المـلف الطبـى لعبـد الناصــــر رحـــلة النهايــة (2)
أصيب عبد الناصر بالجلطة الأولى فى القلب يوم 11 سبتمبر 1969، وكانت جلطة صامتة بدون ألم، ولم يشعر إلا بضيق فى التنفس فى الفجر ولم يستمر هذا الضيق طويلا. وعندما وضع الدكتور الصاوى حبيب الطبيب الخاص للرئيس السماعة على القلب اكتشف الإصابة.. وبدأت مجموعة من كبار الأطباء فى الفحص والتشخيص واتفقوا على برنامج العلاج.. كل ذلك وعبد الناصر لا يعلم حقيقة مرضه.
ولكنه اكتشف الحقيقة عندما وجد مجموعة من العمال يقومون بتركيب مصعد ليستعمله فى الصعود إلى الدور العلوى، وحينئذ اضطر الدكتور الصاوى إلى إبلاغه بالحقيقة ولكن بتحفظ، ثم سأله عن الأشخاص الذين يمكن أن يكشف لهم عن حقيقة المرض والجميع يلحون عليه بالسؤال فحدد له عبد الناصر خمسة أشخاص كان من بينهم أنور السادات ومحمد حسنين هيكل. وبقى الدكتور الصاوى خمسة عشر يوما إلى جوار عبد الناصر مقيما فى حجرة السكرتارية إلى أن جاء الدكتور شازوف أكبر أطباء القلب فى روسيا وطلب عدة أبحاث وتحاليل انتهت إلى تأكيد صحة التشخيص والعلاج.
وكانت تعليمات الأطباء تطلب من عبد الناصر الالتزام بالراحة، وتقليل ساعات العمل، لكنه لم يستسلم لهذه التعليمات وعاد إلى مزاولة نشاطه بالكامل بعد أقل من شهر، وانخرط فى اجتماعات وسفريات متصلة، وظل الدكتور الصاوى يجرى وراءه فى كل مكان ومعه حقيبة الأدوية، وجهاز الضغط، وأنبوبة الأكسجين وهو يبدى شعوره بالقلق بينما عبد الناصر يتجاهل نصائح الدكتور الصاوى ويقول له: ليس هذا هو الوقت المناسب للراحة، ولو قررت تنفيذ تعليماتكم فلا بد أن أترك هذه الوظيفة!
فى أواخر ديسمبر 1969 سافر عبد الناصر إلى الرباط وشارك فى مؤتمر القمة العربى الذى عقد فيها وقضى أياما فى لقاءات ومباحثات مع القادة العرب، ومن الرباط طار إلى الجزائر وأجرى مباحثات مع رئيسها، ثم طار منها إلى ليبيا فى زيارة رسمية مليئة بالاجتماعات والخطب والمقابلات.. ثم طار من طرابلس وبرفقته العقيد القذافى والرئيس السودانى نميرى، والملك حسين، والزعيم الفلسطينى ياسر عرفات، وظلت الطائرة تدور فى الجو عدة ساعات لاستهلاك الوقود استعدادا لهبوط اضرارى فى مطار بنغازى حيث لم يتمكن طاقم الطائرة من انزال العجل.. وامتلأ مطار بنغازى بسيارات المطافى والإسعاف بينما كان عبد الناصر يستكمل مباحثاته مع رفقاء الرحلة، وأخيرا تمكن الطاقم من إنزال العجل يدويا، ولكن كان فى انتظار عبد الناصر فى المطار طوفان من البشر- على حد تعبير الدكتور الصاوى- أحاطوا به وعزلوه عن باقى الركب وعن الضيوف، ووجد الدكتور الصاوى نفسه تائها لا يعرف أين عبد الناصر ولا كيف يصل إليه، وأخيرا وجد سيارة سارت به بصعوبة إلى قصر الضيافة مسترشدة بوصف المذيع فى الإذاعة الليبية لما وصفه بالاستقبال الأسطورى على طول الطريق.. وأخيرا وصل الدكتور الصاوى إلى قصر الضيافة بعد أن قطعت السيارة به ثلاثة كيلو مترات فى ساعتين ونصف الساعة، فوجد عبد الناصر فى اجتماع مع مجلس قيادة الثورة الليبية، ووجد أن هناك برنامجا حافلا للقاءات بعد هذا الاجتماع، وحين اتيح له أن يلمح عبد الناصر بين اللقاءات كان يلاحظ عليه علامات الإعياء ولكن حرارة الاستقبال وكثرة الاجتماعات شغلته عن الإحساس بالإرهاق.
وفى آخر الليل لحق الدكتور الصاوى بعبد الناصر فى حجرة النوم فوجده ممددا على السرير وقال له ضاحكا: هل رأيت ما فعلوه بى؟ وهل تعتقد أننى يمكن أن أنام؟
استغرقت زيارة ليبيا أربعة أيام كانت كلها لقاءات وأحاديث ومحادثات وما كاد يصل إلى القاهرة حتى طار إلى السودان بذل فيها مجهوداً لا يقل عن المجهود الذى بذله فى ليبيا، وعاد من السودان ليجتمع مع مجلس الوزراء، ثم حضر بعد ذلك بقليل المؤتمر الدولى للبرلمانيين، وفى يوم 9 فبراير 1970 رأس قمة دول المواجهة التى حضرها الرئيس السورى نور الدين الأتاسى، والرئيس السودانى جعفر نميرى، والعاهل الأردنى الملك حسين، وفى يوم 12 فبراير حضر قمة دول ميثاق طرابلس فى القاهرة الذى حضره نميرى والقذافى، وفى 25 مايو 1970 سافر إلى السودان لحضور الاحتفال بعيد الثورة السودانية وعقد عدة اجتماعات مع القذافى ونميرى.. كما حضر لقاءات جماهيرية مع حشود من الشعب السودانى وألقى كلمة فى كل لقاء، وبعد لقاءات متواصلة من الصباح إلى المساء عاد إلى القاهرة يوم 29 مايو 1970.
وفى 19 يونيو 1970 سافر عبد الناصر مرة أخرى إلى ليبيا لحضور الاحتفالات بجلاء القوات البريطانية عن قاعدة طرابلس وعاد يوم 22 يونيو ليعقد اجتماعات يومية ويباشر عمله دون مراعاة لحالته، وكان بذلك يستهلك ما تبقى من صحته وكما يقول الدكتور الصاوى: لم يكن فى مقدور أحد أن يفرض عليه تنفيذ توصية جميع الأطباء بأن يلزم الراحة يومين فى الأسبوع.. ويضيف فى هذه الفترة أفلت الموقف تماما وأصبح عبد الناصر يعمل طول الوقت ودون انقطاع، وكان على المسئولين عن صحته أن يواجهوا الصعاب وكأنهم يستطيعون أن يوقفوا أو يقللوا من نشاط رئيس الدولة عندما يزيد على الحد.. ولكنه سافر إلى موسكو فى أول يوليو 1970 ومكث فيها يومين أجرى خلالهما مباحثات مطولة جدا مع القادة السوفيت وبعدهما سافر إلى ضاحية باربيخيا وفيها مصحة للقادة السوفيت وأجريت له التحاليل وقام بفحصه الدكتور شازوف ومعه مجموعة من كبار الأطباء فى تخصصات مختلفة، ووجدوا أن ضعف عضلة القلب مع مرض السكر هما أهم العوامل التى يجب التركيز عليها فى العلاج، ولم يختلف التشخيص والعلاج عما توصل إليه الأطباء المصريون.
بعد عودته من روسيا اقترح الدكتور الصاوى على عبد الناصر أن يعقد الاجتماعات فى الصباح بدلا من عادته فى عقدها فى المساء حيث تستمر الاجتماعات إلى منتصف الليل، كما طلب منه عدم السهر طول الليل فى مقر قيادة القوات المسلحة، ولكن عبد الناصر لم ينفذ ذلك ولم يغير شيئا من نمط حياته.. واستمر فى عقد الاجتماعات، والسفر، والسهر، وعدم أخذ إجازات أو راحات، وهذا ما يسميه الدكتور الصاوى (إدمان العمل) و(إدمان القلق)، مع ظروف حرب الاستنزاف، والضغوط السياسية الخارجية، وملحمة بناء حائط الصواريخ، وهكذا كان عبد الناصر لا يجد فى حياته ما يستحق قضاء الوقت فيه غير العمل.
