القضية ليست معبر رفح!
جاءت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إلى المنطقة.
أعلنت أنها جاءت للضغط على حكومة شارون لكى توقف عمليات القتل والهدم وبناء السور العازل على أراضى الفلسطينيين، والعودة إلى المفاوضات مع الفلسطينيين لتنفيذ خريطـة الطريق.
صدقنا. وتفاءلنا. وقلنا إن الولايات المتحدة حين تمارس الضغوط فإنها تحقق ما تريد. ورأينا أن التحرك الأمريكى بجدية فى اتجاه التسوية يمكن أن يخفف مشاعر الكراهية للعدوان الأمريكى التى تملأ قلوب الشعوب العربية والإسلامية بعد غزو العراق، وجوانتانامو، وسجن أبوغريب، والضغوط التعسفية على سوريا.
وقامت كوندوليزا رايس بإجراء مباحثات مع شارون ومحمود عباس، ثم تبين أن كل جهودها انحصرت فى السعى إلى فتح معبر رفح لتخفيف عذاب الفلسطينيين الذين عاشوا فى العراء نتيجة تعسف الحكومة الإسرائيلية ومنعهم من الدخول أو الخروج من غزة لإحكام أبواب السجن الكبير الذى يعيشون فيه فى غزة الآن.. ونجحت مباحثات كوندوليزا رايس فى انتزاع موافقة السيد شارون على فتح المعبر تحت رقابة أوروبية مصرية فلسطينية، وطبعا ليس مستبعدا أن يهدم شارون كل شىء ويعود الحال إلى ما كان عليه لتبدأ المفاوضات من جديد.. وليس ذلك غريبا على شارون وسياسته فى التقدم خطوة والتراجع خطوتين لإيهام الفلسطينيين والعرب والعالم أنه يتحرك فى اتجاه السلام.
ماذا عن خريطة الطريق؟ وماذا عن المستعمرات التى يجرى بناؤها فى الضفة والاستيلاء على مزيد من الأراضى الفلسطينية؟ وماذا عن مفاوضات الحل النهائى والدولة الفلسطينية والسلام.. لا شىء!
ذرا للرماد فى العيون أطلقت كوندوليزا رايس تصريحات لتخدير المشاعر قالت فيها إنها طالبت شارون بتجميد بناء المستعمرات وطالبت السلطة الفلسطينية بالقضاء على ما تسميه إسرائيل الإرهاب أى مقاومة الاحتلال. وتقصد تنفيذ خطة شارون لإشعال حرب أهلية بين فصائل الشعب الفلسطينى.. بين حماس والجهاد وفتح والسلطة الفلسطينية.. وكيف يمكن مطالبة شعب تحت الاحتلال العسكرى الذى يمارس القتل والتدمير كل يوم بأن يتوقف عن إعلان رفض الاحتلال ومقاومته بأسلحة هزيلة لا يمكن أن تقارن بترسانة إسرائيل وأسلحتها الإلكترونية الحديثة؟
أثناء لقاء كوندوليزا رايس مع شارون قامت القوات الإسرائيلية بقتل شابين فلسطينيين عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، هما أمجد الحناوى وعماد عبد العال، تم القتل برصاصات فى الرأس، وكانت هذه هى رسالة شارون إلى كوندوليزا رايس وإلى السلطة الفلسطينية وإلى العرب والعالم، وملخصها جرائم الاحتلال لن تتوقف، وضغوط الإدارة الأمريكية ليست سوى مناورة لتهدئة الفلسطينيين والتغطية على جرائم الاحتلال.
ثم اختزال القضية الفلسطينية كلها فى خريطة الطريق. ثم اختزال خريطة الطريق فى الانسحاب من غزة لتصبح ساحة مفتوحة أمام الجيش الإسرائيلى يقتحمها وقتما يشاء ويقتل ويدمر ويعتقل فيها كما يشاء، ويتحرك القطب الأعظم لإقرار القيم الأمريكية فيكرس الاحتلال ويختزل القضية فى فتح معبر للدخول والخروج والثمن المطلوب تمزيق وحدة الشعب الفلسطينى وتصفية هذا الشعب على يد أبنائه!
والبعض يتحدث عن التفاؤل بتولى عمير بيرتس زعامة حزب العمل بعد شيمون بيريز الحاصل على جائزة نوبل للسلام! ويقولون إنه من اليهود الشرقيين هاجر من المغرب، وأنه أطلق تصريحات تدل على تأييده للعمل على إنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وهؤلاء المتفائلون يطالبون الفلسطينيين والعرب بدعم هذا الزعيم الجديد.
وليس تحت الشمس جديد. فقد كنا نتفاءل وندعم شيمون بيريز الدبلوماسى الناعم الذى يحسن الظهور بمظهر الحمائم ولم يفعل شيئا من أجل تنفيذ وعوده بالعمل بجدية للتوصل إلى تسوية نهائية، وأخيرا، أخيرا جدا، اكتشفنا أن الثعلب العجوز كان يضحك على الجميع وأنه ليس سوى صقر من صقور إسرائيل يقدم نفسه فى صورة حمامة من الحمائم. والحقيقة التى يكابر البعض منا ولا يريد أن يراها هى أنه ليس فى إسرائيل حمائم. كلهم صقور.
لست أنا الذى أقول ذلك، ولكن يقوله إسرائيلى معروف ويعلنه فى مقال منشور فى صحافة إسرائيل وفى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهو أورى أفنيرى.. وعنوان مقاله يغنى عن قراءته. عنوانه (التحالف الشيطانى بين إسرائيل والولايات المتحدة). ولأنه يعيش فى إسرائيل-واحة الديمقراطية كما يقولون- لم يجد من يمنعه من القول بأن أمثال الرئيس بوش تسببوا فى كوارث كثيرة على مر التاريخ، وأن مساعديه ومستشاريه من المحافظين الجدد أغلبهم مجموعة من اليهود يرغبون فى تغيير العالم بتدميره وفقا لنظرية الفوضى الخلاقة التى ابتدعوها، وقد بدأوا بأفغانستان، ثم انتقلوا لإشاعة الفوضى فى العراق، ولن يتوقفوا حتى يحققوا مشروعهم المدمر. أما عن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل فيقول افنيرى إن أمريكا ليس لديها سلطة انتداب رسمى على إسرائيل ولكنها الدولة الوحيدة التى لها نفوذ حقيقى فى السياسة الإسرائيلية. وإن كانت العلاقة بين الدولتين ليست علاقة دولة محكومة ودولة حاكمة، إلا أن ما يقال صحيح إلى حد ما من أن أمريكا أصبحت مستعمرة إسرائيلية، والدليل على ذلك أن الإدارة الأمريكية الحالية ترقص على أنغام شارون، وتردد ما يقول بالحرف والكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) أصبحا تابعين لليمين الإسرائيلى تبعية تفوق فى بعض الأحيان تبعية البرلمان الإسرائيلى (الكنيست) لإسرائيل!
حتى أن اللوبى الإسرائيلى فى أمريكا إذا قدم إلى الكونجرس اقتراحا بإلغاء الوصايا العشر من الكتاب المقدس فإن الكونجرس سيوافق بمجلسيه وبأغلبية ساحقة! ويكفى أن الكونجرس يقرر الضرائب السنوية على الشعب الأمريكى وتقدمها الحكومة الأمريكية إلى إسرائيل لبناء المستعمرات والسور وتعزيز الترسانة العسكرية).
هذا ما يقوله الكاتب الإسرائيلى المشهور، ولا يستطيع عربى أن يقوله وإلا فإن سيف الاتهام بالعداء للسامية وللسلام سوف ينزل على رقبته، بل إنه يضيف إلى ذلك أن العكس أيضا صحيح، أى أن إسرائيل مستعمرة أمريكية، ولا يمكن تصور يوم ترفض فيه إسرائيل أمرا يصدره إليها رئيس الولايات المتحدة، فإذا عارضت أمريكا صفقة بيع الطائرات الاستطلاعية الإسرائيلية الباهظة الثمن إلى الصين، فإن حكومة إسرائيل تقوم بإلغاء الاتفاقية فورا وتضحى بمئات الملايين من الدولارات. وحين تعارض أمريكا عملية عسكرية للجيش الإسرائيلى توقف إسرائيل تنفيذها فورا. وحتى لو أرادت أمريكا تعيين رئيس أمريكى للبنك المركزى الإسرائيلى فلن تعارض إسرائيل أبدا وقد تطلب فقط أن يكون هذا الشخص أمريكيا يهوديا!
هكذا العلاقة بين البلدين- والكلام لأورى افنيرى-يعيش أحدهما بالآخر، أو يعيش أحدهما فى الآخر. ولهذا ترفرف فى إسرائيل أعلام أمريكية كثيرة إلى جانب علم إسرائيل، وقد ظهر ذلك بوضوح شديد فى ذكرى إعلان قيام دولة إسرائيل، وهذه ظاهرة ليس لها مثيل إلا ما كان يحدث فى دول الكتلة الشيوعية أيام هيمنة الاتحاد السوفيتى عليها. وقد تكررت الظاهرة فى الاحتفال بتنصيب الرئيس جورج دبليو بوش فى المرتين بأهمية كبرى فى إسرائيل وكأنه رئيس أمريكا وإسرائيل معا!
إذا كان الأمر كذلك، والرئيس الأمريكى هو صاحب الرؤية الشهيرة بإقامة الدولة الفلسطينية، وهو صاحب خريطة الطريق، وهو صاحب الوعد بدور أمريكى ننتظره منذ أكثر من نصف قرن.. إذا كان الأمر كذلك فكيف تختصر قضية تاريخية لشعب له وطن ومحروم من الأمن ومن إقامة دولة فى وطنه.. وكيف يتحرك القطب الأعظم فقط لفتح معبر يمر الفلسطينيون من وإلى جزء من وطنهم وتستمر أحوالهم الاقتصادية والإنسانية على ما هى عليه من التدهور.
طبعا لازلنا نأمل فى العدالة الأمريكية.
وجزى الله أورى افنيرى خيرا عن كلمة الحق التى لم يكتمها!