صـوت المعارضـة فى أمريكـا!
نعوم تشومسكى، المفكر السياسى الأمريكى، وعالم اللغويات الشهير، والأستاذ بجامعة ماساتشوستس الذى تخرج على يديه عشرات ممن يشغلون مقاعد الأستاذية فى جامعات العديد من دول العالم.. هو أقوى صوت للمعارضة التى تزداد عنفا للسياسة العدوانية لأمريكا وإسرائيل.
ورغم أنه يهودى أمريكى، ولا يشكك فى ولائه أحد، إلا أنه- كما يصفه أنصاره- يمثل الضمير وصوت العدل فى أمريكا، وأنه يرفض العدوان الأمريكى والإسرائيلى من منطلق سياسى وأخلاقى، وأيضا من منطلق حرصه على أمريكا وإسرائيل؛ لأنه يرى فى هذه السياسة خطرا يهددهما فى المستقبل.
وقد زار تشومسكى لبنان مؤخراً وألقى فيها أربع محاضرات احتشد لسماعها آلاف من المثقفين والسياسيين ضاقت بهم القاعات فتابعوا أحاديثه عبر شاشات كبيرة أقيمت خارجها. وكانت محاضراته عن الهيمنة الأمريكية وتأثير اللوبى الصهيونى على السياسة الأمريكية، وعما أسماه (جذور القوة والإرهاب) فى عمق الثقافة الأمريكية. وقدّم تشومسكى تحليلا للاستراتيجية (الامبريالية) التى تتبناها الإدارة الحالية (المحافظون الجدد) وهى استراتيجية تعتمد على فرض إرادة أمريكا على الدول. وعلى التجمعات الدولية، وعلى المنظمات الدولية، وذلك لتحقيق المصالح الأمريكية على حساب مصالح الدول الأخرى بما فى ذلك أقرب حلفائها (دول أوربا واليابان وغيرها).
ورغم أنه تجاوز الثامنة والسبعين فإنه لا يزال محتفظا بحيويته الذهنية وتوقد فكره. وقد هاجر إلى إسرائيل فى شبابه وعاش فى كيبوتز عدة سنوات مأخوذا بالشعارات والأساطير الصهيونية، ثم اكتشف حقيقة النوايا الإسرائيلية، وشاهد عن قرب الجرائم التى ترتكبها، فلم يحتمل ضميره السكوت على المجازر التى ترتكبها الجماعات الصهيونية وقوات جيش الدفاع ضد الفلسطينيين وعمليات اغتصاب الأراضى وتشريد أصحابها الفلسطينيين، فعاد إلى أمريكا ليصبح أقوى المعارضين لسياسة إسرائيل، وقام بتأليف عدة كتب كشف فيها حقيقة المشروع الصهيونى وتأثيره على القرار الأمريكى، كما كشف عما يسميه الخداع الأمريكى فى مفهومها للإرهاب كما تتحدث عنه إلى العالم، واختيارها لدول معينة بالذات وتعتبرها (العدو) و(محور الشر). بينما تمثل أمريكا- فى رأيه- القوة الإرهابية الأكثر خطرا على العالم.
ورغم كراهية مجموعة المحافظين الجدد الحاكمة الآن لهذا المفكر فإنها لم تستطع أن تسكت صوته المدوى، ولا التقليل من الصدى الواسع لآرائه داخل وخارج أمريكا حتى أن صحيفة نيويورك تايمز قالت عنه إنه من أكثر المثقفين تأثيراً فى العالم بأفكاره السياسية، وبأبحاثه ونظرياته فى علم اللغويات وهى من المصادر الأساسية التى تعتمد عليها الدراسات والأبحاث الأكاديمية فى جامعات العالم.
وفى محاضراته فى لبنان قال إن سياسة أمريكا الآن لا تختلف كثيراً عن سياسة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، فهى سياسة قائمة على معاقبة الشعوب، ومعاقبة كل من يرفض الخضوع للهيمنة الأمريكية، وتستخدم للعقاب ما أسماه (سياسة الخنق الاقتصادى) للضغط على الشعوب ودفعها إلى التمرد على قادتها والتخلى عن مبادئها ومصالحها، وضرب مثلاً على ذلك ما تفعله الإدارة الأمريكية مع الشعب الفلسطينى عقابا له على اختياره حكومة حماس وصدق دعوة أمريكا للشعوب بممارسة الديمقراطية واختيار من يمثلها بحرية! وقال إن إسرائيل ليست إلا صورة مكررة للولايات المتحدة ولديها نفس الاستراتيجية التى تتمثل أولاً فى اقتصاد متطور يرتكز على الصناعات العسكرية وتصدير السلاح، كما تتمثل ثانياً فى العمل على توسيع نفوذها فى المنطقة. وقدم تشومسكى تحليلا تاريخيا لما أسماه (جبروت الهيمنة) الممتد منذ القرن التاسع وحتى اليوم. وضرب مثلا بالحصار المضروب على الشعب الفلسطينى وغيره من الشعوب والذى عانت منه الهند والصين وفيتنام وكوبا وكمبوديا وكوسوفا، وتعانى منه الآن العراق وأفغانستان.. وقال تشومسكى إن الإدارة الأمريكية استغلت أحداث 11 سبتمبر المروعة لتنفيذ مشروعها الإمبراطورى الذى يثبت أنه لا فرق بين الاستعمار القديم الذى كانت تمثله بريطانيا وفرنسا، والاستعمار الجديد الذى تمثله الولايات المتحدة الآن.. وفى رأيه أن الأهداف والوسائل واحدة، والأقنعة والحجج واحدة مثل المساهمة فى تحقيق التقدم والديمقراطية للشعوب المقهورة بينما الحقيقة هى استغلال الأقوى للأضعف.
وحين سئل تشومسكى: ما الحل..؟ وماذا يمكن للشعوب الضعيفة أن تفعل أمام (جبروت القوة)..؟ أجاب: على الضعفاء أن يتكتلوا ويقوموا بانتفاضة جماعية ضد الظلم، وضرب أمثلة من التاريخ القديم والحديث لشعوب ضعيفة استطاعت أن تتحرر من الهيمنة وجبروت القوة ونالت حقوقها بالإصرار والمثابرة، وكأنه يطرح شعارا جديدا للقرن الحادى والعشرين هو: (يا ضعفاء العالم اتحدوا) لمواجهة جبروت القوة!
وطلب تشومسكى زيارة معسكر الخيام الذى كانت إسرائيل تستخدمه كمعسكر اعتقال للبنانيين والفلسطينيين، وفاجأ مرافقيه بإصراره على دخول زنزانة وإغلاق بابها عليه، وبقائه فيها لفترة من الوقت ثم خرج منها مكفهراً يقول: إنها لحظات قاسية ومؤلمة أردت أن أجرب مرارتها بنفسى وكدت أختنق بعد دقائق، فكيف كان حال الذين أمضوا فيها 12 عاما وكيف حال المعتقلين الذين يعيشون فى ظروف لا تقل سوءا فى جونتانامو وفى المعتقلات الأمريكية فى العراق وأفغانستان والمعتقلات الإسرائيلية المكدسة بالشيوخ والشباب والنساء والأطفال الفلسطينيين؟!
وركّز تشومسكى فى إحدى محاضراته على استخدام أمريكا لما تملكه من تكنولوجيا فائقة التطور لإحكام الهيمنة على العالم، كما شرح حقيقة العولمة التى تقودها أمريكا فقال إنها الوسيلة لفرض الهيمنة الاقتصادية لأمريكا على الجميع وهى الوجه الآخر للهيمنة السياسية، وضرب مثلا على هيمنة الشركات الأمريكية العملاقة فى مجال المعلومات والتكنولوجيا الرقمية وقال: انظروا إلى شركة مايكروسوفت عملاقة البرمجيات ونظم تشغيل الكمبيوتر وكيف أصبحت لها السيطرة على نظام التشغيل (ويندوز) فى أجهزة الكمبيوتر فى جميع أنحاء العالم، وانظروا كيف سيطرت أمريكا بتفوقها التكنولوجى على شبكة الإنترنت وسيطرت بذلك على المعلومات والاتصالات التى تتعلق بدول العالم وبكل إنسان فيها تقريبا، وانظروا كيف تحولت الشركات الأمريكية إلى كيانات ديناصورية امتد نفوذها الاقتصادى والسياسى للتأثير فى الدول..
وقال تشومسكى أيضا: تأملوا نموذج مايكروسوفت فإنه يعطيكم مفتاح معرفة أمريكا.. فقد بدأت صناعة الكمبيوتر والكمبيوتر فى القطاع العام وظلت الحكومة تنفق على الأبحاث والتجارب والتطوير منذ الخمسينات واستمرت تنفق عليها ثلاثين عاما، وبعد ذلك سلمت هذه الصناعة جاهزة إلى شركة مايكروسوفت التى يملكها شخص واحد هو بيل جيتس الذى أصبح أغنى رجل فى العالم تزيد ثروته على خمسين مليار دولار. وهذا النموذج تكرر فى شركات أخرى، وترتب على ذلك انتقال الثروة والسلطة والتأثير فى القرار من القطاع العام إلى أفراد وشركات تجارية خاصة تتحكم فى الإنتاج والتوزيع والأسعار كما تتحكم فى توجيه السياسة الداخلية والخارجية لأمريكا وللعديد من دول العالم.
وتحدث تشومسكى عن وسائل الإعلام الأمريكية التى تملك معظمها شركات خاصة وتحولت إلى كيانات ضخمة تبيع الجمهور إلى الشركات التى تخصص ملايين الدولارات للإعلانات وتؤثر بها على سياسة وبرامج هذه الشركات وعلى عقول جمهور المستهلكين.. كما تسيطر شركات خاصة محدودة العدد على الإنترنت. وكانت شبكة الإنترنت فى نشأتها مملوكة للقطاع العام (وزارة الدفاع) وكان استخدامها مجانا وليس بهدف الربح، وعندما اتسعت قاعدة المستخدمين انتقلت ملكية الشبكة إلى شركات خاصة تحقق من ورائها أرباحا طائلة وتؤثر فى عقول وأذواق عشرات الملايين حول الكرة الأرضية، وتركز أكثر على خدمات التسوق والتسلية وتجعل البحث عن المعلومات والوصول إليها هو الأصعب.
إن تشومسكى مفكر يستحق أن نقرأ أفكاره ونظرياته سواء نتفق أو نختلف معها كلها أو بعضها، لأنه صوت مختلف.. ولأن الصراحة، والقوة، والحرية التى يعارض بها السياسة الأمريكية والإسرائيلية تكشف الخفايا، وهى فى النهاية تحسب لصالح الديمقراطية الأمريكية.