حرب أكتوبر وأخواتها (2)
لم يعد سرا أمر الاستغاثة التى أرسلتها جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إلى الرئيس الأمريكى بعد يوم واحد من عبور القوات المصرية إلى سيناء وتدمير خط بارليف. فقد سجل كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت فى مذكراته أن جولدا مائير أيقظته من النوم قبيل الفجر دون أن تراعى فروق التوقيت وطلبت منه أن يوقظ الرئيس الأمريكى ويبلغه كلمتين ( إسرائيل فى خطر ) إذا لم تجد مساندة عسكرية أمريكية قوية على وجه السرعة.. وقالت له الموقف لا يحتمل الانتظار! وعلى الفور أمر الرئيس الأمريكى بإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من الأسلحة الحديثة التى لم تستعمل من قبل. وابتداء من يوم 14 أكتوبر 1973 أقامت الولايات المتحدة الجسر الجوى لإمداد إسرائيل بالأسلحة والمعدات والذخائر، وكان ذلك هو السر فى قبول الرئيس السادات وقف النار وقال: أنا لن أحارب أمريكا. ومن الأسرار التى تكشفت مؤخرا أن القوات الجوية المصرية اسقطت طائرة معادية فتبين أنها طائرة أمريكية وقائدها أمريكى (!).
ويذكر المؤرخ العسكرى الاستاذ عبده مباشر فى كتابه (أسرار وحقائق الحروب المصرية الإسرائيلية) إلى أن هذا لم يكن الجسر الجوى الوحيد الذى استفادت منه إسرائيل عسكريا مع اختلاف الوقت. لأن هذا الجسر الجوى كان أثناء احتدام الحرب وتقدم القوات المصرية بينما كانت الجسور الجوية السابقة فكانت دائما قبل بدء الحرب أو فى أثناء الهدنة. كان الجسر الجوى الأول خلال معركة 1948 مع بداية الهدنة الأولى وتولى إمداد إسرائيل بالأسلحة البرية والذخائر والطائرات، وإمدادها أيضا بأعداد من المتطوعين للاشتراك فى الحرب معها ضد العرب. وعندما تجدد القتال يوم 9 يونيو 1948 كان ميزان القوى قد تحول لصالح إسرائيل ولم يتوقف هذا الجسر حتى نهاية الحرب.
وفى مرحلة الاستعدادات للعدوان على مصر عام 1956 طلبت إسرائيل اقامة جسر جوى يؤمن لها مطالبها من الاسلحة والطائرات والمعدات والذخيرة قبل بدء العمليات العسكرية، ونقلت فرنسا إلى إسرائيل كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات والذخيرة بينها 48 طائرة (ميستير4) ولجأت إلى نقل الطائرات من القواعد العسكرية الفرنسية فى شمال افريقيا وقاعدة كورسيكا وقاعدة برنديزى فى ايطاليا، واشتركت مع الطائرات الفرنسية فى نقل الأسلحة طائرات شركة العال الإسرائيلية.
وقبل العدوان الإسرائيلى فى يونيو 1967، بدأ تدفق الجسر الجوى من فرنسا إلى إسرائيل فى النصف الثانى من شهر مايو وازداد تدفق السلاح بعد إغلاق خليج العقبة فى 22 مايو 1967 واعتمدت إسرائيل على طائراتها بحيث تحولت طائرات شركة العال الإسرائيلية إلى طائرات نقل عسكرية وقامت برحلات مكوكية مكثفة بحيث قامت بأكثر من مائة رحلة خلال هذه الفترة. واستمر هذا الجسر الجوى إلى أن وصل إلى إسرائيل كل ما تحتاجه من اسلحة وبعد ذلك أعلنت فرنسا الحظر المؤقت على شحن الأسلحة إلى منطقة الشرق الأوسط يوم 2 يونيو 1967
ومعظم الكتاب الذين يؤرخون لحرب أكتوبر لا يتوقفون أمام قصة الجسر الجوى الأمريكى وتأثيرها على مجرى الحرب ونتائجها. وقد بدأت القصة يوم 7 أكتوبرـ أى فى اليوم التالى لعبور القوات المصرية ـ حيث طار موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى إلى مقر قيادة الجبهة الجنوبية (سيناء) واستعرض الموقف مع قائدها الجنرال جونين وبحثا الموقف المتدهور للقوات الإسرائيلية والخسائر التى لحقت بالفرقة المدرعة التى يقودها الجنرال مندلر والتى وصلت خسائرها إلى 200 دبابة ـ أى ثلث عدد دباباته ـ وانتهاء فاعلية حصون خط بارليف، والفشل فى انقاذ القوات الإسرائيلية المحاصرة فيها. وبعد تقييمه للموقف كتب ديان فى مذكراته : خلال طيرانى عائدا من سيناء إلى تل أبيب، لا أتذكر لحظة شعرت فيها قبل ذلك بالقلق الذى شعرت به الآن. ولو كنت أعانى من المرض والألم الجسمى وأواجه الخطر شخصيا لكان ذلك أهون، أما الآن فإن الشعور الذى ينتابنى أن إسرائيل فى خطر، وستكون النتائج مهلكة إذا لم نتدارك الموقف الجديد، ونتفهمه فى الوقت المناسب، وإذا فشلنا فى تكييف قتالنا مع الظروف الجديدة، وقد قلت ذلك لرئيسة الوزراء جولدا مائير عندما وصلت إلى تل أبيب وبحضور وزيرين آخرين ورئيس الأركان اليعازر وكانت نقاطى الرئيسية تقضى بأن ننسحب من خط القناة وننظم أنفسنا فورا عند خط جديد ونتمسك بهذا الخط بأى ثمن وأن نشن الحرب من هناك.. لقد واجهنا خطرا أفقدنا قوانا.. وعلينا أن نبذل جهدا جبارا للحصول على طائرات ودبابات من الولايات المتحدة فى أسرع وقت، ونحاول الحصول على دبابات من أوروبا، وقد صعقت رئيسة الوزراء والوزيران الآخران، وأعتقد أن ذلك كان بسبب قوى أنى لا أعتقد أن فى مقدورنا فى هذه اللحظة إعادة المصريين إلى الجانب الآخر للقناة.
ويصف ديان فى مذكراته هذا الاجتماع الحزين قائلا: كان واضحا من أسئلتهم المنتقدة بعد ملاحظاتى الواقعية أنهم ظنوا أن الضعف لا يكمن فى الوضع العسكرى الراهن وإنما فى شخصيتى وإنى فقدت ما أتمتع به من ثقة، وأن تقييمى للموقف غير صحيح، وإننى مغرق فى التشاؤم. وقال رئيس الأركان إنه لا يتفق مع تقديرى، ووافق على إعداد خط ثان بدلا من خط القناة إلا أنه قرر شن هجوم مضاد يقوم به شارون والجنرال آدان ضد القوات المصرية على الضفة الشرقية، وبذلك تنفس الوزراء الصعداء، فلم يكن فى مقدورهم تحمل التفكير فى افتقارنا إلى القوة فى أية لحظة لرد العدو (مصر) إلى حيث كان منذ ثلاثين ساعة مضت.
هذا ما سجله وزير الدفاع الإسرائيلى موشى ديان الذى كانوا يعتبرونه فى إسرائيل البطل القومى والأسطورة والعبقرية العسكرية التى لا تعرف إلا الانتصار؟
وقد وقف أمام رئيسة الوزراء ورئيس الأركان والوزيرين ليعرض عليهم خسائر الجيش الإسرائيلى، وعدم قدرته على استعادة ما استولى عليه المصريون فى سيناء، بعد أن أصبح خط بارليف الذى كانوا يعتقدون أنه الحصن الحصين الذى يستحيل على المصريين مجرد التفكير من الاقتراب منه. وأهم من ذلك أنه كشف لهم عن العجز والحاجة إلى الدعم الأمريكى على وجه السرعة لإنقاذ إسرائيل، واعترف أمامهم أن إسرائيل فى خطر.
ويقول المشير عبد الغنى الجمسى فى مذكراته إن أحدا لم يكن يعلم طول مدة الحرب ولا حتى لمدة طويلة بعد الحرب أن أحد المسئولين العسكريين الأمريكيين وصل إلى إسرائيل فجر هذا اليوم 8 أكتوبر وهو اليوم الثالث للحرب، واشترك فى التخطيط مع القادة الإسرائيليين لمواجهة الموقف العسكرى الإسرائيلى المتدهور على الجبهتين المصرية والسورية، إلى أن كشف الجنرال اليعازر رئيس الأركان الإسرائيلى أثناء الحرب فى مذكراته التى كتبها بعد الحرب عن سر أذيع لأول مرة عن خطة عسكرية أمريكية حملها مسئول أمريكى إلى إسرائيل، وتواجد فى رئاسة الأركان فجر يوم 8 أكتوبر، وهو اليوم الذى وجهت فيه القوات الإسرائيلية ضربتها المضادة بالاحتياطى التعبوى الاستراتيجى بغرض تدمير القوات المصرية فى سيناء وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العبور.
