البهائية تعود من جديد!
أصدرت محكمة القضاء الإدارى برياسة المستشار فاروق عبد القادر حكما يقضى بحق كل من يؤمن (بالديانة) البهائية فى إثبات هذه الديانة فى بطاقته الشخصية وجواز سفره ووثيقة زواجه وغيرها من الأوراق الرسمية.
جاء هذا الحكم مفاجأة، إذ إنه يخالف ما استقر عليه القضاء فى مصر وما أجمع عليه علماء المسلمين، ولذلك بادرت هيئة قضايا الدولة بالطعن فيه أمام المحكمة الإدارية العليا، وبذلك عادت البهائية من جديد لتفرض نفسها على المحاكم ورجال الدين وتشغل الرأى العام فى وقت لا نحتاج فيه إلى مزيد من أسباب البلبلة.. دفعنى هذا الحكم إلى أن أعود إلى ملف قديم ضمن أوراقى يرجع تاريخه إلى السبعينات حين كنت أتابع قضايا البهائية فى دوائر المحاكم ومجامع الفقه الإسلامى ومع أساتذة التاريخ وكتب العقيدة.. وشعرت بالانزعاج حين قرأت فى بعض الصحف أن عدد الذين يؤمنون (بالديانة) البهائية فى مصر يبلغ الآن أكثر من ألفى مصرى، وكانت هذه مفاجأة أخرى لأنى كنت أظن أنها انتهت ولم يعد لها وجود بعد الضجة الكبرى التى أثيرت حولها قبل ذلك. وصدور أحكام قضائية نهائية وملزمة بتأييد حل المحافل البهائية، وصدور قرارات من مجمع البحوث الإسلامية بأن البهائية ليست ديانة ولكنها بدعة نشرها الخارجون على جميع الديانات السماوية الثلاث.
لذلك رأيت أن أعيد إلى ذاكرة الذين عاصروا هذه الضجة ببعض ما غاب عن ذاكرتهم، وأن أشارك فى تنبيه الأجيال الجديدة التى لم تقرأ ولم تسمع ولم تتابع أحداث هذه القصة المثيرة والخطيرة، بل هذه الخدعة – بل هذه المؤامرة الخبيثة على الأديان السماوية – وليس على الإسلام وحده – خاصـة أن المقر الرئيسى لهذه (الديانة) فى إسرائيل، ومنذ عام 1950 – بعد إعلان قيام دولة إسرائيل أصبح (نبى) الدعوة البهائية اسمه ميسون Misson وهو يهودى أمريكى!!
ولنبدأ بالتاريخ لنعرف القصة من بدايتها ومراحل تطورها..
بدأ ظهور هذه (الديانة) الغريبة فى إيران عام 1844 على يد رجل اسمه (ميرزا على محمد الشيرازى) سمى نفسه (الباب) أى المدخل أو الواسطة إلى الحقيقة الإلهية، ولذلك تسمى البهائية (البابية) أيضا. وكان ملخص دعوته فى البداية أنه رسول ينزل عليه الوحى، وأن الإسلام لم يعد صالحا للعصر، ولذلك بعثه الله برسالة جديدة، ووضع كتابًا بعنوان (البيان) قرر فيه نسخ فروض الإسلام، فأصدر العلماء فى إيران فتوى بخروجه عن الإسلام، وظلت الحكومة تطارده باعتباره من مثيرى الفتنة والقلاقل، وأخيرًا أصدر شاه إيران قرارا بإعدامه وتم تنفيذ القرار فى يوليو 1850 وكان عمره فى ذلك الوقت 31 عامًا. وقد استطاع أتباعه أن يأخذوا جثته ودفنوها فى طهران ثم نقلها خليفته – بهاء الله – بعد ذلك سرا إلى عكا فى سنة1909 ولا يزال مدفنه هناك يحج إليه البهائيون من كل البلاد!
وللدكتور عبد المنعم النمر كتاب عن البهائية أشار فيه إلى كتاب يضم مذكرات أحد موظفى السفارة الروسية فى طهران اسمه (كنياز دالفوركى) سنة 1834 وكان فى حقيقته من رجال المخابرات الروسية ووصل إلى منصب وزيـر مفوض ثم إلى منصب السفير، وقد نشر مذكراته أولا فى سنة 1924 فى مجلة (الشرق) السوفيتية التى كانت تصدرها وزارة الخارجية الروسية بعد سقوط القيصرية. وقال فيها إنه كان مكلفا بالعمل على القضاء على احتمالات وحدة المسلمين وتجمعهم، وأثناء بحثه فى تجمعات الفرق ذات العقائد الغريبة عثر على الشاب (على محمد الشيرازى). ويقول إنه صمم على أن يجعله (المهدى) المزعوم: (وبدأت كلما وجدت الفرصة أرسخ فى ذهنه أنه هو القائم المنتظر، ويوميا كنت أناديه: يا صاحب الأمر. يا صاحب الزمان. فكان فى أول الأمر يترفع، ولكنه لم يلبث حتى أصبح يبدى السرور من هذه المخاطبات.. وكان للحشيش دوره وأثره مع تلك الرياضات التى كان يعاودها لتحقيق هذه الأمنية، ثم انتقل من مدينة كربلاء إلى مدينة بوشهر وفاجأنى بخطاب أرسله إلى فى مايو 1844 يخبرنى ويدعونى بأنه (صاحب الزمان، وإمام العصر، وليس بابه أو نائبه) فكتبت إليه بإلحاح (أرجوك لا تحرمنى حقيقتك، ولا تحجبنى من أصلك، فأنا أول المؤمنين). ويعلق الجاسوس الروسى على ذلك بقوله: (وهكذا حمدت الله أن سعيى لم يضع، وقد بذلت فيه الجهد الكبير وأنفقت الوقت الكثير).
ومذكرات الجاسوس الروسى ترجمت من الروسية إلى اللغة الفارسية ثم ترجمها إلى اللغة العربية الحاج سيد أحمد الغالى الكربلائى وطبعت فى بيروت. وقد نشر الدكتور النمر هذه المذكرات فى ملحق كتابه بعد أن حصل على صورة منها من الأستاذ سالم الألوسى من علماء العراق أثناء وجود الدكتور النمر فى العراق عام 1988 للتدريس فيها. وفى هذه المذكرات يقول الجاسوس الروسى إنه أعلن إسلامه وتزوج فتاة إيرانية.
يشير الدكتور النمر أيضًا إلى ما ذكره العلامة محمد حسين آل كاشف الغطا فى مقدمة كتابه (الحقائق الدينية فى الرد على العقيدة البابية): (كنا قبل سنوات قد عثرنا على كتيب صغير بالفارسية لأحد الأفاضل من علماء الدين الذين عاصروا الباب وذكر أن رجلاً من روسيا أتى طهران بعد أن انتزع الروس مملكة القوقاز من الدولة الإيرانية، وأراد أن يشغلها عن استرجاع ما غصب منها، فتعلم اللغة الفارسية وأتقنها، ثم أظهر التدين بالإسلام، ولبس زى أهل العلم بلحية كبيرة وعمامة كبرى وعباءة ومسبحة، ولازم صلاة الجماعة، ودرس شيئا من المبادئ، واشتهر اسمه بالشيخ عيسى، ثم جال وصال فى مدن إيران من أصفهان إلى شيراز فوجد فيها ضالته فى غلام صار فيما بعد هو (الباب).. ولم تكتف الحكومة الروسية بذلك، بل دفعت الروسى (منو جهرخان) لإعلان إسلامه هو الآخر، واستطاع التقرب إلى الشاه محمد واكتساب ثقته حتى عينه معتمدا للدولة فى أصفهان، فكان له دور خطير جدًا فى توسيع نار الحركة البابية مستغلا ثقة الشاه، كما قام بإخفاء الميرزا على (الباب) فى بيته أربعة أشهر حين كان يطارده الشاه. وتبرع بأمواله للدعوة البهائية، وعمل على شغل المسلمين فى إيران بالصراع مع البابية لكى يخلو الجو لروسيا لتنفيذ مخططها لاحتلال البلاد.. ولذلك ساعدت روسيا هذه الديانة الغريبة لكى تمارس دعوتها بين المسلمين فى روسيا وسمحت لهم بإقامة معبدين أحدهما فى (باكو) والثانى (فى عشق أباد)..
