قد لا يعرف كثيرون أن البابا شنودة كان من كبار المثقفين وكانت ثقافته شاملة ومتنوعة وكان قارئا لكل ألوان المعرفة، وكانت دهشتى عظيمة عندما سألته يوما عن الكُتّاب الذين يفضل القراءة لهم فكانت إجابته أنه قرأ كتب توفيق الحكيم وجذبه إليه حواراته الذكية، وقرأ لنجيب محفوظ وأعجب بشخصياته الشعبية التى يرسمها بدقة ويحفرها من أعماقنا على حد تعبيره، وقال: قرأت قصص ومقالات يوسف إدريس فى بساطته الآسرة وبصيرته الثاقبة.
أما محمد حسنين هيكل فأنا أقرأ له كل ما يكتبه؛ فهو صحفى كبير وباحث مدقق وله لغة خاصة تجمع بين اللغة الأدبية الراقية والأسلوب الصحفى وقوة التحليل مما يجعله قادرا على أن يصل بأفكاره إلى أوسع الجماهير، وفوق ذلك فهو قريب من الأحداث دائماً - حتى بعد أن ترك الأهرام - واستمر على صلة بمصادر الأخبار، ولذلك فهو مصدر للمعرفة والمعلومات.. كذلك قرأت للويس عوض وكان يدرس لى الأدب الإنجليزى فى الجامعة ومازلت أذكر محاضراته فى تحليل رواية شكسبير المشهورة «ماكبث».. وأرى أن لويس عوض مفكر وأديب كبير..
طبعاً كنت فى حالة من الدهشة لا مثيل لها وأنا أستمع إلى البابا شنودة وهو يتحدث عن الأدب والأدباء وعن الصحافة والصحفيين حديث خبير متخصص، وتملؤنى الحيرة كيف جمع بين اهتمامه بالأدب واهتمامه بالدراسات والموضوعات الأخرى المتعلقة بتكوينه وعمله الدينى وهو من أكبر أساتذة اللاهوت المسيحى وكان أستاذا له مكانة خاصة بعلمه الواسع فى الكلية الإكليريكية.. وأنا أعرف مدى اهتمامه بدراسة التاريخ وهو تخصصه فى الجامعة، وقال لى إنه مهتم بدراسة التاريخ الإسلامى وقد تخرج فى قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وزادت دهشتى عندما أضاف إلى كل ذلك أنه يحب قراءة الشِعر جدا وبخاصة شعراء المهجر.. وقال: أقرأ الشِعر الحديث وأستريح لما فيه من خيال ومعان.. قرأت لصلاح عبدالصبور.. وعبدالرحمن الشرقاوى.. ومحمد الفيتورى.. ونزار قبانى.. وأعجب إعجابا شديدا بجبران خليل جبران فى شعره ونثره.. وأحب إيليا أبوماضى ولكن لا أوافقه على المعنى الذى أورده فى قصيدته «لست أدرى» لأن العقيدة الدينية تزيل الحيرة والشك.. وأعجب بالأخطل الصغير بشارة الخورى.. والشاعر العراقى محمد مهدى الجواهرى..
هل تصدق أن هذا الكلام يصدر عن البطريرك الذى صدرت له كتب فى العقيدة المسيحية تزيد على ثلاثين كتابا وديوان شِعر وعشرة كتب فى الأخلاق والاجتماع والقضايا العامة.. وله مكانته العالمية التى جعلت الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى - أكمل الدين إحسان أوغلو - يقول إن وفاته تمثل خسارة كبيرة ليس للمجتمع المسيحى القبطى فحسب، بل للعالم بأسره، وإن ذكراه ستبقى راسخة لمساهماته الإيجابية والبنّاءة فى إرساء الحوار بين الأديان وتعزيز التسامح بين أتباع الديانات والمعتقدات المختلفة.. وجعل رئيس الحزب الديمقراطى اللبنانى - طلال أرسلان - يقول إن غيابه خسارة كبيرة للمصريين والعرب، بتاريخه الوطنى وإيمانه بالعيش المشترك ورفضه لكل أشكال عدم المساواة وللعنف.. ومصر والعالم العربى بحاجة فى هذه الظروف الحرجة إلى معتدلين وطنيين من أمثاله.. وجعل الرئيس الأمريكى باراك أوباما يلقى كلمة يعبر فيها عن أسفه لرحيله ويصفه بأنه كان زعيما، عميق الإيمان، وداعية للوحدة وللمصالحة.. وأنا أقول إنه كان أكثر من ذلك.. كان من كبار المثقفين المصريين والعرب الذين خلدوا أسماءهم.
***
سألته عن فلسفته فى الحياة ورأيه فى البشر فقال: هناك أشخاص يعيشون فى الخيال وأحلام اليقظة، وناس عمليون يعيشون فى الواقع ويتصرفون بما يناسبه، وناس اعتادت أن تبكى على الماضى حيث لا يفيد البكاء شيئا، وناس تنهار أمام أى مشكلة ولا يفكرون فى حلها حيث لا يفيدهم الانهيار، وناس تتسرع وتتصرف فى المشكلة دون أن تفكر فى نتائج تصرفاتها وردود أفعالها لدى الآخرين، وهل ما يفعلونه يحل المشكلة أو يزيدها تعقيدا، وهناك من ينخدع ويصدق من يمدحه بما ليس فيه من الصفات.. وهناك من يتصور أنه لابد أن يكون هو المنتصر فى كل موقف لمجرد أنه فلان أو ابن فلان.. الناس تختلف فى طرق تفكيرها، وفى طرق تعاملها مع المواقف والمشاكل التى لا مهرب عنها فى الحياة.. والناجح هو من يقبل الناس كما هم، ويتعامل مع كل إنسان كما هو لأنه لا يستطيع أن يغير كل الناس على هواه، ولا يمكن أن يكون إنسان غير ما هو عليه، فالبشر فيهم كل ما فى البشر من أوجه الكمال والنقص.. العاقل هو الذى لا يواجه المشاكل بالبكاء أو بالشكوى أو بالتجاهل.. ولكن يواجهها بالتفكير الهادئ.. ويتعامل معها بحكمة وبحلول عملية.. العاقل لا يضيع عمره فى التحسر على الماضى والبكاء عليه.. ولكنه يستفيد من دروس الماضى ويتعامل مع الحاضر والمستقبل.. فالماضى مضى ولا نستطيع أن نغيره.. ولكن الحاضر والمستقبل فهما فى أيدينا فلا نضيعهما!
وقال أيضاً: إن من الناس من يلجأ إلى العنف والتصادم ويظن أنها وسيلة ناجحة لحل المشاكل فيخسر الناس.. ونوع آخر من الناس يحل المشاكل بالسلطة والأوامر كما قد يفعل الزوج مع زوجته، أو الأب مع أبنائه، أو الرئيس مع مرؤوسيه، والسلطة أمرها سهل ولكنها قد تؤدى إلى تراكم الشعور عند المرؤوسين بالغضب والتمرد على السلطة.. ومن الناس من يظن أنه يمكنه حل المشاكل بالكذب واللف والدوران والخداع وقد يخدع الناس بعض الوقت ولكن سرعان ما ينكشف أمره وتعاود المشكلة الظهور وربما تكبر ومعها فقدان احترام الناس له.. وقال: أنا أهتم فى أحاديثى مع أبنائى بنصيحتهم بأن يكونوا واقعيين وصادقين وهادئين فى جميع المواقف الصعبة..
سألته: هل يؤثر العنف السياسى على الكنيسة وعلى مواقف الأقباط؟
فقال: طبعا يؤثر على المجتمع ككل.. ولكن التاريخ يعلمنا أن مصر تناوب عليها الغزاة، وعملوا بكل قواهم على تفتيت وحدة شعبها ولم يتمكنوا من ذلك.. وفى مذكرات اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى تعبير عن المرارة لفشل سياساته ومحاولاته للتفرقة وبذر العداوة بين أبناء الشعب المصرى.. التاريخ يعلمنا أن وحدة المصريين سر من أسرار هذا البلد.. هل هى الجغرافيا؟ هل هو الإنسان المصرى بطبيعته وتكوينه الحضارى؟ كم من بلاد تعرضت للتقسيم ولكن وحدة الشعب المصرى بقيت تقاوم الزمن.. والتاريخ يذكر أنه وقعت فى الماضى فتن سياسية واجتماعية ودينية ولم تنجح فى النيل من وحدة الشعب.. فهذا الشعب من أسرار عبقريته أنه يحمى وحدته مهما كانت درجات الجهل والتخلف والفقر، ومهما كانت مخططات القوى الأجنبية.
هذا هو البابا شنودة.. مثقف ومفكر كبير إلى جانب أنه رجل دين لم تشهد مصر له مثيلا.. وهو أيضاً قيادة اجتماعية لها «كاريزما» تؤثر فى كل من رآه من قريب أو بعيد.. دخل التاريخ كواحد من أبناء مصر العظام.