وصية الدكتور مستجير!
من يعرف الدكتور أحمد مستجير لا يستغرب الطريقة التى مات بها. فقد كان يقضى إجازة الصيف كعادته فى بيت أسرة زوجته فى قرية صغيرة على جبال الألب فى النمسا، ولكنه كان يعيش بعقله وأعصابه فى وطنه ويتابع جرائم الحرب التى ترتكبها إسرائيل فى لبنان وفلسطين وفى لحظة بلغ به الغضب والانفعال إلى حد انفجار شرايين المخ، وفاضت روحه بعد محاولات مستميتة من الأطباء لإنقاذه ويبدو أنه كان لا يريد أن يعود إلى هذا العالم الملىء بالظلم والكراهية والوحشية.
وهذا هو الدكتور مستجير.. واحد من أكبر علماء الوراثة المعروفين على مستوى العالم وهو فى نفس الوقت أديب كبير وشاعر مرهف الحس.. رجل يجمع بين عقل عالم وقلب فنان.. وانسان لا يعرف غير الحب للإنسان.. والحيوان.. والنبات. وحياته كلها قصة حب رومانسية لزوجته وأبنائه وأصدقائه وعمله وبلده وللانسانية كلها.
كعادته يشد الرحيل إلى النمسا فى الصيف لقضاء شهر أو أكثر مع أسرة زوجته ويبحث عن أحدث ما صدر من كتب علمية يقرؤها ويختار منها ما يرى ضرورة التعريف بها فيعكف على ترجمة بعضها ويعرض الباقى على أصدقائه من كبار المترجمين لأنه كان يؤمن بأن النهضة العلمية فى مصر وفى العالم العربى لن تتحقق إلا بالسير على طريقين بمنتهى الجدية والسرعة.. ترجمة ما ينشر فى العالم من كتب أساسية فى الفكر والعلوم والتوسع فى إرسال بعثات من المتفوقين من خريجى الجامعات فى جميع التخصصات ليعودوا بخبرات وأفكار ومناهج جديدة تسهم فى تحريك الركود فى الحياة العلمية.
وقبل السفر كان يمر على أصدقائه واحدا واحدا كى يمر عليهم بعد عودته ويدعوهم إلى العشاء فى بيته المتواضع فى شارع الحسين فى الدقى.
قبل رحيله هذه المرة زارنى ليحدثنى عن كتاب جديد يوشك على الانتهاء من إعداده ومشروع للتوسع فى زراعة الأرز والقمح والذرة فى الأراضى الصحراوية بعد تهجين سلالاتها للتكيف مع هذه البيئة والرى بالمياه المالحة.. كان فى عينيه هذه المرة بريق غريب ورغبة فى استعادة ذكريات وتفاصيل من مراحل حياته المبكرة.
وصداقتى مع الدكتور مستجير بدأت منذ ربع قرن عندما كان يتردد على صديقه القديم الناقد المعروف سامى خشبة وكان مكتبى فى الأهرام ومكتب سامى خشبة فى حجرة واحدة، وكان يتردد عليه كثير من الأدباء والعلماء والمثقفين وأصبحوا مع الوقت أصدقائى أيضا. واستمرت صداقتى بالدكتور مستجير بعد أن انتقلت إلى دار المعارف ومجلة أكتوبر. واقنعته بأن ينشر عددا من كتبه فى سلسلة اقرأ لقيت رواجا كبيرا حتى أن بعضها أعيد طبعه ثلاث مرات مازالت من أكثر الكتب مبيعا حتى الآن كان من بينها: دفاع عن العلم، وقراءة فى كتابنا الوراثى، والقرصنة الوراثية، وعلم اسمه السعادة، وعلم اسمه الضحك.. وهى كتب تجمع بين عمق الفكر، والمعلومات العلمية، والروح الأدبية.
تواضع الدكتور مستجير كان يذهل كل من يقترب منه.. فمن هم أقل منه علما يسيرون منتفخين ويبالغون فى الحذلقة فى أحاديثهم ومظهرهم وسلوكهم وهو دائما بسيط فى مظهره وحديثه ودود إلى حد أنك تقابله لأول مرة فتشعر أنه صديقك منذ سنوات، على الرغم من أنه حاصل على جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة مبارك فى العلوم وهى قمة الجوائز المصرية وحاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى مرتان وليس مرة واحدة وفازت كتبه بجوائز أحسن كتاب. وهو عضو مجمع اللغة العربية، وعضو المجمع العلمى المصرى وله أكثر من ثلاثين كتابا.
إنسان فيه كل صفات ومعانى الانسانية كان يدهشنى أن اكتشف كل يوم أن حجم صداقاته أكبر مما أعرف.. والغريب أن أسعد أوقاته كان يقضيها مع الفلاحين فى المزارع، ويقول إنه يتعلم منهم وأنه يشعر بالراحة كلما تنفس رائحة الزرع وشاهد الخضرة والخير فى الحقول، ولذلك كان يلغى الفيلسوف هربرت سبنسر لأنه كان يرى أن الفقراء لا يستحقون الحياة، ويستنكر موقف المفكر المعروف الدوس هكسلى الذى كان يعارض تعليم (الدهماء) ويكتب كثيرا معارضا الفكر العنصرى الذى يتمثل فى النازية، والصهيونية، والحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا لأنه قائم على نظرية غير علمية هى تفوق عنصر معين على سائر البشر.. نظرية تفوق العنصر الآرى انتهت بهزيمة هتلر، واليوم تظهر نظرية تفوق إسرائيل وحقها فى إبادة الشعب الفلسطينى والولايات المتحدة قامت مؤخراً بإحياء نظرية تفوق أمريكا وحقها فى إبادة شعوب العالم الثالث، وفقا لنظرة تؤمن بأن الحياة الانسانية للعرب رخيصة.. إسرائيل ترى أن الحياة على أرض فلسطين من حقها وحدها وليس للفلسطينيين الحق فى الحياة على أرضهم وأمريكا ترى أن لها الحق فى احتلال العراق واخضاع شعبه للاحتلال الأمريكى وأن بترول العراق من حق أمريكا وليس من حق الشعب العراقى.
