نجيب محفوظ كما عرفته
بدأت صلتى بنجيب محفوظ فى عام 1956، كنت واحدا من مجموعة شبان من أبناء دمنهور يتطلعون إلى أن يصبحوا كتّابا. البعض كان يجرب كتابة القصة، والبعض الآخر كان يعد نفسه ليكون شاعرا أو ناقدا، وكان بيننا من يملك موهبة كتابة الشعر العامى، وكنا نقضى معظم أوقاتنا فى قهوة المسيرى التى كانت تتمتع بشهرة كبيرة لأن صاحبها عبد المعطى المسيرى كان شخصية معروفة فى الأوساط الأدبية فى القاهرة ويحظى باحترام الكبار ابتداء من طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ إلى يوسف إدريس وعبدالله الطوخى وغيرهم من الشباب الواعد فى الساحة الأدبية فى ذلك الوقت.
وعبد المعطى المسيرى شخصية نادرة تستحق موضوعات مستقلة فى مناسبة أخرى، ولكن المهم أن أدباء قهوة المسيرى كانوا ينشرون إنتاجهم فى صحف القاهرة، ويعقدون ندوات يعرضون فيها أفكارهم وإنتاجهم، ويحاربون فى معركة بلا هوادة لكى يحصل المثقفون فى الأقاليم على بعض الفرص التى يستأثر بها المثقفون فى القاهرة، وهكذا كان لقائى مع نجيب محفوظ فى إحدى رحلات أدباء قهوة المسيرى وكان ذلك صباح يوم جمعة لا أنساه، رأيت نجيب محفوظ فى ندوته الأسبوعية فى كازينو أوبرا (بميدان الأوبرا القديم) وحوله مجموعة من كبار وصغار الأدباء.. وكانت دهشتى أن يكون هذا هو نجيب محفوظ الذى أصبح يتربع على القمة بعد ثلاثية بين القصرين، كنت أتصور بخيالى أن أرى عملاقا يتعامل مع الناس بترفع ويعتبرهم فى نظره أقزاما كما رأيت العقاد مثلا، ولكنى فوجئت بأن وجدته فى منتهى البساطة فى ملبسه وحديثه، مليئا بالحيوية، حين يضحك تجلجل ضحكاته عالية ويضحك من قلبه، وحين يتحدث لا يحاول أن يفرض رأيه، ويستمع أكثر مما يتكلم، ولاحظت أنه يتكلم بصوت مرتفع وعرفت بعد ذلك أنه يعانى من ضعف السمع فى إحدى أذنيه ولذلك يضع يده خلف أذنه ويقترب من محدثه ليستمع إليه.
ومن يومها وقعت فى أسر نجيب محفوظ مثل كثيرين من أبناء جيلى، فكان هو الحاضر دائما فى كل جلسة من جلسات الحوار على رصيف قهوة المسيرى، وفى كل جلسة نكتشف أبعادا جديدة فى رواياته، وفى سنة 1958 وكنت قد أصبحت فى السنة الثالثة فى جامعة الإسكندرية تجرأت فكتبت إليه خطابا فيه أسئلة كثيرة على أمل أن أنشر إجاباتها فى مجلة حائط كنت أحررها وأعلقها فى الكلية، ولدهشتى وصلتنى منه رسالة طويلة وفيها إجابات على كل الأسئلة، ولم ينشر هذا الحديث لخلاف وقع بينى وبين المعيد الذى كان مشرفا عليها فتوقفت عن إصدارها، ولكن تكررت مراسلاتى وأسئلتى إليه بصرف النظر عن النشر، لأننى كنت أريد أن أعرف رأيه فى مسائل تشغلنى، كما تكررت لقاءاتى معه بالقاهرة فى كازينو أوبرا، وكنت- ومازلت- أرى أن النماذج البشرية التى يجسمها فى رواياته لا تقل أبدا عن النماذج التى خلدت أدب دستويفسكى، وفلوبير، وتولستوى، وأرسكين كالدويل وغيرهم من عمالقة الأدب العالمى الذين كنا نقرأ المترجم من أعمالهم ونقضى الليالى فى تحليل الأحداث والشخصيات والبناء الروائى.
ومرت الأيام وعملت محررا فى الأهرام، فأسعدنى الحظ بأن أرى نجيب محفوظ فى مكتب توفيق الحكيم دائما ومعهما أحيانا الدكتور حسين فوزى أو الدكتور زكى نجيب محمود أو الدكتور يوسف إدريس فأجلس تلميذا فى حضرة هؤلاء الكبار، وأشرب معهم القهوة على أن يدفع كل واحد الحساب قبل أن يقوم، لأن توفيق الحكيم لا يدفع لأحد حتى ولا لنفسه، وكان نجيب محفوظ يجلجل بضحكته العالية ويقول فى ختام الجلسة: قهوة توفيق بك عندى!
