حكايات عن البابا شنودة
حكى لى الإذاعى الراحل محمد سعيد زايد أنه قبل أن يلتحق بالإذاعة ليشرف على البرامج العسكرية ويقدم برنامجه الشهير «كلنا جنود» كان ضابطاً فى القوات المسلحة وكان قائده المباشر هو الضابط نظير جيد الذى أصبح البابا شنودة، وقال وهو يتذكر أيامه معه إن «نظير جيد» كان قد التحق بكلية ضباط الاحتياط، وفى شهر رمضان كان يشرف على إعداد الإفطار والسحور لجنود الوحدة المسلمين، وكان مما يلفت نظرهم أن الضابط «نظير جيد» يؤجل طعام العشاء الخاص به ويتناول السحور مع جنوده.
ويهتم بزيادة الوجبات فى شهر رمضان ويحتفل به معهم، ويوقظهم للسحور، وفى حرب فلسطين عام 1948 شارك فيها الملازم «نظير جيد» كضابط مقاتل وعاش فى الخنادق مع الضباط والجنود، واشترك معهم فى الاشتباك مع العصابات الصهيونية، وعاش مرارة اللحظات التى يسقط فيها الشهداء، دون أن تفرق قنابل العدو بين مسلم وقبطى.
وعندما دخل فى سلك الرهبنة فى 18 يوليو 1945 وتخلى عن اسمه لكى يولد من جديد عاش فى دير السريان فى صحراء وادى النطرون وأصبح اسمه الراهب أنطونيوس السريانى، وكان مسئولاً عن مكتبة الدير وبعد فترة ذهب إلى مغارة بعيدة عن الدير وتفرغ للوحدة والتأمل وبقى مقيما فيها ست سنوات لا يتحدث مع أحد إلا حين يأتى كل أسبوع أو أسبوعين مندوب من الدير يحمل إليه قليلا من الطعام والماء وكثيرا من الكتب، وبعد 17 سنة أصبح الراهب أنطونيوس هو الأسقف شنودة فى 30 سبتمبر 1962 المسئول عن التعليم الكنسى والمشرف على الكلية الاكليريكية وأحدث انقلابا فى نظام الكلية بأن سمح بالالتحاق بها فى القسم الليلى، وخاض معارك لنشر تعليم الفتيات، وفتح أبواب الاكليريكية لكل من يريد حضور المحاضرات بعد أن كانت مقصورة على الطلبة فقط.
***
وفى 14 نوفمبر 1971 أصبح الأسقف شنودة أسقف التعليم هو البابا شنودة وصدرت وثيقة تقليده المنصب، موقعا عليها من جميع أعضاء المجمع المقدس وأيضاً من بطريريك السريال الأرثوذكس، ومن بطريرك الأرمن الأرثوذكس.. وحين مد الطفل أيمن منير يده وهو معصوب العينين وسحب ورقة وسط التراتيل والصلوات كانت تحمل اسم الأسقف شنودة، كان الأسقف شنودة وحده فى الدير وليس لديه تليفون، فقام أحد الأساقفة بالاتصال بتليفون استراحة «الرست هاوس» القريبة من الدير وقال لمن رد عليه: أرجوك إذهب إلى الدير وأبلغ قداسة البابا شنودة باختياره فى القرعة الهيكلية، وأقيم حفل كبير لتنصيب البابا حضره رئيس الوزراء د. محمود فوزى ورئيس مجلس الشعب حافظ بدوى ونائب رئيس الوزراء د. عبد القادر حاتم ومندوب شيخ الأزهر وعدد كبير من الوزراء والمسئولين ومندوبين من كنائس القدس وأثيوبيا والسودان وأوغندا وكينيا وجنوب أفريقيا والأردن ولبنان والكويت والولايات المتحدة ودول أوروبا.
وحين أبديت دهشتى لثقافته الإسلامية الواسعة قال لى: فى أيام الدراسة كنا ندرس التاريخ الإسلامى، وقد قرأت القرآن وكان تأثيره على لغتى كبيرة، وبعد ذلك كنت معجبا بمكرم عبيد وبفصاحته وقوة تعبيراته واستشهاده بالقرآن، وكان يحفظه وكانت له تعبيرات بليغة مازلت أذكر منها قوله: الرجل الحق هو الذى يتطور دون أن يتغير، ويكبر دون أن يتكبر، ويحتفظ بثباته فى وثباته» وتهكمه على ديوان المحاسبات أيام أمين عثمان وقوله: إنه تحول إلى «ديوان المحاسيب».. وقادنى إعجابى بمكرم عبيد إلى قراءة القرآن.
***
وكان معروفا أن البابا شنوده ارتبط بعلاقة وثيقة مع شيخ الأزهر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى، وقال لى: أنت تعلم كيف بدأت صداقتنا.. بدأت على يديك.. وعشت معنا كل مراحلها وحضرت أكثر لقاءاتنا.. وعندما كنا نجلس متجاورين فى اللقاءات الرسمية تكون فرصة نتحدث فيها بمودة، وعندما سافرنا معا إلى «أبو ظبى» لحضور مؤتمر عالمى عن القدس لفت النظر أعضاء المؤتمر أننا معا أصدقاء.. وأنا أحب أن أستمع إليه، وهو يحفظ القرآن ويستشهد بآيات منه فى كل موضوع.. وعن علاقته مع الشيخ الشعراوى التى بدأت بالاختلاف ثم تحولت إلى صداقة قال: وجدت الشيخ الشعراوى مثلى له شعر رقيق، وفى أول مرة زارنى فيها فى الكاتدرائية أهدانى عباءة فداعبته قائلا: الآن سأكون تحت عباءة الشيخ الشعراوى.. وأهديته كتاب لسان العرب لابن منظور لأنه أستاذ فى اللغة العربية وصاحب أسلوب بليغ.
وعن موقفه المتشدد بعدم السماح للمطلق والمطلقة بالزواج مرة ثانية قال لى: الطلاق يحدث لأتفه الأسباب لأن الزواج يحدث لأتفه الأسباب وإذا عرف الزوجان أن الطلاق غير ممكن فسوف يدقق كل منهما فى الاختيار، وأنا لى كتاب كامل بعنوان «شريعة الزوجة الواحدة» شرحت فيه أسباب عدم إباحه الطلاق فى المسيحية.. ثم ألا نفكر فى مصير الأبناء بعد الطلاق؟. ألا يستحق هؤلاء الأبناء التضحية من آبائهم من أجل حمايتهم من التمزق؟. ثم إن الطلاق مكروه فى كل الأديان.. وفى الإسلام هو أبغض الحلال عند الله، أى أن الله يحب ألا يستخدم الناس هذه الوسيلة، فلماذا لا يلجأ الناس إلى ما يحبه الله بدلاً من أن يلجأوا إلى ما يكرهه.
***
وضمت حكايات كثيرة عن قرار البابا شنوده بمنع الأقباط من زيارة القدس وهى تحت الاحتلال الإسرائيلى قال لى: مرة جاءنى رجل من فلسطين وقال لى إن لديه مشروعا هو أن تدخل الكنيسة شريكا فى مصنع لتعبئة زجاجات من مياه نهر الأردن حيث تعّمد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان فى مياه هذا النهر والمسيحيون يتهافتون على هذا الماء، فقلت للرجل: إن عندى مشروعا آخر، فالسيد المسيح عاش سنوات فى مصر مع أمه السيدة العذراء، وطبعا شربا من ماء النيل، فأصبح ماء النيل مقدسا مثل ماء نهر الأردن، فلماذا لا نقيم المشروع فى مصر لتعبئة مياه النيل المقدسةفى زجاجات؟ وبهت الرجل وانصرف!!
وحين سألته عن الفتنة الطائفية؟! أفاض فى الحديث وكان من بين ما قاله: كانت هناك أحداث خطيرة فعلا ولكنها لا تعبر عن حال الشعب المصرى كله، وقد تكون وراءها أهداف سياسية ترتدى ثياب الدين على اعتبار أن الدين له تأثير أعمق فى نفوس المصريين والأجدى أن نفكر فى العلاج حتى لا تتكرر هذه الأحداث..
كان رأيه فى أحداث الفتنة الطائفية طويلا ومهما.. قد أعود إليه مرة أخرى، لكن المهم أنه ختمه بقوله: لن يستطيع أحد أن يفرّق ما جمعه الله.
واذكر مرة أنى ذهبت إلى الكاتدرائية فى موعدى للقاء البابا شنوده فلم أجده فى المكتب، واستقبلنى سكرتيره الأنبا يؤنس وقال لى: إن قداسة البابا ينتظرك فى المطبعة، وأخفيت دهشتى وأنا أسير مع الأنبا يؤنس إلى أن وجدت فعلا مطبعة صغيرة ملحقه بالمبنى - تحت مكتب البابا - ووجدت البابا شنودة واقفا يرسم صفحات مجلة الكرازة ويشرف على تنفيذها وعمل الاختصارات، وهى مسائل فنية من صميم عمل الصحفى المحترف، وكان البابا شنودة منهمكا فى العمل وإعطاء تعليمات، وقال لى: لا تنس أنى بدأت حياتى صحفيا ومازالت نقابة الصحفيين تحتفظ لى بهذه الصفة وترسل إلى «كارنيه» النقابة سنويا، وكانت المجلة التى يشبع فيها هوايتة للصحافة تنشر أخبار ونشاط الكاتدرائية ومقالات للبابا وللأساقفة ولها قراء ينتظرونها.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف