د. بطرس وعبد الناصر والسادات ومبارك
الدكتور بطرس غالى كما يعرفه الجميع متحفظ جدا فى كلامه. وإذا سألته عن رأيه فى أية شخصية سياسية فى مصر أو فى العالم فلن تظفر منه إلا بإجابات غامضة ومراوغة. ولأنى أتفهم جيدا طبيعة الدكتور بطرس وطبيعة ظروفه لم أفكر أبدا فى أن أسأله مثلا عن رأيه فى عبد الناصر أو السادات أو مبارك وقد كان قريبا منهم ويعرف الكثير مما فى الدهاليز والكواليس.. ولكنى فوجئت بأنه يكتب آراءه بصراحة-ليست مطلقة!-فى دفتر يومياته ولا يسمح لأحد بالاطـلاع عليها، وفوجئت مرة ثانية بالدكتور بطرس يرفع الحظر عن بعض-وليس عن كل-ما فى دفتر يومياته وخواطره.
ورأى الدكتور بطرس فى الزعماء والقادة الذين تعامل معهم له أهمية تاريخية دون شك، ويلقى بعض الضوء لفهم هذه الشخصيات التى اختلفت حولها الآراء ممن اقترب منهم ومن لم يقترب. وتعرضت لافتراءات وأكاذيب وتصفية حسابات من ناحية، كما تعرضت لعمليات تلميع وتجميل مبالغ فيها من ناحية أخرى حتى أصبح التعرف على الحقيقة مجردة أمرا صعبا فى زمن أصبح فيه الإعلام بديلا عن الحقيقة.
لا تجد فى أوراق بطرس غالى الكثير عن عبد الناصر، وسألته عن السبب فقال لى: هذه فترة أحب أن أنساها. وحين ألححت عليه قائلا: هذا تاريخ البلد وأنت شاهد على جانب منه ومن حقنا أن نعرف ما رأيته فهى شهادة تفيد المؤرخين.
قال: فى بعض الحالات يجب أن ننسى التاريخ. مثلا حرب 56 كانت هزيمة وقلبناها انتصارا جيل من المثقفين ضاع.. صحيح أننى كنت متحمسا لسياسته الخارجية.. عدم الانحياز.. أفريقيا.. الدور الذى كان يقوم به محمد فايق فى أفريقيا.. كانت فترة تحرير ومكافحة الاستعمار.. كان عبد الناصر قويا وناجحا فى سياسته الخارجية وفيما عدا ذلك فقد رأيت فشلا ذريعا.
وماذا عن السادات: يقول الدكتور بطرس:
-زيارة الرئيس السادات إلى القدس هى الحدث الأهم فى حياتى السياسية والدبلوماسية. السادات فى نظرى مثل النبى موسى لم يشاهد الأرض الموعودة. فقد توفى قبل استرجاع سيناء؛ هذه الأرض المقدسة التى دفع جنود مصريون كثيرون حياتهم ثمنا للدفاع عنها. لقد تعرفت على أنور السادات فى الخمسينات فى أثناء برنامج إذاعى بمناسبة يوم الأمم المتحدة. كان رفاقه ينظرون إليه حينها على أنه العجلة الاحتياطية فى العربة، وكان يحلو للمجتمع الراقى فى القاهرة أن يهزأ من الفلاح الذى كانوا يطلقون عليه على سبيل السخرية لقب الحمار الأسود فى الصالونات المخملية. كان يؤخذ عليه مزاجه المتقلب، ووصوليته، فهو حينا مع الإخوان، وحينا آخر مع الماسونيين، وحتى نجده فى حين آخر مؤيدا للفكر النازى، ومع ذلك كان الأكثر ثقافة من بين المجموعة العسكرية التى قامت بالانقلاب فى يوليو 1952 (لاحظ أن بطرس غالى يعتبر ثورة يوليو انقلابا عسكريا!!) والسادات-كما يقول الدكتور بطرس-هو الذى كان يحيط نفسه بالفنانين والمثقفين والصحفيين.
يقول د. بطرس : لم يكتشف هذا الرجل (السادات) على حقيقته إلاّ بعد زيارته للقدس فى نوفمبر 1977 يومها ولد رجل جديد. نجم جديد مشى نحو الهدف الذى حدده دون أن يساوره أدنى شك أو تردد.. توقيع السلم مع إسرائيل. إنه قائد يستحق هذا اللقب، ورجل دولة مقتنع بصواب ما يفعل، غير مهتم بإرضاء الجماهير.. يرفض الانصياع لدكتاتورية الرأى العام ويعرف كيف يتخطى تردد أقرب مستشاريه.. يجب أن أعترف بأنى كنت من بين مجموعة الحذرين التى كانت تخشى فشل مبادرة الرئيس السادات، وكانت هذه المجموعة تفكر سرا فى الاحتمالات البديلة، إلا أن الفرق بين السياسى ورجل الدولة أن الأول يفكر فى الانتخابات المقبلة، بينما يفكر الثانى فى الجيل القادم. وباستثناء عصابة المتملقين التى كانت تحيط به والتى كانت تلعب دور الكورس فى التراجيديا اليونانية، فإن السادات خاض معركته بعزلة تامة، بعد أن عزله العالم العربى والعالم الإسلامى واتهماه بالخيانة، وتخلت عنه أوربا، وأدان الاتحاد السوفيتى خطوته، وحتى الولايات المتحدة ترددت فى التدخل طيلة الفترة التى سبقت الاجتماع الأول فى كامب ديفيد فى سبتمبر 1977.. ما يميز الرجل الحر هو تعرضه للهجوم من أصدقائه وأعدائه فى الوقت نفسه!
لقد رأيته فى أوقات غضبه، فكان يتكلم بصوت عال وكأنه يخاطب جمهورا كبيرا، كما رأيته فى أوقات انشراحه فكان يهنئك مرددا: برافو.. برافو.. لكنه كان وحيدا، ومع ذلك فإنه لم يفكر فى أى وقت من الأوقات بالتراجع أو تغيير وجهته، علما بأن العالم العربى والإسلامى انتظر بحرارة هذا التحول الذى هو أشبه بعودة الابن الضال!
كان السادات كأنه يستمد من عزلته ووحدته قوة إصراره، وبداهة يقينه بأنه سوف يحصل فى النهاية على الانسحاب الإسرائيلى من كامل الأراضى المصرية، وفى مرحلة لاحقة يحدث الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية المحتلة.
ولأن السادات كان معجبا بالحضارة الغربية، ولأنه كان يحبها، ولأنه فهم مثل مفكرى النهضة فى مطلع القرن العشرين أن مستقبل مصر يمر عبر الشراكة مع الغرب، فقد عرف كيف يكسب محبة الشعوب الغربية، كما كان لديه ضعف تجاه الفنانين والكتّاب الأمريكيين والأوربيين، وتجاه ممثلى الأرستقراطية القديمة، ولكنه على الرغم من عشقه لـ (بلاد بره) كان فى العمق ابن موظف مصرى، فخور بجذوره، وبقريته ميت أبو الكوم.. كان يحب أن يلبس جلابية الفلاحين، كما كان ينجذب إلى بدلات كبار المصممين والقمصان ذات الياقة المنشاة مثبتا بذلك أنه نجح فى تحقيق هذا المزيج السحرى بين العالم الإسلامى والعالم الغربى.
يكرر د. بطرس كثيرا قوله عن زيارة القدس: سيسجل التاريخ أن هذه الزيارة الاستثنائية هى من المحطات البارزة فى القرن العشرين. ويقول: لقد تعرضت لانتقادات جنرال مصرى ووجه إلى اللوم على قولى إن الرئيس السادات اختار العالم الغربى، ووجه اتهامه إلى ثقافتى الفرنسية وأنها المسئولة فى نظره عن هذه الرؤية المجتزئة للواقع. وقد واجهته بأنه يجهل على ما يبدو وجود مجموعة متميزة من المثقفين المصريين تعمل للانفتاح على الغرب، وأذكّره بقول الخديو إسماعيل: (إن حلمى أن تصبح مصر يوما جزءا من أوروبا) ثم استشهد أخيرا بصفوة الكتاب المصريين من أمثال طه حسين، وقاسم أمين، والدكتور هيكل، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم، والدكتور حسين فوزى الذين رأوا أن مستقبل الثقافة المصرية محكوم بالانفتاح على الغرب.. لكن هذا الحوار كان جهدا ضائعا وظل الجنرال متمسكا بموقفه!
وهكذا تعرض د. بطرس لمواقف صعبة وجد فيها نفسه فى موقف الدفاع عن آرائه وموقفه من السادات. ففى لقاء جمعه فى باريس مع الأخضر الإبراهيمى الدبلوماسى الجزائرى المعروف وجهاد الخازن الكاتب اللبنانى الشهير يواجهانه بأن زيارة الرئيس السادات إلى القدس هى سبب الأزمة الحالية فى العالم العربى. ويواصل التعبير فى هذا اللقاء عن اعتقاده بأن العالم العربى نفسه هو المسئول عن هذه الأزمة، ولا يمكن لأحد أن يزعزع قناعته بأن تلك الزيارة أتاحت لمصر أن تستعيد وحدة أراضيها، كما أتاحت لها أيضا أن تعزز موقفها على الساحة الإقليمية وأن تلمّع صورتها فى نظر المجتمع الدولى، وكل هذه العوامل لا يمكن إلا أن تشكل عناصر قوة للعالم العربى.. ولكن الأخضر الإبراهيمى وجهاد الخازن كان لهما موقف منذ البداية شجبا فيه (خيانة) أنور السادات للعالم العربى ولفلسطين، وكان يريد أن يقول لهما إن البلاد العربية تنساق بعد عشرين سنة إلى ما رفضته فى ذلك الوقت، لكنه لم يشأ إحراجهما، خاصة وأن اللقاء كان على الهواء لإحدى الفضائيات العربية وكان يديره الإعلامى الكبير حمدى قنديل.
ومع ذلك فإن بطرس غالى يتوقف باحترام أمام ما فعله السادات مع شاه إيران السابق، ويقول: كان الشاه والسادات يرأسان أقوى دولتين فى الشرق الأوسط، وكان لقاؤهما فى يوم 9 يناير 1978 فى أسوان لكى يعقدا حلفا مقدسا لمواجهة الشيوعية ولكى يحولا المنطقة إلى منطقة سلام وأمن، وبعد سنة واحدة، فى 16 يناير 1979، أقيم الاحتفال الرسمى نفسه فى أسوان أيضا، ولكن لم يكن من أجل التخطيط لمستقبل المنطقة وإنما من أجل ترتيب رحيل الشاه إلى المنفى، ومات الشاه بعد عام فى أرض مصر حيث لقى الضيافة التى حجبها عنه المجتمع الدولى.. كل الدول خانت الشاه، وكلها رفضت أن تقدم له حق اللجوء على أراضيها.. رئيس دولة واحد هو أنور السادات تحلى بالشجاعة وسمو النفس فاستقبله واستضافه فى أرض مصر ودفن فيها.
وماذا عن الرئيس مبارك؟ يبدو د. بطرس متحفظا ومقلا فى الحديث عن الرئيس مبارك، وحين سألته عن ذلك قال: إنك لا تستطيع الوصول إلى الحكم الصحيح إلا بعد فترة زمنية، ومبارك عموما يتميز بأنه عملى، برجماتى، يستطيع أن يصل إلى جوهر الموضوع بسرعة، ويعطيك رأيه فى كلمات محدودة ومحددة، ولا شك أنه زعيم وطنى مخلص لبلده، واجه ويواجه صعوبات ومشاكل وتعقيدات كثيرة ولكنه يملك الصبر والتحدى ولا يستسلم، أذكر أنه جرى نقاش حاد أثناء العشاء المقام على شرف الرئيس السادات والسيدة قرينته فى السفارة المصرية فى باريس فى مساء 25 نوفمبر 1998، وكان النقاش حول وضع الأقباط فى مصر، فأبدى الرئيس مبارك امتعاضه، وقال بحسم إنه بالنسبة إليه الأقباط والمسلمون هم مصريون أولا، غير أن عمرو موسى وزير الخارجية فى ذلك الوقت قال إنه فى بعض المدن الصغيرة فى الصعيد توجد حالات تمييز بين الطائفتين، فيعارضه الرئيس مبارك بشدة ويكرر أنه بالنسبة إليه لا يوجد أى تمييز. كلهم مصريون.
وأخيرا يكفى-رأى د. بطرس-أنه لم تحدث فى عهد مبارك الأخطار التى وقعت فى عهود سابقة.
وماذا عن بقية الشخصيات التى عرفها د. بطرس وتعامل معها!
هذا حديث آخر!.