جسر جوى أمريكى يحمل مددا من الدبابات والأسلحة والذخائر من أحدث ما فى الترسانة العسكرية الأمريكية، وطائرات مقاتلة أمريكية يقودها طيارون أمريكيون تشترك فى القتال، وخطة أمريكية لإنقاذ موقف الجيش الإسرائيلى هدفها حرمان مصر وسوريا من استكمال النصر، وكانت هذه الخطة فى رأى المشير الجمسى هى الأكثر أهمية فى المعاونة العسكرية لإسرائيل. وكان وصول المسئول العسكرى الأمريكى الكبير إلى مطار بن جوريون فجر الثامن من أكتوبر على طائرة عسكرية خاصة ومعه مجموعة من التقارير الخاصة والصور الخاصة بالمعارك التى حصلت عليها الأقمار الصناعية الأمريكية التى كانت تتابع الأحداث ثانية بثانية وترصد مواقع القوات. وفور وصوله عقد اجتماعا مع كبار القادة الإسرائيليين، واستعرض معهم الموقف وقرر أن القتال إذا استمر أكثر من ستة أيام فسوف تكون النتيجة فى صالح العرب خاصة إذا طورت القوات المصرية هجومها شرقا فى اتجاه الممرات، وهو الأمر غير المستبعد، وحينئذ ستكون نتيجة القتال فى غير صالح إسرائيل. ووصل المسئول الأمريكى إلى استنتاج كشف عنه اليعازر فى مذكراته هو: الحل الوحيد هو عزل كل جبهة من الجبهتين المصرية والسورية عن الأخرى، وذلك بتوجيه ضربة مكثفة على إحدى الجبهتين لشل الجبهة السورية أو الجبهة المصرية أولا حتى تتمكن إسرائيل من القتال على جبهة واحدة.
ويقول اليعازر إن المسئول الأمريكى أدرك أن عمق رؤوس الكبارى التى أقامتها القوات المصرية فى سيناء وصل إلى ثمانية كيلو مترات، وأن أعدادا كبيرة من الأسلحة والمعدات قد عبرت، وأنه أصبح للمصريين أكثر من خمسين ألف رجل يقاتلون فى شرق القناة، وكل هذه العوامل جعلته يقرر أنه (من المستحيل التفكير فى ضرب رؤوس الكبارى، وأن الخطة التى يحملها تتلخص فى توجيه ضربة لسلاح المدرعات وأرتال الدبابات المصرية الموجودة على الضفة الشرقية للقناة لشل فاعليتها، وعمل اختراق بعد ذلك لضرب رؤوس الكبارى فيتم عزل هذه القوات، وجذب القوات المصرية إلى معارك رؤوس الكبارى فيتم عزل هذه القوات وجذب القوات المصرية إلى معارك بعيدة عن أرض المعركة- أى فى العمق المصرى باتجاه الكثافة السكانية فى مناطق المنزلة والمنصورة- مما يجعل عمل الصواريخ المصرية سام (6) مقيدا ومحدودا. والمهم أن تقوم إسرائيل بإنهاك إحدى الجبهتين للانفراد بالجبهة الأخرى وتكثيف الهجوم عليها. وبرغم ظواهر الكارثة بتعبير إليعازر كان المسئول الأمريكى مطمئنا إلى أنه بالإمكان الحد منها حتى اليوم الرابع للقتال (9 أكتوبر). وبينما كان القائد الأمريكى موجودا فى رئاسة الأركان الإسرائيلية لتنفيذ المهمة التى وصل من أجلها (بقرار من الرئيس الأمريكى) كان القتال شديدا فى الجبهتين المصرية والسورية، وحمل هذا اليوم للقيادة الإسرائيلية أنباء مؤلمة طول اليوم حتى أن موشى ديان أطلق على هذا اليوم (يوم الفشل). فقد نجحت قوات الجيشين الثانى والثالث فى إيقاع الهزيمة بقوات الضربة المضادة الإسرائيلية، وتم تحرير مدينة القنطرة شرق، وقامت قوات الصاعقة بتدمير الأهداف الإسرائيلية على الساحل الشرقى لخليج السويس، وقامت قواتنا الجوية بمواصلة هجماتها على قوات العدو وخاضت عدة معارك جوية، وقصفت مطارى المليز وتمادة وجعلتهما غير صالحين للاستخدام بواسطة العدو، وقواتنا البحرية قصفت الأهداف الإسرائيلية، وقوات الدفاع الجوى تتصدى للطيران الإسرائيلى بكفاءة وكان القتال يدور شديدا فى الجولان.
ما يهمنا هو أن القوات المصرية لم تكن تواجه إسرائيل وحدها ليس فى حرب أكتوبر وحدها بل فى جميع المعارك التى دارت بين مصر وإسرائيل.
وبالمناسبة مذكرات رئيس الأركان الإسرائيلى أثناء الحرب اليعازر ترجمت إلى اللغة العربية وأصدرتها دار المعارف منذ سنوات ولابد من قراءتها لكل من يريد أن يتحدث عن حرب أكتوبر وأخواتها.