يستدل الدكتور النمر من هذه الوقائع بداية ارتباط (البابية) فى بدايتها بالاستعمار الروسى الذى كان يسعى إلى شغل المسلمين بإشعال الفتنة بينهم، وبعد ذلك استمرت صلة هذه الدعوة بالاستعمار فى العالم الإسلامى، فانتقلت من الارتباط بروسيا، إلى الارتباط ببريطانيا فى عهدها الاستعمارى، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة حين أصبحت هى القوة العالمية التى تسعى إلى الهيمنة على العالم.. وهى الآن تمارس نشاطها من مقرها الرئيسى فى إسرائيل!
أما علاقة (البابية) بإسرائيل وبالصهيونية فهذه قصة أخرى سنعود إليها.
المهم.. حين استفحل خطر الميرزا على ودعوته أمر شاه إيران (ناصر الدين شاه) بقتله فى يوليو 1850 بعد مناظرة بينه وبين العلماء ظهر فيها الحق على الباطل، وبعد إعدامه استطاع أتباعه تهريب جثته إلى طهران مؤقتًا ثم نقلوها بعد ذلك إلى حيفا حيث دفن على جبل الكرمل.
وبعد ذلك انقسمت الطائفة (البابية) إلى قسمين، أحدهما بزعامة شقيق (الباب) وهو الميرزا حسين وأخيه الميرزا يحيى، وقد بلغ التعصب بأنصارها إلى حد إطلاق النار على الشاه ناصر الدين شاه فتم القبض على الميرزا حسين وعدد من أنصاره، وأخيرًا قررت الحكومة الإيرانية نفى الأخوين إلى بغداد، وبعد ذلك قامت الحكومة العثمانية التى كانت العراق إحدى ولاياتها بإبعادهما إلى الاستانة عاصمة الخلافة فى أغسطس 1863 ثم قامت بإبعاد الميرزا حسين إلى عكا فى فلسطين، وكانت من أملاك الدولة العثمانية، ونُفى الشقيق الآخر (يحيى) وبعض أصحابه إلى جزيرة قبرص سنة 1865 بعد أن أصبح وجودهما فى الاستانة مثار إخلال بالأمن.
كان الميرزا حسين هو الأقوى والأكثر نفوذًا بين أتباعه فسمى نفسه (خليفة الباب) ثم ادعى النبوة بعد ذلك، ثم ادعى أن الإله حل فيه وسمى نفسه (بهاء الله) وأصبحت الطائفة البابية تعرف باسم (البهائية) وألف كتابا بعنوان (الأقدس) ادعى أنه وحى من الله، ووصف نفسه بصفات الله وقال فى كتابه: (لا إله إلا أنا المقتدر المتكبر، المتسخى، المتعالى، العليم، الحكيم، لا إله إلا هو المقتدر على العالمين) ودعا فى كتابه إلى توحيد الأديان على شريعة موسى، وأدخل تغييرًا على العبادات فى الإسلام، وفى الصلاة والصوم والحج والطهارة وغيرها، وقرر تغيير الشهور بتقويم خاص يبدأ من ظهور دعوة الباب سنة 1844، وأعلن أنه لا يؤمن بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل.
وعاش البهاء طويلاً إلى أن توفى فى مارس 1892 فتولى الأمر ابنه عباس.. وبذلك يبدأ فصل جديد فى تاريخ البهائية نستكمل استعراضه الأسبوع القادم إن شاء الله.. فالحديث طويل، والأمر خطير.. والله المنجى.