سمير سرحان.. الإنسان
عاش سمير سرحان حياته تحت الأضواء، وفى صخب الحياة الثقافية والمثقفين، وخاض معارك كثيرة، وحقق انتصارات فى بعضها كما انهزم فى بعضها الآخر، وكان له أصدقاء مخلصون ومنافقون باعوه بعد أن ترك منصبه فى هيئة الكتاب وانحسرت عنه الأضواء. ولكن ذلك كله لم يكن إلا الجانب الظـاهر فى الواجهة من رجل عاش حياته بالطول والعرض كما يقال، وكانت له أخلاق الفرسان ولم تفارقه أبدا فى أى مرحلة من مراحل حياته.
لم يولد سمير سرحان وفى فمه ملعقة من ذهب، بل عاش فى حارة من الحوارى الخلفية فى حى الجيزة. والده- كما قال هو عنه- إنسان فقير عاش حياته راضيا يكدح من أجل لقمة عيش أسرته ذات الأطفال الخمسة، لكنه أبدا لم يشُك- شطف العيش، ولم يحمل فى قلبه يوما ذرة حقد. أقعده مرض القلب فى المنزل، وهو ما زال فى الثانية والخمسين، وكان لا يدرى من اسمه غير كلمة (الحاج) يناديه بها كل من يلقاه من الأهل والجيران، وقد مات أبوه قبل أن يسافر سمير سرحان فى بعثته إلى أمريكا بأيام. ولم يتنكر سمير سرحان لأصله ولم ينكره بل كان يفاخر به، وقد أخذ عن أبيه طيبة القلب الذى لا يحمل ذرة حقد.
وقد لا يعرف كثيرون أن سمير سرحان ظهر مع إسماعيل ياسين فى مشهد من مشاهد فيلم كان اسمه (الدنيا لما تضحك) فقد كان له وهو صغير صديق اسمه سمير جمعة كان والده يقوم بأدوار الكومبارس فى معظم الأفلام المصرية، وكان سمير جمعة فى الثانية عشرة من عمره يشترك هو وشقيقه مع والدهما فى مشهد يقابلان فيه إسماعيل ياسين أثناء نزوله من سيارة، ويستقبلانه بزيطة وضجيج، واشترك معهما سمير سرحان ولم يستغرق دوره سوى ثانية وتقاضى عنه 45 قرشا!
من هنا نعرف أن علاقته بالفن بدأت مبكرا جدا، ولم يفارقه حب التمثيل أبدا وإن كان قد انتقل إلى حب المسرح ممثلا فى بداية الأمر ثم مؤلفا فى شبابه لمسرحيات حققت نجاحا كبيرا وأكسبته شهرة مبكرة، كما كان فى شبابه أيضا ناقدا مسرحيا واشترك مع أستاذه الدكتور رشاد رشدى فى إصدار مجلة المسرح وفى إدارة مسرح توفيق الحكيم وكلاهما يمثل علامة مميزة فى تاريخ النهضة المسرحية فى الستينات.
وقد لا يعرف أحد أن سمير سرحان قام بالتمثيل وهو طالب فى المرحلة الثانوية، فى مسرحية اسمها (عريس فى علبة) من تأليف صديقه فهيم القاضى، وكانت مشكلتهم هى الحصول على مبلغ من المال لتغطية التكاليف وكان المنقذ لهم هو صديقه محمد مرجان الذى قدم لهم المبلغ الذى عجزوا عن تدبيره، وتكلفت المسرحية بضعة جنيهات منها مثلا ثلاثة جنيهات لإيجار مسرح مهجور فى حى عابدين، وخمسون قرشا لشراء لوازم المسرحية واستمرت المسرحية ثلاثة أيام وشاهدها عدد كبير من أبناء الحى ولكن ثمن التذكرة كان خمسة قروش ولم يكن الإيراد كافيا لتغطية المصاريف لأكثر من هذه الأيام الثلاثة، الطريف أنهم اكتشفوا بعد ذلك بأعوام أن صديقهم محمد مرجان حصل على هذا المال بأن سرق بعض قطع من مصوغات أمه وباعها. وقام سمير سرحان فى هذه المسرحية بدور المأذون الذى ما إن يوشك على عقد القران حتى يهرب العريس، وكان يلقى دوره بلهجة هى خليط من الفصحى المقعرة المضحكة والعامية المبتذلة. وقد قاموا بطبع إعلان على أوراق حمراء كان عليها اسم أبطال المسرحية ومؤلفها ومخرجها، وكان اسم سمير سرحان مقرونا بصفة (معجزة المسرح)..
بعد سنوات قرر سمير سرحان بينه وبين نفسه أن التمثيل ليس مجاله الحقيقى، وأنه يفضل أن يقف بكلماته من وراء مجموع الممثلين وليس بينهم، وهكذا كتب مسرحيته الأولى وهو فى شبابه المبكر وكانت بعنوان (الكذب).
وقد لا يعرف كثيرون أن سمير سرحان نشر، وهو تلميذ بالمرحلة الثانوية أيضا- مجموعة قصصية مع صديقه سمير جمعة، وذلك فى عام 1955- وكانت بعنوان (ليلة أنس) وتضم عشر قصص منها خمس قصص كتبها سمير سرحان وخمس كتبها سمير جمعة، وذهب بها إلى ناشر فى شارع كلوت بك أعجبه العنوان فاتفق معهما على نشر المجموعة دون مقابل، وفعلا نشرت المجموعة ضمن منشورات مكتبة نصر عبيد بشارع كلوت بك بغلاف زاهى الألوان تتوسطه صورة امرأة شبه عارية، وبيعت النسخة على سور الأزبكية بخمسة قروش!
وعاش منذ بداياته فى أجواء الأدب والفكر.. وهو تلميذ فى المرحلة الثانوية كان يتردد على مقهى عبد الله فى ميدان الجيزة ويجالس أكبر ناقدى فى هذا العصر: أنور المعداوى، وزكريا الحجاوى، ومحمود السعدنى، وبعد ذلك عندما التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب كان يجلس فى مقهى (صان صوصى) فى الجيزة مع أكبر نقاد وكُتّاب هذه المرحلة: الدكتور عبد القادر القط، ولويس عوض، وصلاح عبد الصبور، ورجاء النقاش، وأحمد رشدى صالح، ونجيب سرور، ونعمان عاشور.. وغيرهم.. ولم يكن قد خرج من دائرة الفقر لكنه غرس أقدامه فى دائرة الطموح وعرف قيمة ما لديه من موهبة. يحكى أن الشاعر المعروف نجيب سرور سأله يوما: هل معك 15 قرشا؟ فقال له: لماذا؟ قال: لنشترى أكلة كباب.. أشتاق إلى أكلة كباب. لكن كلاهما لم يكن يمتلك هذا المبلغ الكبير. ومع ذلك فهو يتحدث بحب عن الفول والطعمية وعن الطعام الذى كانت والدته تتفنن فى إعداده بدون لحم مثل الفول بالطماطم وكان يأكل هذا الطعام بشهية تفوق متعة الطعام الذى كان يتناوله بعد ذلك فى أفخر الفنادق والمطاعم!
تخرج سمير سرحان فى كلية الآداب وكان الأول على دفعته ولكنه اكتشف أنه لا أمل فى التعيين فى الكلية هذا العام وربما لبضعة أعوام مقبلة لعدم وجود ميزانية ولا درجات وعليه أن يأكل عيشه من أى عمل آخر غير وظيفة معيد فى الكلية التى كان يحلم بها، ووجد وظيفة مدرس للغة الإنجليزية فى مدرسة ثانوية فى قلب الريف، وفى أول لقاء مع رئيسه المدرس الأول للغة الإنجليزية قال له: سوف تسعد معنا هنا.. وعندى من أجلك مشاريع.. ولأنك سمح الوجه سأشاركك على بقرة، تدفع من ثمنها بعضا من مرتبك كل شهر.. تلد لنا.. تبيع صغارا وتجنى من وراء بيع لبنها ما يسبغ علينا الستر. ولأنك- كما أراك- سمح الوجه فلا مانع عندى من أن أزوجك من ابنتى.. ووجد نفسه يركض إلى محطة القطار عائدا إلى القاهرة هربا من المدرس الأول والحياة مع زوجة ريفية وتربية الأبقار وبيع لبنها.
وابتسم له الحظ- بعد فترة صعلكة طويلة- فساعده الدكتور رشاد رشدى على الحصول على وظيفة معيد، وكان رشاد رشدى أول مصرى يشغل منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية وكان هذا المنصب يشغله الأساتذة الإنجليز قبل ذلك، وبعد سنوات حصل على بعثة إلى الولايات المتحدة للحصول على الدكتوراه، ولكن كان عليه أن يقضى شهورا وهو يتردد على مكتب على صبرى رئيس الوزراء فى ذلك الوقت لكى يحصل على الموافقة النهائية بالسفر، وكان سفر المواطنين فى ذلك الوقت يستلزم الحصول على موافقة رئيس الوزراء شخصيا، لكنه فوجئ فى اللحظة الأخيرة أنه لابد أن يدفع مبلغ ألف جنيه بصفة تأمين حتى يستطيع الحصول على هذه الموافقة، وأسقط فى يده، وشاركه فى المأساة محمد عنانى صديقه وزميله فى قسم اللغة الإنجليزية، فمن أين يأتى كل منهما بهذا المبلغ المهول فى ذلك الوقت. وبقى فى القاهرة غارقا فى أحزانه يقضى وقته مع صديقه محمد العنانى فى المشى لساعات حتى ينال منهما التعب، إلى أن قرأ ذات صباح خبرا صغيرا فى أهرام الجمعة بأن الحكومة قررت إلغاء مبلغ التأمين المفروض على أعضاء الإجازات الدراسية المسافرين للحصول على درجاتهم العلمية فى الخارج. يقول سمير سرحان إنه قرأ الخبر ولم يلحظ أن المقال الرئيسى فى الأهرام لمحمد حسنين هيكل كان عن ضبط على صبرى بعدد مهول من الحقائب والبضائع التى جلبها معه من الاتحاد السوفيتى دون أن يدفع عنها الرسوم الجمركية المقررة!
وأخيرا وصل سمير سرحان إلى أمريكا، وفى أول لحظة يسير فيها فى شوارع نيويورك إذا بشاب غليظ الملامح يشهر مطواة فى ظهره ويطلب منه أن يفرغ ما فى جيبه ويخلع ساعته، ولم يكن أمامه إلا أن يعطيه الساعة وبضعة دولارات.. لكنه حين ذهب إلى واشنطن استقبله المستشار الثقافى بروح أبويه ونزل معه ليشترى له بعض الملابس الثقيلة التى تناسب البرد فى الخريف وقدمها له هدية منه، وكان هذا المستشار هو الأستاذ الكبير الدكتور مصطفى الشكعة.. وما أكبر الفرق بين أساتذة زمان وأساتذة هذه الأيام!
يقول سمير سرحان عن نفسه إنه يتعجل دائما كل شىء، وكل شىء عنده يبدأ وينتهى سريعا ليحدث نفسه عن بداية لشىء آخر ينتهى أيضا وهكذا، وربما كان ذلك بسبب ما صادفه فى حياته من التبكير فى كل شىء، فقد كبر مبكرا، وخط أول حرف له مبكرا، ونشر أول كتاب له مبكرا، وخالط نجوم عصره من الأدباء والمفكرين وهو فى السادسة عشرة، ونال الليسانس وذاع صيته بين الأدباء وهو لم يصل سن العشرين، وسافر للحصول على الدكتوراه وهو فى الواحدة والعشرين. وهكذا كان مقدرا عليه منذ بدأ الحياة أن يلهث كالعداء يجرى وحيدا بأقصى ما لديه من طاقة إلى أن يصل إلى نهاية الشوط.
ومع كل ما حصل عليه من شهرة وأضواء وما كان يحيط به من صخب الحياة الثقافية كان سمير سرحان يشعر بأنه وحيد. يقول: إن الشهرة عندما تصبح قدرا للإنسان الكبير تجعل منه نسرا مهيبا ينشر فى السماء جناحى الرهبة، ولكنه عندما ينظر إلى الأرض من عليائه يدركه ذلك الشعور المؤلم بأنه وحيد.. وحيد.. وأنه يحتاج ولو للحظة إلى لمسة حنان من إنسان.. حتى من إنسان غريب..
لقد عاش مأساة موت زوجته الأولى بعض قصة حب نادرة.. وموت زوجته الثانية بعد سنوات من الحب ملأت حياته.. وموت الابن فى ريعان الشباب..
وأخيرا مأساة المرض اللعين الذى ظل يقاومه بقوة نادرة حتى اللحظة الأخيرة.. مات ليعيش فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية.. فقد حفر بأظافره مكانا لنفسه بين كبار الأسماء التى أسهمت فى صياغة حياتنا الفكرية والثقافية.