أين عرب أكتوبر؟
عندما نحتفل بذكرى انتصار أكتوبر لابد أن نذكر أهمية الدور العربى فى هذه الحرب، فقد كانت هذه الحرب بعثا أو ميلادا جديدا للعرب، ووصفها البعض بأنها أعظم وأمجد أيام العرب منذ قرن ونصف قرن على الأقل، وأنها نقطة الذروة فى تاريخهم الحديث. ولم تكن هذه الأوصاف من قبيل الحماسة أو المزايدة العاطفية أكثر مما فيها من الموضوعية.. وبفضل تكامل عناصر النجاح مصريا وعربيا صارت حرب أكتوبر تغييرا ضخما وجذريا بكل مقياس وعلى أى أساس كما قال الدكتور جمال حمدان. ويفسر جمال حمدان الأساس العلمى والموضوعى الذى بنى عليه هذه الأحكام بأنه لا يستطيع أن يقدر معنى وحجم النصر العربى فى أكتوبر إلا من يستطيع أن يتخيل مدى الانهيار والسقوط ونوع المصير الذى كان يمكن أن ينتهى إليه العرب لو أنهم هزموا فى هذه الحرب فوق هزيمتهم فى يونيو 1967 وبعدها. ولو أننا فكرنا فيما كان يراد بنا ويخطط لنا على أيدى العدو وأطماعه وطموحاته لتأكد لنا أننا على الأقل قد نجونا من خطر ماحق كان يدبر لنا وكان يمكن أن يودى بنا لو تحقق.
ورؤية جمال حمدان الاستراتيجية تمتد إلى بعيد، فهو يرى أن نصر أكتوبر حقق لنا الضمان والأمن، وقدم نموذجا لما يمكن أن يحققه العرب من انتصارات وإنجازات عندما يتجاوزون خلافاتهم الفارغة ويوحدون صفوفهم وراء هدف واحد لصالح الأمة وليس لتحقيق مجد شخصى لهذا أو لذاك.. وبهذا عندما يعود الوعى العربى إلى ما كان عليه فى أكتوبر ـ يمكن أن نحقق آمالنا القومية، وهذا ممكن إن لم يكن اليوم فغدا.. فى المستقبل القريب أو البعيد، وكما قال أحمد بهاء الدين فإن هزيمة يونيو لم تجعلنا نركع ولكن ظل سيفها مسلطا فوق رؤوسنا.. قريبا جدا من أعناقنا.. وحرب أكتوبر كسرت هذا السيف المسلط، وحطمت القيد الذى كان يكبلنا.. نكسة يونيو أصابت الوجود العربى فى مقتل حتى أن باحثا مثل (ريمون آرون) ذهب إلى أن العرب لن يفيقوا من هول ما حدث إلا بعد قرن كامل، وجاء نصر أكتوبر ليقلب التوازنات والتوقعات، وكما قال الجنرال (بوفر) إن النجاح الذى حققه العرب فى هجومهم يوم 6 أكتوبر يكمن فى أنهم حققوا تأثيرا سيكولوجيا هائلا فى معسكر الخصم وفى المجال العالمى، ويبقى عليهم أن يفكروا بعد ذلك فى نتائج هذا التأثير ليحصلوا على تأييد العالم لهم، فهذا أول انتصار عسكرى حقيقى يحرزه العرب فى العصر الحديث.
المفكر العبقرى جمال حمدان يقرر أن 6 أكتوبر نهاية عصر كامل وبداية عصر جديد، وأنه يمثل خط التقسيم التاريخى بين مرحلتين متناقضتين فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى.. مرحلة الجزر العربى حيث كان المنحنى فى نزول مستمر بالنسبة لنا ولصالح العدو، ومرحلة المد العربى حيث تغير مسار الأحداث لصالحنا. ولا تزال أمام العرب الفرصة ليجعلوا من هذا الموقف التاريخى الذى وقفوه فى حرب أكتوبر بداية لرسم خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط بدلا من ترك الأمر لغيرهم لرسم هذه الخريطة وفقا لمصالحهم وأطماعهم.
فى حرب أكتوبر تلاحمت القاعدة والقيادة.. والشعب والجيش.. والجبهة الداخلية، وجبهة القتال.. حالة من التوحد لم تحدث من قبل. وبشهادة خبراء الاستراتيجية العالميين، فإن حرب أكتوبر حققت التضامن للعرب بالعمل وليس بالأقوال، وبشهادة مجلة نيوزويك الأمريكية المعروفة بانحيازها لإسرائيل فإن مائة مليون عربى وجدوا أنفسهم فى حرب أكتوبر أمام حقيقة عزيزة عليهم هى الوحدة، وذلك بسبب النجاح الذى تحقق لهم فى ميدان القتال ثم فى الحظر على إمدادات البترول العربى. وقد فتحت جبهة البترول إلى جانب جبهة القتال.
يستخلص جمال حمدان من حرب أكتوبر ثلاثة معان.
أولا:أن القومية العربية حقيقة واقعة ردت الحرب لها اعتبارها وأعادت خلق العالم العربى وجعلته عالما جديدا شجاعا، وتوحد العرب وتجاوزوا مشاكل الوحدة الدستورية، وظهرت (القوة الذاتية) العربية وهى القاعدة الأساسية فى الصراع. وقد تجلى ذلك فى مؤتمر القمة فى الجزائر ـ أول مؤتمر عربى منتصر وأول مؤتمر عربى ناجح، وأول مؤتمر عربى يظهر فيه العرب أكبر من الخلافات والصعوبات.
ثانيا:أثبت البترول العربى أنه سلاح سياسى من الدرجة الأولى، ونجحت الحرب فى تسييس البترول بعد أن كان ذلك يبدو مستبعدا. ولم يكن سلاح البترول قادرا على أن يسبق السلاح العسكرى، ولذلك كان توزيع الأدوار مهما لتحقيق النجاح.
ثالثا:إن مصر مارست فى إدارة الحرب وفى ساحة القتال دورها الطبيعى والطليعى فى قيادة الصراع.. وهى مصر التى قدمت 100 ألف شهيد وأنفقت نحو 15 ألف مليون جنيه، وحشدت لمعركة أكتوبر وحدها مليونا ومائة ألف جندى تحت السلاح، وهو أضخم حشد عسكرى محلى عرفته منطقة الشرق الأوسط فى تاريخها، وبهذا العطاء ارتفعت إلى مسئوليتها التاريخية كقلعة للعروبة، فالتف العرب حولها مبايعين. وأثبتت حرب أكتوبر أن الزعامة السياسية الرشيدة هى فن توزيع الأدوار وليس احتكار الأدوار، وهى أولوية بين أكفاء وليست منافسة فجة على الصدارة الشكلية.
والآن أين العرب اليوم مما كانوا عليه فى حرب أكتوبر؟
لماذا تراجعت القوة العربية وعادت نزعة التجزئة وأصبحنا نسمع صيحات التمزق والتعصب للوطن الصغير.. مصر أولا.. السعودية أولا.. سوريا أولا.. لبنان أولا.. المغرب أولا.. وهكذا.. لماذا؟
كانت حرب أكتوبر فرصة تاريخية وحدت العرب وكان من الممكن البناء عليها لإنشاء نظام سياسى عربى يحتل مكانا بارزا بين مراكز القوة العالمية، وهذا ما كان يتوقعه الجميع حتى أن التقرير السنوى لمعهد الدراسات الاستراتيجية بلندن أكد (أن حرب أكتوبر ـ بسلاحيها العسكرى والبترول ـ جعلت العرب قوة سادسة فى العالم بعد أمريكا وروسيا والصين واليابان وكتلة أوروبا، وبوسع العرب أن يصبحوا كذلك على الرغم من كثرة عدد الدول العربية، فقد توحدت دول أوروبا وأصبحت قوة عالمية سياسيا واقتصاديا وعسكريا. والعرب يملكون عناصر القوة: مساحة أرض واسعة.. وتعداد سكان يزيد على 100 مليون.. وموقعا جغرافيا فريدا من الناحية الاستراتيجية.. وموارد طبيعية متنوعة.. ومستوى حضاريا قابلا للنمو والتطور.. العالم العربى بدخوله البترولية المليارية وإنتاجه الزراعى والصناعى يعتبر ـ بالقياس إلى عدد السكان ـ من أغنى أقاليم العالم من حيث الدخل القومى ووفرة رؤوس الأموال وتوافر إمكانات التصنيع والاستثمار.. فهى منطقة جاهزة لاحتمالات الوحدة إذا توافرت الإرادة السياسية.. المشكلة أن هذه الإمكانات كلها إمكانات (كامنة) وعدم وعى العرب بضرورة التوحد لحماية أنفسهم أولا واكتساب القوة ثانيا فإنهم يفقدون المكانة التى تحققت لهم فى حرب أكتوبر ورشحتهم لتكون المنطقة العربية منطقة خطيرة ومؤثرة فى السياسات الدولية وليست متأثرة بها فقط، وعدم التوحد يمكن أن يجعل العرب غنيمة للسياسات الاستعمارية الجديدة.. هذه السياسات التى تعمل بكل قوة على منع قيام قوة عربية موحدة بأى ثمن، ولهذا كانت لعبة تمزيق المنطقة. ثم خلق إسرائيل فيها، واستمرار سياسة فرق تسد.. هذه هى أدوات تلك السياسة.
حرب أكتوبر فتحت المجال أمام العرب للتوحد وجعلت كل سلطة وطنية فى كل بلد عربى تشعر بالعزة ولفترة بعدها كان العالم ينظر إلى العرب لا على أنهم غنيمة يختلف الأقوياء على أنصبتهم فيها، أو أن ترسم مصائرهم فى عواصم بعيدة.. ولكن ذلك لم يستمر طويلا لأن العرب لم يستكملوا نصرهم واستثمار نتائجه الطبيعية.
كان على العرب أن يدركوا أن القوى الكبرى لن تتركهم يستثمرون نجاحهم فى حرب أكتوبر والبناء على نتائجها، فالسياسة الدولية قائمة على صراعات القوة، والقوى الكبرى لا ترحب بظهور قوة جديدة صاعدة، وكان على العرب أن يدركوا أن هذه القوى الكبرى سوف تنصب لهم الشباك ليقعوا فيها.. شباك الانقسام.. وتبديد عناصر القوة السياسية والمالية والاقتصادية.
كان إعلان دمشق بعد الحرب يتضمن ترتيبات عربية ترسى صيغة حديثة للتعامل بين الدول العربية فى مرحلة ما بعد الحرب، وتترجم مفهوم الأمن القومى العربى إلى عمل عربى مشترك.. هذا الإعلان شاركت فيه مصر وسوريا ودول الخليج العربية، وكان ذلك بعد الحرب ـ بالتحديد يوم 6 مارس 1991 ـ حيث اجتمعت قيادات الدول العربية فى دمشق لبلورة توجهات موحدة تحقق الأمن القومى العربى وتضع الخطوط العريضة للتكامل السياسى والاقتصادى والثقافى ليكون بداية للنظام العربى الجديد.. وكان الهدف أيضا أن يقوم العرب بأنفسهم وبسرعة بملء الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة قبل أن يملأه غيرهم، بعد أن اتسع هذا الفراغ نتيجة الانقسام العربى على مستوى الحكومات والسياسات.. كان الخطر ماثلا أمام العيون فى استدعاء القوى الأجنبية لملء هذا الفراغ وهذا ما حدث فى أزمة الخليج الأولى وكان موقف القادة العرب فى قمة دمشق 1991 أنه لابد من العمل على تفادى تكرار تدخل القوى الأجنبية فى المستقبل لما فى ذلك من مساس بالكرامة القومية وفرض الإرادة الأجنبية.
أين العرب من إعلان دمشق؟
وأين هم من قرارات القمم العربية المليئة بالوعود بالتنسيق والتكامل ووحدة الكلمة ووحدة الصف؟
تعثرت المسيرة. ولكن لا يزال الأمل باقيا فى أن تعود الإرادة العربية كما كانت فى حرب أكتوبر.. وليس هذا على الله ببعيد!