المقعد الخالى فى الصحافة المصريـــــة
على الرغم من مرور السنين على رحيل أحمد بهاء الدين فلا يزال مقعده خاليا فى الصحافة المصرية، لم يستطع أحد أن يملأه.. أحمد بهاء الدين لم يكن مجرد كاتب ولكنه مفكر صاحب رؤية وفلسفة خاصة فى الحياة والمجتمع فى السياسة والاقتصاد، وليس مجرد رئيس تحرير ولكنه صاحب رسالة لإيقاظ المجتمع وتنويره، وليس مجرد موظف كبير فى بلاط صاحبة الجلالة، ولكنه هو نفسه صاحب الجلالة الذى يقول كلمته رضى من رضى وغضب من غضب.. وحين ضاقت عليه حلقة «السلطة» هاجر بقلمه إلى الكويت حيث وجد المناخ الذى يسمح له بأن يكتب ما يشاء ويقول ما يريد دون محاذير أو خطوط حمراء.
بدأ يجرِّب كتابة المقال السياسى بعد تخرجه فى كلية الحقوق والتحاقه بوظيفة وكيل النيابة الإدارية، وتصادف أن يكون فى مكتب واحد مع عبد الرحمن الشرقاوى وفتحى غانم، وثلاثتهم يعملون فى الحكومة على مضض ويبحثون عن فرصة للكتابة فى الصحف والمشاركة فى الحياة العامة، وكان ذلك قبل عام 1952 بقليل،كان عبد الرحمن الشرقاوى يجرب كتابة الشعر، وفتحى غانم يجرب كتابة القصة، وهو يجرب كتابة المقال السياسى، وزملاؤهم ينظرون إليهم على أنهم مخلوقات غريبة غير مهتمة بمستقبلها فى الوظائف الحكومية. وفى وقت مبكر صار عبد الرحمن الشرقاوى «أمير الشعراء» الجديد بعد أن بدأ موجة التجديد فى الشعر العربى، وكانت أشعاره الأولى تطبع فى كل مكان فى الصحف والمنشورات والدواوين ولكنه كان مفتونا بالسياسة والأدب فاتجه إلى النثر واشتهر بروايتيه الكبيرتين «الأرض» و«الشوارع الخلفية» وبعد ذلك تحول إلى التراث فأصدر كتاب «محمد رسول الحرية» وبعده كتب عن الخلفاء الراشدين والفقهاء الكبار.
قصة زواجه تعبر عن شخصيته.. أرسلت إليه طالبة بكلية الآداب خطابات تهاجم كتاباته، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة صباح الخير ومع أنه يهتم بخطابات القراء ولا يهتم بالرد عليها إلا أنه وجد نفسه مهتما بالرد على هذه القارئة بالذات، ثم قابلها مصادفة عند بعض الأصدقاء، ولم يضيِّع وقتا.. وتزوجها!
كان يعبر كثيراًعن خوفه على جيل المستقبل ويرى آفاق هذا الجيل فى مصر ضيقة، ملبدة بالغيوم، مليئة بصنوف القمع النفسى والفكرى.. كان وحيد أمه بين أربع بنات، وكانت أمه هى كل عالمه، ماتت وهو فى الحادية عشرة من العمر.. وكان يقول: لا أدرى لماذا لا أتذكر من عهد الدراسة أى أيام جميلة وعن اصدقائه يقول إنهم كثيرون فيهم الرؤساء والخفراء وفيهم من يراه كثيرا ومن لا يراهم بحكم ظروف الحياة إلا مرة كل سنوات ولهم مكانتهم كأصدقاء لا تتغير.
سألته حين كان كاتباً متفرغا فى الأهرام عن الموضوعات التى تجذبه أكثر من غيرها فقال: التاريخ بالنسبة لى أجمل وأمتع مادة لأن موضعه الإنسان ذاته والنفس البشرية للعظماء وللجماهير على السواء.. التاريخ هو ملحمة الحياة.. وعن كتبه قال إنها تزيد على 12 كتابا ولكنه لا يعتبر منها إلا كتابين فقط والباقى تجميع مقالات سبق نشرها، وقال بأسى: لو كان الأمر بيدى لأعطيت وقتا أكبر للتأليف ولكن كتابة المقال الصحفى استهلكت وقتى وجهدى، وكل من يدخل فى مجال الكتابة الصحفية يجد نفسه مربوطا فى هذه الدائرة ، ويدخل فى دوامة رد الفعل للأحداث، مما يجعله مشغولا دائما بمتابعة ما يجرى فى دائرة اهتمامه، وقد يدهش البعض أننى شغوف مثلا بقراءة صفحات الاعلانات المبوبة كل فترة ليس كمستهلك ولكن لأنى أرى أنها تعكس أحوال المصريين ماذا يأكلون، وماذا يلبسون، ومعدلات الأسعار، وأى وظائف خالية، وغير ذلك مما أعتبره من الأخبار التى تعطى صورة حية للمجتمع.
