أمريكا هى أمريكا.. وإسرائيل هى إسرائيل!
يبدو أن الرئيس الأمريكى جورج بوش مصمم على عقد المؤتمر الذى دعا إليه باسم (مؤتمر السلام فى الشرق الأوسط) فى الموعد الذى اختاره الشهر القادم دون تحديد جدول أعمال أو اتفاق الأطراف المشاركة على إجابة واضحة للسؤال البديهى: ما الهدف من هذا الاجتماع؟ بينما سارع رئيس الوزراء الإسرائيلى بالإعلان عن أن هذا المؤتمر أو الاجتماع لن يناقش قضايا الحدود أو القدس أو المستوطنات أو المهجرين، وأن هذا المؤتمر على حد تعبيره سيكون فرصة لإشعار دول العالم بأن هناك تحركا (بصرف النظر عن جدية هذا التحرك أو جدواه). وحتى وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أعلنت هى الأخرى أن هذا المؤتمر سيكون بداية لعملية السلام وليس نهاية لها، وأن الهدف هو إعلان وثيقة تظهر إيمان الفلسطينيين والإسرائيليين بوجود طريق إلى إقامة دولة فلسطينية (مجرد التعبير عن الإيمان بوجود طريق وليس السير على هذا الطريق أو بلوغ نهايته)!
هكذا يتضح أن الرئيس الأمريكى سوف يظهر على شاشات التليفزيون وهو يرأس المؤتمر الذى يضم إسرائيل والفلسطينيين وروسيا والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة وعددا من الدول العربية لكى يلقى خطابا يكرر فيه ما سبق أن قاله عشرات المرات سواء فى واشنطن أو شرم الشيخ أو فى العواصم العربية والأوروبية عن التزامه بإقامة الدولة الفلسطينية، ثم يتحدث أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلى عن مستقبل ينتهى فيه الصراع ويعم السلام أرجاء المنطقة ويجد كل إنسان إسرائيلى وفلسطينى الأمن لنفسه ولأسرته ويغلق ملف القتل والتدمير والاغتصاب- دون أن يحدد متى سيأتى هذا اليوم وقد طال انتظاره أكثر من نصف قرن، وقد اعتدنا على مثل هذه العبارات المعسولة التى لا تعبر عن حقيقة النوايا الإسرائيلية.
المؤتمر هدفه تحسين صورة الرئيس بوش أمام الرأى العام الأمريكى لكى يبدو فيه كرجل سلام وصانع مبادرات وقادر على قيادة العالم على الرغم من الأزمات والكوارث التى صنعها فى داخل أمريكا وخارجها ودخل بها التاريخ. ويكفى أن اسمه سوف يقترن بتدمير دولة عربية (العراق) ودولة إسلامية (أفغانستان).. ونشر الإرهاب فى العالم باسم محاربة الإرهاب وإغلاق الباب أمام احتمالات السلام فى الشرق الأوسط بادعاء أنه يسعى إلى تحقيق السلام! ولن ينتهى العام القادم إلا ويدخل بوش التاريخ باعتباره أسوأ رئيس لأمريكا كما يقول معظم المفكرين والسياسيين الأمريكيين.
ومع ذلك فلو افترضنا أن المؤتمر توصل إلى وثيقة تقول إن إسرائيل تقبل إقامة الدولة الفلسطينية فهل يمكن أن يتوصل المؤتمر إلى جدول زمنى لذلك؟! وحتى لو توصل إلى جدول زمنى فهل ستلتزم إسرائيل بالتنفيذ؟! وعلى الأرفف وثائق وتعهدات ومبادرات كثيرة عليها توقيعات رؤساء وزعماء أمريكا ابتداء من كارتر إلى كلينتون إلى بوش الأب إلى بوش الابن، فما الذى تم تنفيذه منها؟
لقد قيل عقب حرب تحرير الكويت إن هذه الحرب أكدت حدوث تراجع فى أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة بعد اختفاء التهديد السوفيتى والخطر الشيوعى، وبعد عجز إسرائيل عن القيام بدور فى تلك الأزمة الخطيرة التى كانت تمس المصالح الحيوية للولايات المتحدة ولكن ذلك لم يكن صحيحا لأن الانقسام العربى استمر وازداد، وتدمير العراق الدولة العربية التى كان لديها قوة عسكرية أنهكتها الحروب والحصار الاقتصادى الأمريكى الذى استمر عشر سنوات أدى إلى خلل ميزان القوى العربى الإسرائيلى لصالح إسرائيل وأدى ذلك إلى تعقيد ظروف التسوية والتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بالإضافة إلى الدعم المطلق من الإدارات الأمريكية المتعاقبة لمشروعات التوسع واغتصاب الأراضى الفلسطينية وتصفية عناصر مقاومة الاحتلال فى جميع الفصائل، ويضاف إلى ذلك استمرار تدفق الأسلحة ذات القوة التدميرية الهائلة من الترسانة الأمريكية إلى إسرائيل، وتدفق الأموال الأمريكية لبناء المزيد من المستوطنات حتى اليوم وغدا وبعد غد.
ومع ذلك فإن العرب مازالو ا يرددون كل صباح كلما لوحت لهم أمريكا بوعد من وعودها المعتادة أن هناك فرصة تاريخية لإحياء عملية السلام وتسوية الصراع، ويوجهون الاتهام لكل من يحذر من استمرار الجرى وراء الأوهام بلا نهاية.. ومع ذلك لم يعد أحد فى الإدارة الأمريكية أو الحكومة الإسرائيلية يتحدث عن مبدأ الأرض مقابل السلام كأساس للتسوية ولا عن قرارى مجلس الأمن 242 و338، ولا عن حق الشعب الفلسطينى فى السيادة على أرضه أو عن وقف بناء المستعمرات الإسرائيلية فى الأراضى العربية المحتلة.. ولا أحد فيهما يتحدث عن الشرعية الدولية.
فهل سيكون مؤتمر بوش أحسن حظا من مؤتمر مدريد أو مؤتمر أوسلو؟
عقب حرب الخليج قدم العرب رؤية عربية موحدة للسلام فى قمة فاس عام 1982، ثم قدموا مبادرة أخرى للسلام فى قمة بيروت وأعلن الرئيس بوش الأب فى أول خطاب له أمام الكونجرس الأمريكى التزام الولايات المتحدة بالعمل على تحقيق التسوية الشاملة والعادلة لمشاكل الشرق الأوسط وفى مقدمتها المشكلة الفلسطينية. وفى خطابه أمام الكونجرس كرر الرئيس بوش الأب التزامه بالعمل على منع انتشار الأسلحة النووية والحد من الأسلحة التقليدية فى منطقة الشرق الأوسط، ووضع نهاية للصراع العربى الإسرائيلى ترتكز على أساس الأرض مقابل السلام وقرارى مجلس الأمن 242 و338، وبعد ذلك كلف وزير خارجية- جيمس بيكر- بجولات فى المنطقة من أجل تحقيق هذا الوعد، ولكن إسرائيل وافقت على عقد مؤتمر إقليمى تحت رعاية أمريكية سوفيتية وعارضت إقامة الدولة الفلسطينية، واشترطت اشتراك سوريا فى هذا المؤتمر وإنهاء المقاطعة الاقتصادية، وأعلنت الدول العربية موافقتها على إنهاء المقاطعة الاقتصادية مقابل وقف إسرائيل بناء المستوطنات، وفى يوليو 1991 اتفق الرئيسان الأمريكى (بوش الأب) والرئيس السوفيتى (جورباتشوف) على عقد مؤتمر للسلام فى الشرق الأوسط. وفى نفس الوقت قدمت الإدارة الأمريكية تعهدات إلى إسرائيل بعدم الضغط على إسرائيل للتفاوض مع أى طرف لا ترغب فى التفاوض معه، كما شملت التعهدات الأمريكية لإسرائيل عدم تأييد الولايات المتحدة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وأن لإسرائيل الحق فى تفسير قرارى مجلس الأمن 242 و338، وأن الولايات المتحدة تعترف بمخاوف إسرائيل الخاصة بالأمن، وتتعهد بالعمل على إلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل وإلغاء قرار الأمم المتحدة الذى يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية.
وهكذا عقد مؤتمر السلام فى مدريد فى 30 أكتوبر بحضور الرئيسين الأمريكى والسوفيتى ووفد مراقب من مصر ومجلس التعاون الخليجى، والاتحاد المغاربى، والمجموعة الأوروبية، وبررت الدول العربية مشاركتها بأنها فرصة لإزالة الحاجز النفسى وبناء الثقة وتحريك المياه الراكدة وفتح الطريق نحو التسوية العادلة. نفس الكلام الذى يقال اليوم بعد 16 سنة!! وفى كلمة الرئيس بوش الأب أكد عزم بلاده على التوصل إلى تسوية عادلة ودائمة وشاملة فى الشرق الأوسط دون أن يعلن عن خطة معينة لتخفيف ذلك، واستمرت جلسات المؤتمر ثلاثة أيام تم خلالها الاتفاق على بدء المفاوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كان شامير رئيسا للوزراء فى إسرائيل وأثبت أنه لا يختلف عن أى رئيس وزراء إسرائيلى قبله أو بعده سواء بن جوريون أو بيجن أو نتنياهو أو باراك.. فكل منهم نسخة من الأصل (بن جوريون) بدأت المفاوضات الثنائية بعد المداورات والمراوغات الإسرائيلية المعهودة وانتهت بالفشل، وقيل إن توازن القوى بين إسرائيل والأطراف العربية لا يرغم إسرائيل على التعامل بجدية مع الرؤية العربية والتسليم بالحقوق العربية. وبعد ذلك تكررت هذه الحيل والألاعيب عشرات المؤتمرات والاجتماعات والمفاوضات والوثائق والتعهدات والاحتفالات والخطب والوعود. ثم لا شىء.
القضية لن تتحرك إلا إذا اضطرت الإدارة الأمريكية وإسرائيل إلى ذلك.. وما دام الموقف العربى على ما هو عليه الآن فلماذا يتطوعان بتقديم الأرض التى قامت إسرائيل باغتصابها بالقوة؟! ولماذا يفرضان على نفسيهما تفكيك المستعمرات التى تكلفت عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية؟! ولماذا تتوقف إسرائيل عن سياسة الابتزاز بالادعاء بأن العرب يريدون القضاء عليها وأنها تواجه خطر الإرهاب الفلسطينى وأن ضرورات الأمن تفرض عليها أن تقتطع كل يوم قطعة أرض فلسطينية وتكرس احتلالها وتمارس العربدة العسكرية دون ضابط أو رابط.. تقتل من تريد وتدمر ما تريد وتتوغل بالدبابات فى الأراضى الفلسطينية.. وتفرض الحصار الاقتصادى.. وتهدد بقطع المياه والكهرباء.. وتنفذ تهديدها بين حين وآخر، وتضع الفلسطينيين فى سجن دائم لا يمكنهم الخروج أو الدخول من أى مكان فى أرضهم إلا بإذن وتصريح وبوابات وتفتيش..؟
هل ستقدم إسرائيل الحقوق العربية لأصحابها تحت ضغط الضمير فقط لا غير مادامت تحصل على ما تريد دون أن تقدم شيئا فى المقابل (التطبيع الاقتصادى والصمت العربى على جرائمها).
بالنسبة للعرب التاريخ يعيد نفسه عشرات المرات.. وهل سيختلف مؤتمر بوش الابن عن وعده القاطع بإقامة الدولة الفلسطينية وفقا لخريطة الطريق؟ أين خريطة الطريق؟ وأين اتفاق أوسلو؟ وأين اتفاق شرم الشيخ وواشنطن؟ وأين اتفاق واى ريفر وتفاهمات تنت؟.. كلها وعود فى الهواء.. وحبر على ورق. يقول المتفائلون.. جربوا مرة أخرى.. لن تخسروا شيئا.. ولن تكون نتائج مؤتمر بوش الابن أسوأ من الوضع الحالى..؟
وأقول: المسئولية تقع على العرب عموما وعلى الفلسطينيين خصوصا.. وتذكروا المبدأ الاستعمارى القديم: فرق.. تسد!