وهو يرى أن هذه السياسات قائمة على نظرية يروج لها لبعض علماء الوراثة الذين يبررون الاستغلال والاستعمار.. وهم يقولون إن الغباء صفة وراثية فى شعوب العالم الثالث وهذا الغباء مثل لون البشرة ينتقل من الآباء إلى الأبناء ومن جيل إلى جيل ويزعمون أن هناك ارتباطا بين معامل الذكاء لدى الشعوب وبين ثروات الأمم وحالتها الاقتصادية فكلما زاد ذكاء شعب من الشعوب يزيد دخله وتزيد ثروته.
كتب كثيرا لمحاربة هذه النظرية الاستعمارية الاستعلائية وأثبت أنها نظرية غير علمية وليس لها أساس وفقا لمناهج البحث العلمى التجريبى ولا يوجد شىء اسمه ذكاء الأمة، والدول تتقدم بذكاء أقلية متميزة وليس بذكاء الشعب كله.. ففى بريطانيا نجد نيوتن واحدا فقط وليس كل الشعب البريطانى فى درجة ذكاء نيوتن وقدرته على الإبداع، وفى ألمانيا نجد أينشتاين واحد وفى فرنسا لويس باستير واحد وأمثال هؤلاء من العلماء والقادة والمفكرين هم الصفوة التى تقود وتبدع وتفتح الطريق أمام الشعوب للتقدم.. وفى نفس الوقت فإن التاريخ يؤكد أن الشعوب المتخلفة اليوم لا يرجع تخلفها إلى الغباء الجماعى لهذه الشعوب وإنما يرجع إلى أسباب أخرى مثل الاستعمار وفساد القادة وسوء الإدارة وفشل السياسات، بدليل أن هذه الشعوب ذاتها قامت ببناء حضارات عظيمة سبقت بها الدول المتقدمة الآن بقرون.. فالحضارة فى مصر والعراق مثلا ازدهرت فى زمن كانت فيه أوروبا تسبح فى بحار الجهل والفقر وتخضع لنظم حكم استبدادية وتعيش فيما يسميه المؤرخون عصر الظلام.. وهذه الحقيقة لا تعنى إنكار أهمية الصفات الوراثية.
فى آخر لقاء كان فخورا وهو يحدثنى مرة أخرى عن ابنته (مروة) الحاصلة على الدكتوراه فى علم البيولوجيا وتعمل فى إدارة الأبحاث فى إحدى شركات الأدوية العالمية والتى اكتشفت الجين الذى يسبب سرطان القولون وبذلك أصبح ممكنا إنتاج دواء للوقاية والعلاج ولها أبحاث فى غاية الأهمية عن مرض الزهايمر تفتح بابا الأمل فى إمكان التغلب عليه وحدثنى طويلا عن نجاح تجاربه فى زراعة القمح والأرز والذرة على المياه المالحة وأهمية ذلك فى المستقبل القريب لأن مصر سوف تواجه أزمة مياه بعد سنوات مع زيادة عدد السكان وتواجه أزمة غذاء والصحراء هى المستقبل ولابد أن يوجه المصريون أبحاثهم العلمية نحو الصحراء، وأن تنشأ فى كل كلية من كليات الزراعة مزرعة صحراوية وان تكون لوزارة الزراعة محطة صحراوية للعمل على تطويع النباتات للإنتاج فى ظروف الصحراء واستنباط سلالات جديدة تقاوم العطش والملوحة وجلب نباتات تصلح فى هذه البيئة ونقل تجارب الدول الأخرى فى استصلاح الأراضى الصحراوية وطرق الرى المناسبة فيها وهذا معناه التركيز على الهندسة الوراثية لأنها هى الحل لمشكلة الغذاء الحالية التى سوف تزداد فى المستقبل القريب.
كان يرى أن توشكى يمكن أن تصبح مدرسة جديدة للتدريب على زراعة سلالات من النباتات الاقتصادية لمواجهة احتياجات السوق المحلى وللتصدير أيضا، ولذلك يجب أن ترسل الدولة بعثة من العلماء والمتخصصين إلى عدد من الدول التى تتشابه ظروفنا وتعود ومعها بذور للنباتات التى تصلح لنا وهذا ما فعله محمد على حين استورد نبات القطن من الخارج.
وصية الدكتور مستجير: علينا أن ندخل ميدان الهندسة الوراثية من أوسع أبوابه ونقدم كل الإمكانات لعلماء الهندسة الوراثية لأنها الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج الزراعى والحيوانى ولتكن البداية إنشاء معهد للهندسة الوراثية ومركز لاستنساخ الأبقار والجاموس والغنم لتوفير اللحم.
لقد عاش الدكتور مستجير عاشقا للهندسة الوراثية وله فيها انجازات كان يستحق عليها جائزة نوبل وأنشأ مدرسة علمية من أساتذة كليات الزراعة لهم أبحاث مهمة فى الهندسة الوراثية.
وإذا أردتم تكريم الدكتور مستجير فلا تكفى الخطب والاحتفالات.. نفذوا وصاياه.. وكلها فى حب مصر التى عاش فيها ورفض الإغراءات للهجرة.. وظل مثل السنديانة رأسها عالية وجذورها ضاربة فى أعماق هذه الأرض التى احتضنته فى نهاية المطاف.