربية الذى أعلن موقفه المؤيد لهذه الخطة قائلاً: إن النفط العربى ليس أغلى من الدم العربى. كذلك كان موقف أمير الكويت الشيخ جابر الصباح. واجتمع وزراء البترول العرب فى الكويت وقرروا أن يبدأ تخفيض إنتاج البترول العربى بنسبة 5% فورا، ثم تخفيض 5% كل شهر إلى أن تنسحب إسرائيل من الأراضى التى تحتلها، كما قررت 6 دول عربية رفع سعر إنتاجها من البترول بنسبة 70%، وقررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول نهائيا إلى الدول التى تؤيد إسرائيل بما فيها الولايات المتحدة.
ودعا الملك فيصل- يرحمه الله- السفير الأمريكى فى السعودية وأبلغه برسالة إلى الرئيس الأمريكى نيسكون قال فيها: إذا استمرت الولايات المتحدة فى مساندة إسرائيل فإن العلاقات السعودية الأمريكية قد تتعرض لمشاكل. وأن السعودية سوف تخفض إنتاجها بنسبة 10% وليس 5% كما قرر وزراء البترول العرب، وأضاف فى رسالته احتمال وقف شحن البترول السعودى إلى الولايات المتحدة إذا تعذر الوصول إلى نتائج سريعة وملموسة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى.
وكان لهذا الموقف أثر عالمى على الاقتصاد والصناعة ومحطات توليد الكهرباء، وعلى المواطنين فى الولايات المتحدة ودول أوروبا وبعض دول آسيا وارتفع سعر البنزين إلى رقم خيالى.. يقول الدكتور جمال حمدان فى كتابه (6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية): (سوف يسجل التاريخ لمعركة أكتوبر فضلا كبيرا على العرب كما سجل العرب فضلا كبيرا عليها، ليس فقط لأنها ضاعفت دخولهم البترولية بصورة صاروخية، ولكن- وهو الأهم- أنها فتحت أمامهم عصر التحرير الاقتصادى على أوسع أبوابه، فلقد كانت المعركة مناسبة وملائمة جدا لأن يحقق العرب استقلالهم الفعلى عن شركات البترول الاحتكارية التى كانت تتولى تحديد أسعار البترول المعلنة وتتلاعب بها تلاعبا فاضحا، هذا عدا ما كانت تفرضه من معدلات ومستويات للأسعار لا ترتبط بالقيمة الحقيقية للسلعة فى السوق العالمية. ولأول مرة فى تاريخ البترول العربى انتزعت الدول المنتجة حق تحديد الأسعار من جانب واحد فارتفع سعر البرميل من دولارين أو أكثر قليلا إلى 14 و15 دولارا، بل إلى 18 دولارا وذلك فى غضون شهرين تقريبا. ومن الناحية الحسابية تضاعفت دخول الدول العربية من البترول عدة أضعاف.. قبل الحرب كان مجموع دخل الدول العربية من البترول يوميا نحو 30 مليون دولار، وبعد الحرب- ورغم القرار العربى بخفض الإنتاج والتصدير بنسبة بين 15% و20% تقريبا- فقد قفز مجموع الدخل اليومى إلى 100 مليون دولار أى أن دخل الدول العربية زاد بعد الحرب مباشرة بنسبة 333% أى أكثر من ثلاثة الأمثال.
لم يكن ذلك ممكنا بدون وحدة الموقف العربى بحيث كانوا كتلة واحدة كان لها أثر كبير فى سياسات الولايات المتحدة وبقية دول العالم. فلماذا تراجعت مكانة العرب ولم يعد لهم قوة التأثير التى ظهرت فى حرب أكتوبر؟ لأن العرب لم يعودوا صفا واحدا أو قوة واحدة، أو كلمة واحدة، نجحت سياسة (فرق تسد) ولعلنا نذكر ما قاله هنرى كيسنجر الثعلب الاستراتيجى الأمريكى الذى كان وزيرا للخارجية فى ذلك الوقت حين قال: إن العرب أعطوا أنفسهم الحق فى استخدام البترول كسلاح وهذا أمر بالغ الخطورة لأنه يعكس نزعتهم إلى محاولة السيطرة علينا.. كما أنهم أعطوا أنفسهم من جانب واحد، ولأول مرة فى التاريخ، حق تحديد أسعاره.. وإذا طبق الحظر على الولايات المتحدة فسوف تكون هذه ضربة لا يمكن قبولها لهيبة ونفوذ دولة ترى نفسها فى مقعد القيادة لشئون العالم.
على الجانب الإسرائيلى كان من النتائج الاقتصادية لهذه الحرب تزايد العجز فى عام 1974 إلى 3 مليارات و400 مليون دولار، وانخفض معدل النمو إلى 4.5 عام 1974 ثم إلى 3% عام 1975، واضطرت الحكومة إلى تخفيض قيمة العملة الإسرائيلية بحوالى 57%، وخفضت مرتبات الموظفين بنسبة تتراوح بين 7% و12%، وقررت زيادة الضرائب، وفرضت ضرائب جديدة، وتحملت 700 مليون دولار فى عام 1974 نتيجة زيادة أسعار البترول، بينما كانت من نتائج الحرب على مصر فتح قناة السويس وإضافة دخلها إلى الدخل القومى، واسترداد حقول البترول ومناجم سيناء، وبدأت مرحلة الانفتاح على الاقتصاد العالمى وجذب الاستثمارات العربية والأجنبية.
