الدكتور بطرس فى انتظار بدر البدور !
للدكتور بطرس غالى مكانة خاصة عندى. فقبل أن ألتقى به فى بداية السبعينات لأول مرة كنت حريصا على أن أقرأ كتبه فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية التى كان يدرسها لطـلابه حين كان أستاذا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وفى نفس الوقت كان رئيسا لتحرير مجلة السياسة الدولية ومجلة الأهرام الاقتصادى.
وكنت فى ذلك الوقت محررا للشئون القضائية والقانونية فى الأهرام ولى باب أسبوعى بعنوان (مع القانون) أنشر فيه أحدث المبادئ القانونية التى تصدرها المحكمة الدستورية ومحكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا. وفى يوم طلبنى الدكتور بطرس فى مكتبه فى الأهرام وطلب منى أن أكتب صفحة فى الأهرام الاقتصادى تقدم ثقافة قانونية تناسب قارئ الأهرام الاقتصادى، وترك لى حرية اختيار مواد وأبواب هذه الصفحة، وهكذا أصبحت من محررى الأهرام الاقتصادى ولم أقابل الدكتور بطرس بعدها إلا لقاءات عابرة فى مناسبات عامة، وخطر على بالى أنه لا يتابع هذه الصفحة ولكنى اكتشفت أنه مهتم بها ويتابعها بدقة على البعد وإن كان لا يبدى لى ذلك. وهكذا كانت علاقتنا.. علاقة قريبة وحميمة بدون لقاءات كثيرة.
بعد ذلك أصبح الدكتور غالى وزيرا للدولة للشئون الخارجية فى عام 1977 وانشغل فى إدارة علاقات مصر بدول أفريقيا وبذل فى ذلك جهودا هائلة حتى أن الصحافة كانت تطلق عليه اسم (الوزير الطائر) لكثرة رحلاته إلى دول القارة وقد أثمرت هذه الرحلات فى توثيق علاقة مصر بجميع دول أفريقيا وفتح أسواق للمنتجات المصرية وكسب تأييد هذه الدول دائما لقضايا مصر والعالم العربى فى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى.. ومع ذلك لم تنقطع صلة الدكتور غالى بالصحافة، فظل يكتب من حين لآخر مقالات فى الأهرام، وبقى مكتبه فى الأهرام كما هو وكان يتردد عليه من حين لآخر، فأراه فى لقاءات عابرة وأشفق عليه من مظاهر الإجهاد التى كانت تبدو بوضوح عليه.
ثم أصبح فى عام 1992 أمينا عاما للأمم المتحدة وكان يلفت انتباهى أنه فى زحام المشاكل والمشاغل الدولية المعقدة وعلى الرغم من أضواء المنصب المبهرة لم ينس أحدا ممن كان يعرفهم فى مصر، ولا يكاد يرى أحدا منهم حتى يقبل عليه مرحبا ومبتسما ويسلم عليه مهما كان الموقف ذا طابع رسمى. وكنت أندهش لسرعة بديهته وتذكره لأسماء كل المصريين الذين يعرفهم بمجرد أن يلمح كلا منهم.
وترك الدكتور بطرس منصب الأمين العام للأمم المتحدة فى عام 1996 بعد مؤامرة أمريكية مشهورة منعت بقوة مشروع التجديد له لفترة ثانية، وكان ذلك عقابا له على عصيان أوامر الإدارة الأمريكية التى أبلغت إليه بطرق مختلفة بعدم نشر تقرير اللجنة التى شكلها من خبراء الأمم المتحدة للتحقيق فى الجريمة الإسرائيلية البشعة التى ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية حين قصفت بالصواريخ مائة من النساء والأطفال فى قرية قانا فى جنوب لبنان احتموا بمقر الأمم المتحدة فى القرية فلم تتورع الطائرات الإسرائيلية من توجيه الصواريخ إليهم فقتلتهم جميعا ودمرت المقر الذى يرفع علم الأمم المتحدة! وحاولت الإدارة الأمريكية-كالعادة-تمرير هذه المذبحة كغيرها ولكن ضمير بطرس غالى لم يسمح له بالتواطؤ مع الإدارة الأمريكية ضد شعب أعزل-وتركت قصة المؤامرة الأمريكية للضغط على الدول للحيلولة دون التجديد له. وبالطبع تركت هذه المؤامرة فى نفسه مرارة مازالت فى حلقه حتى اليوم ونستطيع أن نلمسها فى كتاباته وأحاديثه المختلفة كما نلمسها فى كتابه الجميل (خمس سنوات فى بيت من زجاج).
وبعد ذلك وجد الدكتور بطرس العزاء فى اختياره أمينا عاما للمنظمة الدولية للفرانكفونية لمدة أربع سنوات من 1998 إلى 2002، ولم يكن الفوز بهذا المنصب سهلا، فقد احتاج إلى دعم قوى من الرئيس الفرنسى شيراك والرئيس مبارك، كما احتاج إلى أن يطير للقاء رؤساء ووزراء خارجية جميع الدول الأعضاء فى هذه المنظمة لكسب تأييدهم له. وقصة هذه المعركة تجدها بالتفصيل فى كتابه الأخير (فى انتظار بدر البدور) وهى قصة تعرف منها أن شخصية الدكتور غالى هى شخصية المقاتل العنيد الصبور الذى يثابر دون كلل أو ملل فى السعى على هدفه ولا يلتفت إلى العقبات التى يمكن أن تصادفه على الطريق.. وأخيرا فإنه يصل دائما على ما يريد فيما عدا معركة الحصول على فترة ثانية فى الأمم المتحدة لأن العقبة كانت أكبر من قدرته وقدرة أنصاره والمتحمسين له على التغلب عليها.. ومن يقدر على تحدى أمريكا.
وأخيرا عاد الدكتور بطرس إلى القاهرة التى يحبها ويعشق نيلها ليتولى منصب رئيس مجلس حقوق الإنسان دون أن يتخلى عن عشقه الأكبر-باريس-فهو يضع قدما فى القاهرة والقدم الأخرى فى باريس، وله مسكن وأصدقاء وعمل فى كل منهما، ويرأس لجنة الديمقراطية والتنمية فى اليونسكو، ومركز الجنوب فى جنيف، وعدد كبير من الجمعيات الدولية.. ويبدو أنه وجد أخيرا الوقت لكتابة عدد من الكتب صدر منها طريق القدس، وخمس سنوات فى بيت من زجاج، وخطط للسلام والتنمية والديمقراطية.
والدكتور بطرس غالى من السياسيين الذين لم تنقطع صلتهم بالحياة الأكاديمية، فهو على الرغم من المناصب والمهام التى أبعدته عن مدرجات الجامعة لا يزال حتى اليوم يفكر بعقلية الأستاذ الجامعى، وإن كان قد اضطر إلى أن يمارس الدبلوماسية فى أعلى وأخطر الدبلوماسية المصرية والدولية. فهو كأستاذ يتميز بوضوح الفكر والقدرة على التحليل المنطقى، وكدبلوماسى يستطيع أن يعبر عن أفكاره بطريقة هادئة وغير مباشرة وبعبارات تحتمل أكثر من معنى أحيانا. ولكنه حين يخلى إلى نفسه فى الليل فإنه يكتب كل يوم أحداث يومه وملخص لقاءاته مع الزعماء والسياسيين ويترك لقلمه العنان أحيانا ليعبر بصراحة عما فى قلبه.. وإن كان لا يقول آراءه بصراحة كاملة حتى عندما يكون وحده، فهو يكتب يومياته بحذر وبصراحة محدودة ومع ذلك فإن قليلا من الصراحة تكفى لمعرفة الكثير مما يخفيه وراء ابتسامته الدبلوماسية.
التقى دائما بالدكتور بطرس عند قداسة البابا شنودة فى صباح عيد الميلاد وعيد القيامة، وسألته أكثر من مرة: متى تنشر مذكراتك، وأخيرا تخلى عن إجاباته المراوغة وقال لى: أنا الآن أعدها للنشر. قلت له مبتسما: وهل ستقول فيها كل شىء؟ فاكتفى بابتسامته المعهودة التى تجعلك تختار لنفسك الإجابة التى ترضيك.. وأخيرا وصلتنى من الصديق الأستاذ إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق نسخة من الكتاب الذى يضم يوميات الدكتور غالى. ولفت نظرى-أولا-أنه على الرغم مما وصل إليه من مكانة دولية ومحلية، وعلى الرغم من أنه شارف على الثمانين-أمد الله فى عمره-فإنه لا يزال مليئا بالحيوية والطموح ولا يزال ينتظر تحقيق ما هو أكثر، تحقيقا لنبوءة بشرته بأنه سوف يحصل على (بدر البدور)، وهذا ما جعله يختار لكتابه عنوان (فى انتظار بدر البدور) ويضم يومياته من سنة 1997 إلى سنة 2002.
ويعترف فى مقدمته بأنه لم يقل كل ما لديه فيقول: (طيلة مسيرتى السياسية والدبلوماسية ألزمت نفسى بواجب التحفظ، ولم أشذ فى كتابى هذا عن هذه القاعدة الذهبية، لأن معظم الشخصيات التى أذكرها التقيتها فى إطار مهماتى الرسمية، ومع ذلك، فإن حدث أن قمت بإفشاء بعض الأسرار فإنى أود الاعتذار للأشخاص الذين ذكرتهم والأشخاص الذين أغفلت ذكرهم.
وقصة الدكتور بطرس غالى مع بدر البدور ترجع إلى يوم من أيام سبتمبر 1994 وكان فى نيودلهى، واقترح عليه صديق أن يلتقى مع عراف هندى واسع الشهرة، سأله عن تاريخ مولده ومكانه وساعته ليحدد برجه القمرى. وبادره الدكتور غالى بالسؤال:
-إن فى نيتى السعى لولاية ثانية لخمس سنوات فى الأمم المتحدة ما هى فرصتى لإعادة انتخابى؟
ويقول د. بطرس :
أصابتنى الخيبة من إجابته الفورية إذ قال: لا أظن إنك ستنجح فى تحقيق هذا المشروع، لكنى اعتقد أن نجمك سوف يسطع أكثر بعد أن تنتهى من مهامك. سيحدث ذلك بعد انقضاء قمرك الألف. وبإمكانى أن أؤكد لك أن نجمك سيشع بنور لا مثيل له. لا أرى فى الوقت الحاضر سوى النور الباهر لهذا النجم)..
يقول الدكتور بطرس: تساءلت أحيانا كثيرة منذ هذا اللقاء الغريب عن رمزية هذا النور الذى سيضىء أيامى الشارفة على المغيب.. وأنا انتظر، كمن ينتظر الوحى، أن يطلع بدر البدور!
لقد أثار الدكتور بطرس فضولى فأصبحت مثله انتظر وأتساءل: كيف ومتى يطلع بدر البدور للدكتور بطرس؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف