لماذا انتصرنا؟
لماذا انتصرنا فى حرب أكتوبر 1973 ولم ننتصر فى الحروب السابقة (1948-1956-1967)؟
الإجابة عن هذا السؤال مهمة لفهم حقيقة ما جرى، والاستفادة بالعبرة من دروس التاريخ، وتكوين الوعى الذى يحمى بلدنا وشعبنا فى المستقبل.
ولا ننسى أن إسرائيل فى أكتوبر 1973 كانت فى موقع قوة كانت تحتل أرض ثلاث دول عربية (مصر وسوريا وفلسطين) وكانت قد حصلت على المزيد من الأسلحة الأمريكية الحديثة وتحولت بذلك إلى ترسانة عسكرية كاملة. وكانت القيادة الإسرائيلية على يقين من أن القوات المصرية غير قادرة على القتال ولن تجرؤ على خوض تجربة اقتحام القناة بما فيها من خطورة تصل إلى حد التدمير، كما كانت على ثقة من قدرة الجيش الإسرائيلى على تأديب الجيوش العربية، وفى يوم 4 أكتوبر 1973 وجه رئيس الأركان الإسرائيلى دافيد اليعازر انذارا بأن لإسرائيل اليد الطويلة التى تستطيع الوصول إلى أعماق أية دولة عربية وإلى خطوطها الخلفية وتلقينها درسا لن تنساه أبدا!
وفى كتابه الشامل (أسرار وحقائق الحروب المصرية الإسرائيلية) يصف الباحث العسكرى عبده مباشر ما جرى يوم 6 أكتوبر 1973.. كان المصريون قد عاشوا 2308 أيام من الهزيمة والألم وكانت القيادة المصرية قد أتمت استعداداتها للقتال..
قرر المسئولون العودة إلى الدين وتم تعيين آلاف الوعاظ بالقوات المسلحة لتوعية القادة والضباط والجنود دينيا وهذا ما ملأ الجميع بالحماسة فى القتال والثقة فى نصر الله لهم، ولا يمكن أن يغيب عن الذاكرة مشهد عشرات الآلاف من الجنود وهم يرجون الأرض رجا بصيحة (الله أكبر) .. وقام الرئيس السادات بإعادة عدد من القادة والضباط إلى الخدمة ممن أبعدوا فى محاولة الانقلاب التى قام بها المشير عامر وهكذا عاد أهل الخبرة والكفاءة وانتهى عهد المحسوبية والشلل وأهل الثقة.. وكانت عملية إعادة بناء القوات المسلحة قد تمت وفقا لأحدث النظم العلمية وتم تدريبها بمنتهى الجدية.. وكان السادات قد كلف القيادة العامة للقوات المسلحة بإعداد خطة هجومية لتحرير مساحة من أرض سيناء المحتلة.. وأعدت خطة تستهدف الوصول إلى المضايق يمكن تنفيذها إذا توافرت للقوات المسلحة الإمكانات التى تسمح بتحقيقها، وأعدت خطة ثانية هدفها إنشاء رءوس كبارى شرق القناة تحميها شبكة الدفاع الجوى غرب القناة. الخطة الأولى كان إعدادها بالتعاون مع المستشارين السوفيت، أما الخطة الثانية فقد أحيطت بسرية كاملة ولم يكن مسموحا لأى إنسان من غير المشتركين فى إعدادها أن يعلم شيئا عنها.
كبدت قواتنا خسائر للعدو خلال الأيام الأولى للحرب وصلت إلى تدمير دبابة كل 15 دقيقة، وتدمير طائرة كل ساعة، أم الخسائر البشرية فلم يسبق لإسرائيل أن عرفت مثلها طوال جولات الصراع السابقة. ويحدد عبده مباشر عوامل النصر كما يلى:
(1) تحقيق المفاجأة على المستوى الإستراتيجى والتعبوى والتكتيكى على الرغم من وسائل الاستطلاع والتجسس والتنصت والمراقبة الإسرائيلية ووجود قوات العدو على خط المواجهة وعلى امتداد أكثر من 200 كيلو متر.
(2) قدرة الصاروخ المضاد للدبابات القصير المدى الذى استخدمه جنود المشاة والذى أفقد القوات المدرعة الإسرائيلية فعاليتها فى معارك الصحراء.
(3) قدرة الصاروخ (سام-7) المضاد للطائرات الذى استخدمته القوات المصرية الذى حرم القوات الجوية المعادية القدرة على التدخل بفعالية ضد قوات المشاة والمدرعات المصرية، وأدى إلى إحباط تكتيكات العدو وعجزه عن استغلال تفوقه الجوى.
(4) فشل الخطوط الدفاعية الحصينة التى تستند إلى مانع مائى فى منع القوات المصرية من الاقتحام فى عملية محكمة والتغلب على الساتر الترابى وخزانات النابالم بحلول مبتكرة.
(5) ارتفاع حجم الخسائر فى الأسلحة والمعدات الإسرائيلية وزيادة معدلات استهلاك الذخائر عما كان متوقعا.
(6) تبنى سياسة واقعية تؤكد قدرة الدول الصغيرة والمتوسطة على شن حروب محدودة لتحقيق أهداف محدودة وتسعى بعد ذلك لتحقيق الأهداف النهائية بالجهود السياسية والدبلوماسية.. وذلك بعد أن أدرك السادات أن إلحاق هزيمة كاملة بإسرائيل أمر يخرج عن دائرة الممكن ولن تسمح الولايات المتحدة بذلك.
(7) إعداد الدولة للحرب والكفاءة فى الإدارة السياسية للحرب واختيار أحمد إسماعيل على قائدا عاما والفريق الشاذلى رئيسا للأركان والفريق الجمسى مديرا للعمليات ومسئولا عن إعداد خطة العمليات الحربية كان اختيارا قائما على الكفاءة والخبرة والقدرة على إدارة الحرب وتحقيق الهدف المحدد لها، وهم على علم بأن العدو لديه أعداد كبيرة من الطائرات الحديثة والطيارين الأكفاء وأسلحة الحرب الإلكترونية المتطورة، ولديه أسلحة حديثة لإخماد الدفاع الجوى.
(8) استخدام أعداد هائلة من صواريخ الكتف المضادة للطائرات (من طراز ستريللا سام -7) التى كانت تطلقها قوات المشاة عندما تتعرض للهجوم الجوى، وبهذا السلاح الرخيص الثمن خسرت القوات الجوية الإسرائيلية عددا كبيرا من الطائرات، وكان تساقط الطائرات الإسرائيلية أمام وسائل الدفاع الجوى المصرية من الأسباب الرئيسية لرفع الروح المعنوية للجنود المصريين. وكذلك تفوق صواريخ (آر بى جى) فى تدمير الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية.
وكانت فى الحرب مواقف طريفة ولكن لها دلالات مهمة، منها مثلا أن مصر طلبت من الاتحاد السوفيتى سرعة تزويدها بإطارات كاوتشوك للطائرات المقاتلة فتلقت بدلا من الإطارات أحذية من الكاوتشوك، والأكثر طرافة أنها كلها للقدم اليسرى فقط!
وبعد وقف إطلاق النار يوم 27 أكتوبر 1973 تفجرت الخلافات بين القادة الإسرائيليين وسارت مظاهرات الغضب الإسرائيلى، واضطرت الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية لبحث أسباب هزيمة الجيش الإسرائيلى. كانت اللجنة برئاسة شمعون أجرانات رئيس المحكمة العليا وضمت موشى لاندوى القاضى بالمحكمة العليا والدكتور إسحق نفنسئيل مراقب الدولة، والبروفيسور جنرال احتياط إيجال يادين، والجنرال احتياط حاييم لاسكوب مفوض شكاوى الجنود. وكانت مهمة اللجنة إعداد تقرير عن المعلومات التى كانت متوفرة قبل الحرب عن التحركات العسكرية المصرية والسورية ونوايا القيادة فى البلدين، وكيف قامت السلطات والأجهزة الإسرائيلية بتقدير الموقف فى ضوء هذه المعلومات، ومدى استعداد جيش الدفاع الإسرائيلى، واستمعت اللجنة إلى 90 شاهدا. وتلقت شهادات مكتوبة من 188 قائدا عسكريا وأصدرت تقريرها فى أول أبريل 1974 من 400 صفحة لم ينشر منه سوى المقدمة فقط وتضمن أدلة تفصيلية. وفى 30 يناير 1975 انتهت اللجنة من إعداد التقرير المطلوب ولم ينشر منه كذلك سوى المقدمة فقط، ووصف هذا التقرير بأنه (سرى للغاية) وأن تسرب المعلومات الواردة فيه يلحق الضرر بالأمن الإسرائيلى ويهز الدولة ككل. وفى عام 1994 تقدمت صحيفة معاريف بطلب إلى المحكمة العليا للتصريح بنشر التقرير، وقررت المحكمة الموافقة بشكل جزئى.. وفى عام 1995 تقرر نشر التقرير فيما عدا 48 صفحة قررت الرقابة على المعلومات فى الحكومة الإسرائيلية خطورة نشرها لما تتضمنه من معلومات لا يمكن الكشف عنها، ومرة أخرى تقدمت صحيفة معاريف بطلب إلى المحكمة العليا عام 2004 بمناسبة مرور 30 عاما على الحرب ووافق رئيس الوزراء مع التحفظ على نشر بعض الصفحات، وعادت صحيفة معاريف لاستئناف المحاولة فى عام 2005 فتقرر تشكيل لجنة من عدد من المواطنين لدراسة نشر التقرير من عدمه ومدى ملاءمة النشر لاعتبارات الأمن القومى، وكانت هذه اللجنة برئاسة القاضى اسحق انجلرد، وفى نهاية سبتمبر 2006 قررت هذه اللجنة نشر التقرير فيما عدا صفحتين بهما مصادر معلومات رأت اللجنة أنها معلومات حساسة للغاية. ويتألف التقرير من 2200 صفحة فى 6 مجلدات، أما محاضر اللجنة فتقع فى 9 آلاف صفحة فى 43 مجلدا، وأصبح التقرير متاحا للجمهور فى أرشيف الجيش وجهاز الأمن.
ذكر التقرير أن الجيش الإسرائيلى وقع أسير الاعتقاد بأن مصر لن تشن هجوما شاملا واسع النطاق إلا إذا امتلكت قواتها الجوية من الطائرات ما يمكنها من النجاح فى إصابة سلاح الجو الإسرائيلى بالشلل، وأن مثل هذا التفوق الجوى ليس من السهل تحقيقه، ولن تهاجم سوريا بدون مصر. وسجل التقرير أخطاء رئيس المخابرات العسكرية (إيلى زعيرا) وعجزه عن فهم الحقائق التى كانت أمامه وعدم قدرته على تحليلها، وظل على اعتقاده بأن مصر لن تحارب حتى ساعات قبل اندلاع الحرب لولا (التحذير الخفى) الذى أُبلغ إلى المخابرات فى الساعة الرابعة صباحا يوم 6 أكتوبر (قبل بدء الحرب بعشر ساعات فقط) لكانت الضربة المصرية أكثر تأثيرا. وكان تقدير المخابرات الإسرائيلية فى الساعات الأخيرة أن الهجوم المصرى سيبدأ فى السادسة مساء وبناء على ذلك أصدر الجنرال ماندلر قائد الفرقة المدرعة بعدم تحريك الدبابات إلا قبل موعد الهجوم المنتظر بساعتين، وهكذا ارتبطت جمع إجراءات الاستعداد بالساعة السادسة مساء.
القصة طويلة. ومثيرة. وعبده مباشر يقدم لنا أسرارا وحقائق كثيرة، وهو خبير عسكرى وكاتب كبير لديه القدرة على الوصول إلى الأعماق وعرض الحقائق بمنتهى الوضوح والصراحة. وما قدمته لك من الكتاب لا يغنى عن قراءته كاملا