هذا جانب واحد فقط لنتائج حرب أكتوبر وهناك جوانب أخرى كثيرة. لا يتسع المقام للحديث بالتفصيل عنها كلها، ولكن الجانب الذى لا يمكن إغفاله أن هذه الحرب أثبتت أن النصر فى الحروب لا يتوقف على ما يملكه كل طرف من أسلحة حديثة وقوة تدمير أكبر، ولكن النصر يتحقق حين تكون القوات المحاربة قد تم إعدادها على أساس علمى سليم، ويتولى قيادتها قادة على درجة عالية من الكفاءة فى التخطيط العسكرى وإدارة المعارك، ويكون المقاتل الفرد متمتعا بروح معنوية عالية وبإيمان بعدالة القضية التى يحارب من أجلها، وهناك نماذج ظهرت فى الحرب حققت معجزات حقيقية مثل الجندى عبد العاطى صائد الدبابات الذى دمر وحده أكثر من عشرين دبابة إسرائيلية بصواريخ (آر. بى. جيه) والجندى محمد المصرى الذى دمر هو الآخر 22 دبابة وأسر أحد القادة الإسرائيليين كان يتولى القيادة فى دبابة دمرها محمد المصرى وخرج الرجل مع جنوده رافعين أيديهم مستسلمين، وحصل محمد المصرى وعبد العاطى على وسام نجمة سيناء.. أعلى وسام فى الجيش المصرى، وهناك أمثلة كثيرة لأبطال تستحق أن تروى قصة بطولة كل منهم لتكون إلهاما للأجيال الجديدة من المصريين والعرب، ومصدرا للثقة بالنفس ولتعميق الولاء والانتماء وحب التضحية من أجل الوطن.
كانت حرب أكتوبر أول هزيمة للجيش الإسرائيلى اعترف بها القادة السياسيون والعسكريون وشكّلوا لجنة (إجرانات) للتحقيق فى أسباب هذه الهزيمة، وكتبت جولدا مائير رئيسة الوزراء كتابا كاملا بعنوان (التقصير) وعاش المجتمع الإسرائيلى فى زلزال.. كيف لم يحقق الجيش الإسرائيلى انتصارا خاطفا وساحقا وكان يقال إنه الجيش الذى لا يقهر؟. بعد ذلك سهّل تكرار الهزيمة فى الحرب التى أعلنها هذا الجيش على لبنان على أمل أن يستعيد مكانته كجيش لا يقهر؟ لكنه انهزم، والجيش الذى يفشل فى تحقيق الهدف السياسى الذى حارب من أجله يكون قد انهزم.. بعد حرب أكتوبر انتهت أسطورة الجيش الذى لا يقهر.. لقد اكتسب المقاتل العربى الثقة بالنفس وبقدرته على التصدى لأعظم دبابة تفاخر بها إسرائيل عالميا، وهى الدبابة (ميركابا) فدمرها وكانت إسرائيل تدعى أن تدميرها مستحيل إلا بسلاح نووى (!) دمرها المقاتل اللبنانى بسلاح محدود القدرة.
أهم دروس حرب أكتوبر التى يجب أن تبقى ماثلة فى الضمير والعقل العربى أن التضامن العربى هو الوسيلة الوحيدة لوصول العرب إلى مكانة دولية يستحقون عندها احترام العالم، وبه يستطيع العرب أن يرفعوا رؤوسهم ويعلنوا إرادتهم ويحققوا الانتصارات فى السلم وفى الحرب، فى السياسة وفى الاقتصاد، ولابد أن يدركوا أن المخطط المرسوم لهم هدفه منع التضامن العربى، وحرمان العرب من مصادر قوتهم، واستنزاف طاقاتهم فى المعارك فيما بينهم، لمنع اتفاقهم على إحياء ميثاق الدفاع المشترك، أو التعاون لإنتاج أسلحة عربية حديثة، أو حتى التعاون لتطوير البحث العلمى لمسايرة التقدم العلمى والتكنولوجى فى العالم.
وحرص العرب على السلام لا يعنى أن يتفرق كل منهم للبحث عن تحقيق مصالحه على ظن بأن كل دولة تستطيع أن تحقق وحدها مصالحها إذا لم تورط نفسها فى اتفاقات جماعية، وقد أثبتت الأيام والأحداث أن هذا التصور خاطئ، ويكفى أن ننظر إلى الحال الذى وصلت إليه كل الدول العربية نتيجة عدم مقاومتها للسياسة الاستعمارية التقليدية القائمة على مبدأ (فرق تسد)، وأن ننظر إلى دول أوربا المتقدمة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا ومع ذلك وجدت أنها لن تستطيع فى عالم القرن الحادى والعشرين دون أن تتوحد وتصبح كتلة واحدة، وسياسة واحدة، وقرارا واحدا، وعملة واحدة، وبرلمانا واحدا، و.. و.. هذا ما نراه فى تكتل مجموعة دول الآسيان فى آسيا..
الوحدة هى السبيل الوحيد للقوة.. لا أحد يتحدث عن الوحدة السياسية كما كان المأمول منذ سنوات وتبدد الحلم وضاع الأمل.. ولا أحد يتحدث عن وحدة اقتصادية.. الحديث الآن فقط عن التضامن.. عن التكامل.. عن التنسيق.. عن إزالة الخلافات.. عن التخلى عن سياسة أنا وبعدى الطوفان والعمل بسياسة لست وحدى ومصالحى مرتبطة بمصالح بقية الأشقاء.. وانتصارى لا يتحقق إلا بهم.. ولهم.. هذا حلم ليس مستحيلا.