وبعد سنوات أصبحت نائبا لرئيس التحرير ومشرفا على صفحات الرأى وعرضت عليه أن يكتب مقالا قصيراً جدا كل أسبوع فى زاوية كانت بعنوان (وجهة نظر) ولدهشتى مرة أخرى وجدته يوافق متحمسا ويختار يوم الخميس لنشر هذا المقال، واستمر مواظبا على كتابة هذا المقال بدأب مذهل، حتى عندما يسافر إلى الإسكندرية فى إجازته الصيفية فى شهرى يوليو وأغسطس كان يرسل إلى المقالات دفعة واحدة، وحتى عندما سافر إلى لندن لإجراء عملية جراحية كبرى فى الشريان الأورطى وتقرر أن تستغرق الرحلة خمسة أسابيع ترك لى وهو فى طريقه إلى المطار خمسة مقالات مع خطاب رقيق جدا.
وهذه أول معالم شخصيته: الالتزام، والدقة، والدأب، واحترام المواعيد، ففى الوقت الذى كنت أستمع إلى مختلف الأعذار من صغار المحررين لم يعتذر نجيب محفوظ عن كتابة مقاله أبدا طوال فترة تزيد على سبع سنوات إلى أن انتقلت إلى دار المعارف ومجلة أكتوبر فظل يكتب أيضا، وبعد حادث الاعتداء عليه وعجزه عن الكتابة ظل يملى المقال على الصديق محمد سلماوى واتخذ المقال شكلا جديدا أقرب إلى الحوار.
نجيب محفوظ شخصية نادرة كإنسان وكمفكر وروائى وكاتب قصة قصيرة، قال لى مرة إنه تأثر بفلسفة الفيلسوف الألمانى الشهير (كانط) وهى فلسفة مادية لا تؤمن بوجود شىء ليس له وجود مادى ملموس ومحسوس،ولذلك قادت هذه الفلسفة (كانط) إلى إنكار وجود الله وذلك فى كتابه (نقد العقل الخالص) إلا أنه عاد بعد ذلك فرأى أن الحياة الإنسانية وحركة العالم والمجتمع تفرض الإيمان بوجود الله، فأعلن فى كتابه الثانى (نقد العقل العملى) أن الله حقيقة موجودة وإن كان وجوده ليس ماديا يمكن إدراكه بالحواس، ولكن آثار قدرته تدل عليه، ووجوده يلزم الناس بالقيم الأخلاقية ويبشرهم بالثواب والعقاب بعد الموت، وهذا الالتزام الأخلاقى هو الذى يجعل للحياة الإنسانية قيمة ومعنى، ومن ينكر وجود الله فإنه يتصور أن الحياة يمكن أن تسير وتنتظم فى ظل الفوضى والتسيب والعدوان وتحول حياة البشر إلى حياة كحياة الحيوان مادامت القوة الضابطة والمسيطرة على الكون غير موجودة.
نجيب محفوظ مر أيضا بتجربة روحية فريدة وعميقة كهذه، وهى تجربة مر بها عدد من كبار المفكرين أبرزهم الإمام أبو حامد الغزالى الذى شرح أزمته النفسية فى رحلته من الشك إلى الإيمان. قال نجيب محفوظ عن تجربته غرقت فى بحار الشك والحيرة والقلق حتى وصلت إلى بر الأمان والإيمان، ومن السهل أن نلمس انعكاسات هذه المرحلة فى العديد من رواياته، وتكرار الشخصيات التى تغرق فى بحار الشك ثم لا تجد الخلاص لنفسها وروحها إلا فى الإيمان والعودة إلى رحاب الرحمة والنور واليقين.
وكما مر بمراحل فى تطوره الروحى مر أيضا بمراحل فى تطوره الفكرى والفنى، ومن يدقق فى قراءة رواياته بترتيب صدروها يلاحظ أنه يختفى وراء إحدى الشخصيات التى تبدو معتنقة لأفكار معينة فى رواية وتعتنق أفكارا أخرى فى رواية ثانية مما يدل على أنه فى حالة مراجعة فكرية دائمة، كذلك نجده يمر بمراحل عديدة فى البناء الروائى وينتقل من الافتتان بالتاريخ القديم إلى الرومانسية ثم إلى الواقعية الاجتماعية ثم إلى الرمزية الفلسفية المليئة بالايحاءات العميقة تجعله واحدا من الفلاسفة بالمعنى الدقيق وأعتقد أن المرحلة الأخيرة تستحق الدراسة للتوصل إلى عناصر متكاملة لفلسفته فى الحياة والوجود والموت والحب والصراع الإنسانى وعلاقة الإنسان بالله وبالقيم الروحية والأخلاقية، وسنجد أنه جرب أشكالا جديدة فى بناء الرواية لم يسبقه إليها أحد فى العربية مثل تتبع أجيال من أسرة واحدة أو من حارة واحدة (والحارة عنده هى المجتمع والفتوة هو السلطة).
ولا يزال للحديث بقية..