مذكرات طبيب عبد الناصر
فى ذكرى مرور 36 عامًا على رحيل جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 قرر الطبيب الخاص للزعيم الراحل أن يتحدث – بعد صمت طويل – عن تفاصيل رحلة المرض والعلاج بعد أن أعطى البعض لأنفسهم الحق فى نشر حكايات من نسج الخيال عن تطور مرضه وأسباب وفاته. وذلك فى مذكراته التى يكتبها ويعدها للنشر لتظهر فى كتاب يصدر بعد أسابيع. والطبيب الخاص لعبد الناصر – الدكتور الصاوى حبيب – كان أقرب الناس وأكثرهم اطلاعًا على كل صغيرة وكبيرة عن أحواله الصحية.. يراه فى الصباح قبل أن يبدأ يومه ليكشف عليه ويعطيه الدواء.. يرافقه فى تنقلاته ومعظم سفرياته فى الداخل والخارج، ويجلس قريبًا منه فى الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات.. وظل كذلك ابتداء من عام 1967 حتى اللحظة التى كشف فيها على عبد الناصر أثناء الأزمة القلبية الأخيرة، وسمع منه آخر كلمة همس بها: أنا دلوقت ارتحت يا صاوى.. ثم مال برأسه وأسلم الروح.
لذلك فإن شهادة الدكتور الصاوى هى الأدق والأصدق فى كل ما يتعلق بمرض عبد الناصر وتطوراته، ولا يزال يحتفظ بصور من تقارير التحاليل الطبية عن نسبة السكر وحالة الكبد والكلى ورسم القلب والأشعة وتقارير الأطباء الأجانب ورحلات العلاج فى الاتحاد السوفيتى.. وكانت مهمة الدكتور الصاوى إقناع عبد الناصر كل يوم بأن يعطى نفسه وقتًا للراحة وألا يقضى كل وقته فى العمل واللقاءات والسفر والتنقل، والأهم من ذلك أن يخفف من الضغوط التى تزيد الآلام وتقلل فاعلية العلاج، ولكن عبد الناصر كان يستمع ولا ينفذ شيئًا لأنه كان يعيش فى دوامة إعادة بناء القوات المسلحة، ومتابعة عمليات قوات الصاعقة خلف خطوط العدو، وحرب الاستنزاف، وبناء حائط الصواريخ، ومتابعة التدريب والاستعدادات للحرب القادمة وإعداد خطة الحرب، وكذلك إعداد الدولة للحرب، وأضيف إلى جبل الهموم الذى كان يحمله على كتفيه صعوبة الظروف الاقتصادية، والتوتر الداخلى نتيجة تصاعد مشاعر الغضب الشعبى بعد النكسة، ثم زادت الهموم أكثر وأكثر بما وصلت إليه الأزمة بين الأردن والفلسطينيين..
وأخيرًا جاءت اللحظة التى انهار فيها الجبل.
الدكتور الصاوى حبيب قرر كتابة مذكراته ليقول الحق ولا شىء غير الحق ويصحح ما رواه بعض المؤرخين الهواة وكتّاب المذكرات أدعياء البطولة والمعرفة بينما كانوا يجهلون الكثير مما يدور فى داخل بيت وغرفة نوم عبد الناصر.. لم يكن أحد على علم بكل التفاصيل غير محمد حسنين هيكل بشهادة الدكتور الصاوى الذى كان يدخل على عبد الناصر فيجده منهمكًا فى حديث طويل بالتليفون أو يجد هيكل جالسًا مع عبد الناصر يدخن السيجار فى جلسة بين صديق وصديق وليست بين صحفى ورئيس الجمهورية. هكذا يقول الدكتور الصاوى.
يقول الدكتور الصاوى إن صلاح الشاهد كبير الأمناء مثلاً قال فى حديث صحفى إن عبد الناصر أصيب بإغماء فى المطار أثناء توديع أمير الكويت فى يوم 3 سبتمبر 1970 الذى توفى فيه عبد الناصر، وهذا لم يحدث ولكن عبد الناصر شعر بتعب وطلب السيارة عقب توديع الأمير واتجه إلى البيت فورًا، وطلب الدكتور الصاوى، وقال الشاهد إن الدكتور الصاوى أعطاه حقنة انتستين بريفين فمات على الفور، وهذا لم يحدث لأن انتستين بريفين اسم نقط للأنف وليس حقنة، ولأن الدكتور الصاوى عندما وصل أبلغته السيدة قرينة عبد الناصر أنه يشعر بآلام فى الصدر وأنها أعطته عصير برتقال، وعندما كشف عليه وجد الأزمة القلبية تحتاج إلى تصرف سريع فطلب استدعاء الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى، وبذل معهما أقصى ما يمكن عمله لإنقاذه. ونشر فى إحدى المجلات حديث عن الدكتور رفاعى كامل جاء فيه أنه كان طبيب عبد الناصر وأن عبد الناصر توفى بغيبوبة سكر، والحقيقة أنه لم يصب بغيبوبة ولم يصب بنقص السكر، وفوق ذلك فإن الدكتور رفاعى كامل لم يكن الطبيب الخاص لعبد الناصر!
ونشر أكثر من مرة أن عميد كلية العلاج الطبيعى الذى أدين وسجن بتهمة العمالة لإسرائيل قام بتدليك ساقى عبد الناصر بمادة سامة سببت الوفاة. والحقيقة أن هذا الرجل لم يقابل عبد الناصر ولم يدخل بيته ولم يدلك ساقيه. ويقول الدكتور الصاوى: من المستحيل أن يكون هناك أمر يتعلق بالطب والعلاج خاص بعبد الناصر ولا أعلم عنه، وبالنسبة لهذا الرجل فلم تكن له صلة بعلاج عبد الناصر أبدًا.
أكثر من ذلك ذكر أحد مؤرخى الشنطة الذين يبيعون الأكاذيب لصحف الخليج أن المياه الطبيعية التى عولج بها عبد الناصر فى تسخالطوبو فى روسيا كانت مسممة وأدت إلى وفاته فيما بعد، ويذكر الدكتور الصاوى أن ذلك غير صحيح بدليل أنه هو نفسه أخذ جلسات العلاج بهذه المياه الطبيعية على سبيل التجربة ومعرفة آثارها، ويقول إن القادة وكبار الأطباء الروس كانوا يولون عبد الناصر اهتمامًا يفوق الوصف حتى أن وزير الصحة الروسى وكبير أطباء القلب فى روسيا البروفيسور شازوف الذى يشرف على علاج كبار القادة هو الذى تولى الكشف على عبد الناصر مع أكبر أساتذة الطب فى مختلف التخصصات، وهم الذين قرروا أن عليه الامتناع عن التدخين واستجاب لقرارهم على الفور وكان ذلك فى يوليو 1968 ولم يعد إلى التدخين بعدها.
وأحد كبار الصحفيين المصريين تطوع بتشخيص نوع مرض السكر الذى كان عبد الناصر يعانى منه فقال إنه (السكر البرونزى) وهو غالبًا لا يعرف ما هو هذا السكر البرونزى وإن كان يعرفه فهو لم يستوثق من مصدر عليم أو وقع فى شرك مغرض ممن يسيئون إلى عبد الناصر بكل وسيلة. فالسكر البرونزى يفرز فيه البنكرياس الأنسولين ولكن الجسم يقاوم عمله فلا يصل السكر إلى الدم وإلى الخلايا لتوليد الطاقة وإنتاج بروتينى وتخزين دهون.. وهذا النوع من مرض السكر مرتبط بزيادة الحديد فى الجسم مما يؤدى إلى تليف الكبد وإصابته بأورام، كما يسبب تليف البنكرياس وتلوين الجلد باللون البرونزى.. أما نوع السكر عند عبد الناصر فكان النوع العادى الذى يصيب الكبار.
وفى كتاب نشر حديثًا بالإنجليزية مقالاً للدكتورة أهداف شريف ذكرت فيها أن الأطباء الذين حضروا الوفاة كانوا خمسة ذكرتهم بالاسم بينما الحقيقة أنه لم يكن حاضرًا إلا ثلاثة..
يقول الدكتور الصاوى هكذا أخذت أقرأ أمورًا لم تحدث، وبعضها نشر على لسانى دون أن أقولها.. حتى وصل الأمر بأحد أدعياء العلم ببواطن الأمور إلى القول بأن عبد الناصر تناول فى المطار أثناء توديع أمير الكويت كوب عصير مسمم كان سبب الوفاة. وهذا أمر مستحيل حدوثه لأن هناك نظامًا لحماية الرئيس من دس السموم فى الدواء أو الغذاء أو الشراب. فالدواء الخاص بالرئيس يتم الحصول عليه من صيدلية مختلفة كل مرة وليس من صيدلية معينة دائمًا.
ويقول الدكتور الصاوى: كنت أقدم لعبد الناصر بنفسى الدواء فى مواعيده والدواء الذى يتناوله بعد العشاء كنت أضعه فى علبة خاصة. وبالنسبة للكشف كنت أنا وزملائى ندخل عليه بدون أدوات لأن جهاز الضغط والسماعة والترمومتر وخافض اللسان وجهاز رسم القلب وأسطوانة الأكسجين وغيرها ممن نحتاج إليه فى أى ظرف كانت كلها موجودة بصفة مستمرة فى حجرة المكتب الملحقة بغرفة النوم.
وبالنسبة لطعام عبد الناصر فكان يتم شراؤه يوميا من أى سوق من الأسواق وتشرف السيدة قرينته على إعداده بنفسها، أما العصائر فكانت تعد داخل المنزل تحت الإشراف أيضا، وفى الحفلات كان يرافق عبد الناصر الموظف المختص الذى يقدم له طعامه الذى يتناسب مع حالته الصحية دون أن يلاحظ أحد أى اختلاف بين ما يقدم إليه وما يقدم إلى غيره.
يقول الدكتور الصاوى: بناء على ذلك لم يكن الأمر متروكًا للصدفة، ولذلك فإن نظرية المؤامرة التى يرددها البعض عن السم مستحيلة لسبب أهم من كل ذلك هو أن أعراض التسمم لم تظهر على عبد الناصر ولكن ظهرت أعراض أزمة قلبية لا يخطئها ثلاثة من كبار الأطباء.
بدأ الدكتور الصاوى عمله كطبيب خاص لعبد الناصر فى عام 1967 وكان قريبًا من عبد الناصر فى اجتماع عقده فى القيادة العامة للقوات المسلحة مساء يوم 2 يونيو 1967 وقيل له بعد الاجتماع إن عبد الناصر ذكر فى هذا الاجتماع إن إسرائيل ستبدأ الحرب يوم 5 يونيو على الأرجح.
وفى صباح 12 يوليو 1967 – بعد النكسة – فوجئ الدكتور الصاوى بالسكرتير الخاص للرئيس عبد الناصر – محمد أحمد– يطلب منه الكشف على عبد الناصر فى منزله. يقول الدكتور الصاوى: وجدت عبد الناصر واقفًا فى حجرة النوم ليستقبلنى وبعد الكشف عليه وجدت فى إحدى الرئتين مساحة صغيرة فيها تمدد فى الشعب ربما يكون نتيجة إصابته بالسعال الديكى فى الطفولة، ووجدت أيضا ضعفًا فى نبض الشريان فى إحدى القدمين مما يكون له دلالة فى مرض السكر ومؤشرًا على ضعف الدورة الدموية الطرفية. وأخبرته بنتيجة الكشف وكان المرض الأساسى الذى يعالج منه هو البول السكرى وهو مرض يسهل السيطرة عليه إذا تم ضبط الغذاء مع الانتظام فى أخذ الدواء اللازم والمداومة على المشى الذى يعتبر ضروريا فى هذه الحالة لسلامة الأنسجة والدورة الدموية، والمفروض أن يبتعد مريض السكر عن التوتر والانفعال والقلق ولكن بالنسبة لعبد الناصر وفى هذه الظروف بالذات كان هذا الشرط من شروط العلاج مستحيلاً. والمعروف طبيًا أن الإبقاء على مستوى السكر فى الدم فى الحدود الطبيعية يقلل من حدوث المضاعفات التى تصيب القلب وشرايين الأطراف وغير ذلك من المضاعفات.
طلب الدكتور الصاوى من عميد معهد التغذية إعداد قائمة بنوع وكميات الغذاء المناسب لعبد الناصر، ثم اكتشف أن طعام عبد الناصر أقل مما جاء فى نظام العميد وكان هو الدكتور إسماعيل عبده. وانضم إلى فريق العلاج الدكتور على البدرى وهو من أكبر خبراء علاج مرضى السكر مع تحليل الدم بانتظام لمعرفة مستوى السكر فى الدم. كما انضم إليهم الدكتور محمود صلاح الأستاذ بطب الإسكندرية، وكان قريبًا من عبد الناصر ويستقبله عبد الناصر فى أى وقت كلما جاء إلى القاهرة.
هكذا فتح لنا الدكتور الصاوى حبيب الملف الطبى للرئيس الراحل جمال عبد الناصر لكى يقضى على الاجتهادات والتقولات والشائعات. وهو يدعم ذلك بالوثائق، وبالطبع فإن كل ما يتصل بحياة الزعماء أمور تهم الناس ويسجلها التاريخ وقد تكون مرايا ودلالات وتأثيرات تتجاوز الحياة الشخصية للزعيم.
ونستكمل القراءة فى قدرات الرجل الذى يعرف أكثر من غيره وظل صامتًا 36 عامًا ثم قرر أن يتكلم بعد أن وجد الأكاذيب هى التى أصبحت حقائق فى أذهان الناس من كثرة تكرارها.