فى 19 يوليو 1970 قام الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى مع الدكتور الصاوى بفحص شامل ووجدوا علامات الاجهاد فى عضلة القلب وأضافوا بعض الأدوية مع السماح بتمرينات متوسطة. وفى 2 أغسطس وجدوا لغطا خفيفا فى القلب، واجتمع الفريق الطبى مع عبد الناصر فى أغسطس 1970 وأبلغوه أن عضلة القلب لم يظهر عليها التحسن ولا بد أن يخلد إلى الراحة وأن يغير نمط حياته. وقال لهم عبد الناصر كالعادة: معنى ذلك أن أترك هذه الوظيفة.. وخرج الأطباء وهم يشعرون بالقلق لرفض عبد الناصر أن يخفف من مسئولياته، وهم يدركون أن القلب لن يتحمل كل هذا المجهود الجسمانى والعصبى وسيأتى يوم لا مهرب منه لن ينفع فيه الطب ولا الأطباء.. وسافر عبد الناصر إلى مرسى مطروح فاستبشر الأطباء خيرا وحسبوها إجازة، ولكنه عقد فيها مباحثات مع القذافى، ثم اشتعلت الأحداث بين الأردن والفلسطينيين وبدأ عبد الناصر يجرى اتصالات ويتابع الموقف ويرسل مبعوثين عنه للتقريب بين الطرفين، ولكن الأزمة وصلت إلى حد سفك دماء الكثير من الفلسطينيين فبدأ الإعداد لمؤتمر القمة فى القاهرة، وعاد لاستقبال الرؤساء والملوك وإجراء مباحثات مع كل واحد منهم، وانتقل من بيته ليقيم فى فندق هيلتون ليكون قريبا جدا من مكان المؤتمر فى الجامعة العربية.
انتهى المؤتمر وظل عبد الناصر يودع كل واحد من الملوك والرؤساء فى المطار وكان آخرهم أمير الكويت الذى غادرت طائرته الساعة الثالثة بعد الظهر، عاد بعدها عبد الناصر إلى البيت. وفى الساعة الرابعة والنصف استدعى الدكتور الصاوى على عجل، وفى البيت وجد السيدة قرينته خارج حجرة النوم وأخبرته بأنه عاد من المطار وهو يشعر بالتعب وأنها أعطته كوبا من عصير البرتقال، وحين دخل عليه قال له عبد الناصر إنه شعر فى المطار بأن قدميه لا تقويان على حمله. ولاحظ الدكتور الصاوى وجود عرق بارد على جبهته، ووجهه شاحب، والنبض سريع يكاد لا يكون محسوسا وضغط الدم منخفض جدا، ووجد أن الموقف خطير فطلب استدعاء الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى فورا، وأجرى رسم قلب فى الحال، وكان جهاز رسم القلب مع الأدوية والأكسجين فى حجرة المكتب الملحقة بحجرة النوم. وبدأ العلاج فى ذات الوقت، واتفق الثلاثة على وجود جلطة جديدة فى الشريان التاجى، واستمروا فى العلاج ولكن لم يحدث تغيير فى رسم القلب. وبعد لحظات اعتدل عبد الناصر ليفتح الراديو إلى جانبه قائلا إنه يريد سماع خبر فى نشرة أخبار الساعة الخامسة. ولم يذكر ما هو هذا الخبر، وقال إن الخبر لم تذعه الإذاعة وأغلق الراديو، وهمس: أنا دلوقت استريحت يا صاوى، وفوجئ الجميع بأن رأسه يميل فجأة، وفى الحال قام الدكتور الصاوى بفحص النبض فوجده قد توقف، فقام بعمل تنفس صناعى، وتدليك خارجى للقلب، واستمرت المحاولات حوالى ربع ساعة دون جدوى، واتفق الأطباء على عدم فائدة الاستمرار فى المحاولة.
لقد رحل الزعيم بسبب الصدمة القلبية وهى من أخطر مضاعفات انسداد الشريان التاجى.
وجاء من يستدعى الدكتور الصاوى فى الحال لأن السيدة حرم عبد الناصر تعانى من نوبة سرعة ضربات القلب، وظل الدكتور الصاوى إلى جانبها فترة لا تقل عن ساعتين ونصف الساعة إلى أن تحسنت حالتها بالعلاج، ولكن نوبة سرعة ضربات القلب عادت بشدة طوال يوم تشييع الجنازة..
ووجد الدكتور الصاوى نفسه يعانى أيضا من ضيق فى التنفس، ولكنه ظل إلى جانب أرملة عبد الناصر لإسعافها، بينما كان هو نفسه فى حاجة إلى إسعاف!
خرج عبد الناصر من الدنيا.. ودخل التاريخ.