سمير سرحـان فى عقـولنــا
فقدنا سمير سرحان، كان قيمة كبيرة بين المفكرين والمثقفين، كما كان شعلة نشاط أثارت فى حياتنا الثقافية والفكرية موجات وعواصف أيقظت العقول وحركت السكون الذى كان سائدا فى الحياة الثقافية. كان ككل الشخصيات الكاريزمية قادرا على جمع آلاف من الأصدقاء والتلاميذ حوله، وكان كالنهر المتدفق بالعطاء، لم يدخر جهدا فى مساعدة كل موهبة شابة صادفها، وحول هيئة الكتاب من مجرد دار نشر إلى مؤسسة ثقافية متكاملة ترعى الفنون والأدب والثقافة وترعى الفنانين والأدباء والمثقفين وتشجعهم على العطاء.
عندما ذهب فى البعثة إلى الولايات المتحدة عام 1968 للحصول على الدكتوراه من جامعة انديانا كان يجمع حوله المبعوثين والمثقفين من أنحاء العالم العربى، بقدرته العجبية على التواصل والعطاء، وعندما عاد أستاذا للنقد والأدب الإنجليزى ثم رئيسا لقسم اللغة الإنجليزية كان قادرا على اكتشاف المواهب الناشئة يرعاها ويأخذ بيدها حتى صار كثير من تلاميذه من الأسماء المعروفة فى عالم الفكر والأدب.
وعندما أصبح عميدا لمعهد الفنون المسرحية عام 1980 جعل هذا المعهد مركز إشعاع للفن والنقد وأخرجه من حالة الركود التى كان قد وصل إليها، وهكذا كان عندما تولى رئاسة هيئة الثقافة الجماهيرية، فكان هو الروح التى جعلت هذه الهيئة تدب فيها الحياة، وتصل بنشاطها الحقيقى إلى كل مدينة وكل قرية وأرسى تقليدا جديدا بعقد مؤتمر سنوى لأدباء الأقاليم كان- ولايزال- ساحة لمناقشة مشاكل الثقافة فى الأقاليم، واكتشاف المواهب التى كان الإهمال يقتلها ولا تجد من ينتشلها ويعطيها فرصة النمو، أما عندما تولى رئاسة هيئة الكتاب، فقد حولها إلى مركز إشعاع ثقافى حقيقى لا تنطفئ أنواره يوما واحدا طوال العام، ندوات ولقاءات وسهرات ثقافية مستمرة، وبرنامج ثقافى وفنى فى شهر رمضان، ومعرض دائم للكتاب، ثم دخل التاريخ بما حققه فى معرض الكتاب.. قبل سمير سرحان كان مجرد معرض للكتاب وهو الذى جعله سوق عكاظ، فى كل يوم تعقد أكثر من ندوة لمناقشة كتاب، وللحوار مع شخصية كبيرة فى الأدب والسياسة والدين، ولقاء مع شاعر أو عدد من الشعراء ولأول مرة يصبح معرض الكتاب ملتقى للمثقفين العرب وليس للمصريين وحدهم، فيشارك فى نشاطه نزار قبانى، وبلند الحيدرى، وعبدالوهاب البياتى، وسميح القاسم، وسعاد الصباح، وغيرهم من الأسماء اللامعة فى أنحاء الوطن العربى، إلى جانب كبار المفكرين المصريين من جميع الاتجاهات.. الأستاذ هيكل.. والشيخ محمد الغزالى.. وفرج فودة.. وعمرو موسى.. والدكتور أحمد هيكل.. والدكتور حسين كامل بهاء الدين.. والشيخ يوسف القرضاوى.. وأحمد عبد المعطى حجازى.. وغيرهم.. وغيرهم.. عشرات الأسماء والشخصيات.. ومئات الآلاف من الرواد كان معرض الكتاب يجتذبهم ويثير اهتمامهم بالقضايا العامة، حتى أصبح هذا المعرض بحق كما كان يصفه (عرس الثقافة المصرية والعربية).
لقد كان سمير سرحان هونفسه مؤسسة ثقافية مليئة بالحيوية والنشاط والإبداع والقدرة على تحويل الأفكار الصعبة إلى واقع.. كان من أهم أعمدة الثقافة دون شك.. ومع ذلك لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية إلا قبل رحيله بأيام عندما تأكد السادة أعضاء المجلس الأعلى للثقافة أنه أغلق ملفاته وانسحب من الساحة واستسلم فى معركته مع المرض اللعين.