قال ايضا إنه يريد أن يكتب سيرة ذاتية لجيله الذى تفتح وعيه بعد الحرب العالمية الثانية مع حركات الاستقلال، ومعها التجارب الناجحة والتجارب الفاشلة فى مصر والعالم العربى ومثل هذه السيرة تحتاج إلى تقديم نماذج مختلفة، فهناك من بدأ تاجرا ثم تحول إلى رجل سياسة وصاحب رأى، ومن بدأ فقيرا وانتهى مليونيرا لأنه عرف الطريق.
وقال عن الصحفيين الذين لا يجدون الفرصة الا متأخرة.. أنا كنت رئيس تحرير مجلة وعمرى 24 سنة ولكن لا يجوز الحكم على حالة فردية فربما كانت لى ظروف خاصة، وعندما بدأت العمل فى الصحافة كان عدد العاملين أقل من ربع العدد الحالى ولذلك كانت الفرصة أفضل، أما بالنسبة لسن رؤساء التحرير فأنا أرى أنه لا يوجد فى الصحافة سن لأى منصب سواء رئيس تحرير أو محرر، ولو أحصينا إنتاج طه حسين مثلا أو توفيق الحكيم أو العقاد أو ألحان عبد الوهاب وأغانى أم كلثوم سنجد أن إنتاجهم الأكبر والأهم كان بعد الستين، وقد زرت مجلة (الايكونومست) أعرق مجلة اقتصادية بريطانية فوجدت رئيس تحريرها عمره 32 سنة.. فالمسألة الاستعداد والشخصية والكفاءة.. والأمر الثانى أن لقب رئيس التحرير فى رأيى ليس أكبر الألقاب فى الصحافة، وفى عام 1974 دهش السادات لرفضى وترددى فى قبول منصب رئيس التحرير، وقاومت هذا العرض مدة طويلة حتى اضطررت فى إحدى المرات أثناء النقاش معه إلى أن أسأله هل تعرف اسم رئيس تحرير صحيفة «التايمز» أشهر الصحف البريطانية، فقال السادات: لا.. قلت: هل تعرف اسم رئيس تحرير «الجارديان» أو «الديلى ميل» وهى من أشهر الصحف البريطانية؟ فقال السادات: لا. قلت له السبب بسيط أن هذه الصحف على شهرتها لا تكتب اسم رئيس التحرير على صفحاتها كما نفعل نحن، وقد يكون رئيس التحرير غير مشهور، فرئيس التحرير هو قائد أوركسترا مهمته أن يستخرج من العازفين أفضل ماعندهم، وينسق بين النغمات والأصوات المختلفة ليظهر اللحن متسقا دون أن يكون هذا المايسترو أفضل عازف من الناحية الفردية، وفى الصحف العالمية تجد أكبر الصحفيين أجرا هو أكثرهم كفاءة والخبر الصحفى الذى يحقق السبق ويأتى بالمانشيت، ولدينا فى القاهرة مراسلون أجانب أسماؤهم وأعمارهم كبيرة لكنهم لا يتعالون على العمل والجرى وراء الاحداث المهمة مع مافى بعضها من مخاطر.
وقال: إن أمامنا مستقبلاً وأنا متفائل، ولا بد أن تكون لنا ذاكرة تساعدنا على تفهم مسار التاريخ واتجاه المستقبل ولا نغرق فى دوامة الماضى، وهذا ما اعتبره «الموقف النقدى من التراث» وادعو إلى اعادة كتابة التراث، والمشكلة أن كل كتاب مضى على وضعه مئات السنين نعتبره تراثا، ونجد من يرفع سيف الارهاب باسم الدين ويعتبر نفسه المدافع عن التراث.. بينما العقل يدعونا إلى أن نفتح الأبواب أمام الحضارة الحديثة وفى نفس الوقت نحافظ على ما يستحق البقاء من تراثنا.. وأتمنى أن أرى الشباب مقبلاً على قراءة الكتب العالمية الحديثة فى لغاتها أو مترجمة إلى اللغة العربية.
الحديث لا ينتهى عن أحمد بهاء دين.. صاحب العقلية التقدمية.. الذى غيَّر فى لغة الصحافة وجعل البلاغة ليست فى الألفاظ الرنانة ولكن فى التفكير والعرض المنطقى.. البلاغة فى الفكرة ونحن لن نبنى بلادنا بالكلمات الرنانة.. ولا يزال مقعده خاليا حتى بعد عشرات السنين من رحيله.