وسبحان الله.. هناك أشخاص نتعامل معهم وكأنهم باقون، كما هم ولن يأتى يوم ليختفوا من حياتنا، ولا يخطر ببالنا أننا سنفقدهم فى يوم من الأيام، شخصيات تبدو راسخة فى وجداننا ومؤثرة فى حياتنا وتفكيرنا.. وتملأ الساحة بالحيوية بتواجدها الدائم.. شخصيات مثل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وشوقى ضيف، ولويس عوض، وصلاح عبدالصبور، ويوسف إدريس، من يصدق أنهم يموتون؟.. إنهم يذهبون ولكنهم باقون.. حاضرون.. ومؤثرون فى عقولنا.. ومن هؤلاء سمير سرحان.. من يصدق أنه يموت؟. من يصدق أن هذا الرجل صاحب القلب الكبير الذى يتسع لكل من يتعامل معه حتى الذين تحولوا إلى نقاد وخصوم دون سبب إلا أن يكون نجاحه وتألقه سببا فى استفزاز الفاشلين، ولم أشعر يوما أنه يحمل ضغينه لأحد.. لم أسمعه يتحدث عن أحد بسوء..
فى مقال أخير له تناول بالتحليل قصة السيدة الأمريكية التى نهش كلبها نصف وجهها، وحول حياتها إلى مأساة، حيث لم تعد قادرة على تناول الطعام ومضطرة إلى وضع قناع يخفى نصف وجهها المفقود، وقال إننا جميعا نتعرض لمن ينهش لحمنا دون سبب تماما، كما حدث لهذه السيدة التى لم تبادر بإساءة إلى الكلب، ولم تتوقع منه الغدر وهو صديقها!
كانت رسالة سمير سرحان فى كتاباته وأعماله هى تحريض العرب على التفكير والعمل.. ويقول: هل يمكن أن تظل أمتنا مستوردة لكل ما يصنعه الغرب من نتاج أبحاثه وجهده وإبداعه، ويركب العرب سيارات من صنع الغرب، ويشاهدون التليفزيون الذى اخترعه الغرب، ويستعملون لمبة الكهرباء والثلاجة وجهاز التكييف والفاكس والتليفون والانترنت والمصعد الكهربائى والطائرة، ويستخدمون فى حياتهم اليومية أدوات وأشياء كلها من ابتكار وصناعة الغرب.. ويستلقى العرب على الأرائك ينتظرون ما يقدمه الغرب لهم دون أن يفعلوا شيئا سوى انتظار الفرج الآتى من الغرب.. هل يمكن أن ينشغل الغرب بقضايا العلم المعقدة من الاستنساخ إلى اكتشاف الكواكب فى الفضاء والعرب لم يبدأوا خطواتهم الأولى للاجتهاد فى أمور العلم وبناء الحضارة، وشيوخهم مشغولون فى البحث عن الحكم فى حالة سيدة لديها كلب ذكر؟.. وهل يجوز شرعا أن تخلع ملابسها فى حضوره؟. وقد استغرق الشيخ وقتا طويلا فى إحدى القنوات الفضائية وهو يحلل ويستعرض أقوال الفقهاء فى هذه المسألة!!
سمير سرحان كان رائدا من رواد التنوير، ومعاديا لفكر التخلف.. كان داعيا للعلم ومحاربا لكل دعوات التجهيل.. ومحرضا على التقدم ومحاربا لكل صور التخلف.. كان مصريا عربيا داعيا للوطنية والقومية.. كان يرفض وضع المرأة كتابع لرجل ويدعو إلى أن تكون شريكا للرجل ومشاركة فى العمل وبناء المجتمع.. وكان صاحب رسالة اجتماعية يحذر من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ومن تآكل الطبقة الوسطى وانقسام المجتمع إلى من يملكون ومن لا يملكون.. وينبه إلى أن الإرهاب فى بدايته فكر منحرف وثقافة متخلفة.. كان يدعو إلى ثورة معرفية تغير من مناهج التعليم وطرق التدريس وتعيد الجامعة إلى مكانها الصحيح وتتخلص من التفكير التقليدى.. كما يدعو إلى تصحيح العلاقة بين المثقفين والسلطة.
لقد ترك سمير سرحان ثورة هائلة من الأفكار فى مئات المقالات، وفى كتبه العديدة.. كما ترك عشرات التلاميذ الذين تعلموا منه وتأثروا بمنهجه التقدمى فى التفكير ورؤيته المستقبلية لوطنه.. وترك أصدقاء كثيرين يعرفون قيمته ومكانته فى تاريخ الفكر والثقافة المصرية.
وكلما حاولت أن أقنع نفسى بأن سمير سرحان لن يكون موجودا بشخصه فى حياتنا الثقافية أجد العزاء بأنه سيبقى موجودا بفكره وأعماله ومبادئه.. وهى باقية ومؤثرة فى عقولنا ولن تموت.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف