حرب أكتوبر وأخواتها! (1)
من ينظر إلى حرب أكتوبر وحدها، ويقتطعها من سياقها التاريخى، فإنه يخطئ ويبتعد عن المنهج الصحيح لفهم هذه الحرب ونتائجها فى إطارها الشامل. فالصراع العربى الإسرائيلى لم يبدأ فى عام 1973 ولكنه بدأ قبل ذلك بكثير، وبدأ يسير على طريق ملىء بالدماء والأطماع منذ المؤتمر الصهيونى عام 1798 الذى أعلن فيه تيودور هرتزل مشروع إقامة دولة إسرائيلية فى أرض الفلسطينيين، وبعد ذلك بدأت الأرض الفلسطينية تشهد تدفق المهاجرين والعصابات الصهيونية المسلحة التى تقتل أصحاب الأرض وتغتصب أرضهم وتقيم عليها مستعمرات، ثم جاءت مرحلة أخرى انتقل فيها الصراع إلى الحرب.. الحرب بالمدافع والدبابات والطائرات..
الحرب التى يقف فيها العرب وحدهم ضد العصابات الإسرائيلية التى تدعمها الدول الكبرى: بريطانيا، وأمريكا، وفرنسا.. الخ.. الحرب التى تحكمها القوى الكبرى وتستخدم فيها قواها السياسية فى مجلس الأمن والأمم المتحدة وتقدم السلاح المتطور والأموال للعصابات الإسرائيلية التى أصبحت فيما بعد جيش الدفاع الإسرائيلى، فى سلسلة حروب عسكرية استمرت 25 عاما، إلى أن جاءت حرب أكتوبر 1973 لتعدل موازين القوة فى المنطقة، ويقول فيها العرب للعالم: نحن هنا.
ومن الغريب أن أكثر الدارسين والكُتّاب الذين تناولوا حرب أكتوبر لم يتناولوها كحلقة فى سلسلة، ولم يفسروا لنا كيف أن الحروب السابقة ليست منفصلة عنها، ولكنها كانت خطوات، أو محاولات، أو قل كانت تدريبات لابد منها حتى تصل القدرة العسكرية المصرية إلى درجة الاكتمال فكرا واستعدادا وتكتسب القيادة العسكرية الخبرة القتالية والخيال الاستراتيجى الذى تجلى فى الأساليب والخطط غير المسبوقة التى استخدمتها القوات المصرية وكلها من إبداع العقل المصرى.
ولذلك سعدت بكتاب الصديق عبده مباشر أسرار وحقائق الحروب المصرية الإسرائيلية الذى أصدرته منذ أيام هيئة الكتاب وتناول فيه بالتحليل الموضوعى الحروب من 1947 حتى 1973 فى سياق متصل حتى لتبدو الحروب الأربعة حربا واحدة من أربعة فصول أو على أربع مراحل. والصديق عبده مباشر نائب رئيس تحرير الأهرام مراسل عسكرى قديم عاش هذه الحروب ويعلم الكثير عن حقائقها وأسرارها، وهو من الكُتّاب العسكريين القلائل الذين يتناولون الحروب فى إطارها الشامل السياسى والعسكرى والإنسانى، ويقدم على أقواله أدلة واقعية ومنطقية تجعل كتاباته مرجعا لمن يريد إدراك ما كان خافيا وقت احتدام المعارك وعندما كان محظورا إفشاء بعض الحقائق التى كانت تعتبر من الأسرار العسكرية فى ذلك الوقت، وقد مضى الوقت الكافى الذى يجعل مفكرا استراتيجيا مثل عبده مباشر يبوح ببعض ما فى جعبته من أسرار هذه الحروب.
الحقيقة الأولى التى نخرج بها من هذا الكتاب هى أن الجيش المصرى لم يكن يحارب الجيش الإسرائيلى، ولكنه كان يحارب إسرائيل والقوى العسكرية والسياسية التى كانت دائما خلف إسرائيل وأحيانا كانت أمامها وتمثل درعا واقيا لها، وضمانا بعدم هزيمتها أمام العرب ولذلك تبدو حرب أكتوبر فى حجمها الحقيقى، لأنها كانت النصر للقوات المصرية على الرغم من كل ما لقيته إسرائيل من الدعم الذى يفوق قدرتها الحقيقية عشرات المرات. ففى المعركة الأولى (1947- 1949) كان الدعم لإسرائيل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، ومع ذلك فقد قامت القوات الجوية المصرية وقتها بعدة هجمات بقدرات قتالية محدودة اعتمدت فيها على كفاءة الرجال وبسالتهم وحققت فيها مع القوات البرية إنجازات جعلت القوى الكبرى تتدخل لفرض الهدنة الأولى (11 يونيو- 7 يوليو 1948). وبعد استئناف القتال (8- 18 يوليو 1948) استولت القوات المصرية على عدة مستعمرات إسرائيلية، واستمر القتال لتستولى القوات المصرية على موقع وتستعيد القوات الإسرائيلية موقعا آخر، وواجهت القوات المصرية صعوبات نتيجة طول خطوط مواصلاتها إلى نحو 300 كيلومتر، وظهرت لإسرائيل طائرات حديثة وسريعة تفوق قدرة الطائرات المصرية والعربية، واستطاعت إسرائيل أن تحقق تفوقا فى ميدان التسليح من ناحية الكم والكيف، والأهم أن القوات الإسرائيلية كانت تخضع لقيادة واحدة لها هدف واحد وواضح بينما كانت القوات العربية تخضع لعدة قيادات ولهذه القيادات أهداف خفية تختلف عن الأهداف التى تعلنها، ولذلك سارت الأحداث لصالح القوات الإسرائيلية.
فى الحرب الثانية (1956) لم تكن إسرائيل وحدها، كانت معها بريطانيا وفرنسا، ولم يكن اشتراكهما فى الحرب سرا وخفية أو بطريق غير مباشر، ولكن كان اشتراكهما فعليا ومعلنا بل إن الذى استولى على منطقة قناة السويس كانت القوات البريطانية والفرنسية، ولولا قيام بريطانيا وفرنسا بالغزو وكانت إسرائيل وحدها لما استطاعت أن تقوم بهذه الحرب أصلا، وحتى لو افترض وقامت بهذه المغامرة فإن وجه المعركة كان سيختلف من الناحية العسكرية ومن الناحية السياسية، وهذا ما كتبه موشى ديان بنفسه فى كتابه (يوميات معركة سيناء). والحقيقة الثانية فى هذه الحرب أن القوات الضاربة الأساسية المصرية لم تشترك فى القتال بعد أن أدركت القيادة السياسية أن خطة القوات البريطانية والفرنسية استدراج هذه القوات وتضربها بالطائرات البريطانية الفرنسية التى كانت فى وضع الاستعداد، وكانت الخطة قطع خطوط مواصلات الجيش المصرى فى سيناء وضرب المطارات لحرمان القوات المصرية من الحماية الجوية، وعندما اتضحت معالم هذه الخطة كان لابد من اتخاذ قرار خطير بالانسحاب لإنقاذ القوات المصرية، واكتشف العدو أن خطته انكشفت فسارعت الطائرات البريطانية المقاتلة بمهاجمة القوات المصرية المنسحبة بعنف وتمت عملية الانسحاب.
وفى يونيو 1967 كان حتما أن تبدأ إسرائيل حربها الثالثة ضد دول الجوار بتدمير الطائرات والقواعد الجوية ومحطات الرادار والإنذار الجوى وقواعد إطلاق الصواريخ المضادة للطائرات للقوات المصرية ثم الهجوم البرى فى حرب خاطفة فى الصحراء المشكوفة حيث تستطيع القوات الجوية ضرب القوات المصرية بعد حرمانها من الغطاء الجوى، وساعد إسرائيل معرفتها بالكثير من أسرار الدفاع الجوى والقواعد الجوية المصرية، وقيامها بالغزو باستغلال عنصرى: الشمول، والمفاجأة وقبل أن تستعد القوات المصرية للرد، ولم تجد إسرائيل صعوبة فى الحصول على أحدث الطائرات الأمريكية والفرنسية التى يتوفر لها المدى الذى يسمح لها بالوصول إلى أبعد مطارات مصر دون أن تفقد ميزات الحمولة والتسليح والسرعة. وقامت إسرائيل بالضربة الجوية فى الوقت الذى يسبق استعداد الطائرات والطيارين المصريين للقيام بالدوريات التى تشكل مظلة جوية لحماية سماء البلاد.
وهناك احتمال فى أن تكون المخابرات الإسرائيلية قد عرفت بموعد زيارة نائب القائد الأعلى للجبهة يرافقه قائدا القوات الجوية والدفاع الجوى ورئيس شعبة الدفاع الجوى وأنهم سيكونون فى الجو بين الساعة الثامنة والتاسعة صباحا (5 يونيو) وكالعادة لم يكن يخفى على إسرائيل أن حشدا من القادة وكبار الضباط سيكونون فى الوداع، وحشدا آخر سيكون فى الاستقبال، ويتساءل صديقى الباحث الاستراتيجى عبده مباشر: إذا كانت القيادة قد قدرت أن الهجوم الإسرائيلى سيبدأ صباح يوم الاثنين 5 يونيو 1967 استنادا إلى معلومات من مصادر مختلفة فهل لم يجد نائب القائد الأعلى ومعاونوه وقتا أفضل لزيارة الجبهة غير هذا التوقيت. سؤال لا يجيب عليه عبده مباشر إجابة مباشرة ولكنك تستطيع أن تستنتج الإجابة من ثنايا تحليله لهذه الحرب بالتفصيل من بدايتها إلى نهايتها، وبعد ذلك يتناول بالتحليل قضية فى غاية الأهمية هى قضية أمن النظام والباب الواسع للفساد بحجة حماية الذين يقومون بحماية النظام وأصحاب الولاء، ويصل عبده مباشر إلى تحليل أخطاء القادة الكبار رجال المشير عبد الحكيم عامر فى حرب 1956 ولكن المشير عامر فرض عليهم حمايته وحال دون تنفيذ رغبة عبد الناصر فى إعفائهم من مناصبهم وإحلال غيرهم محلهم. ولم يكن يخطر على بال عبد الناصر حين أصر على اختيار عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة وترقيته من صاغ (رائد) إلى رتبة اللواء مرة واحدة، ثم ترقيته فيما بعد إلى رتبة الفريق، ثم إلى رتبة الفريق أول، ثم إلى رتبة المشير، لم يخطر بباله أنه سيكون مسئولا عن قيادة الجيش فى مواجهة قوات مسلحة محترفة فى حربين متتاليين. لم يخطر بباله ذلك لأنه كان مشغولا بأمور وقضايا أخرى كما يرى عبده مباشر.
يشرح عبده مباشر بعد ذلك معارك الاستنزاف التى استمرت خلال عامى 1969 و1970 وبعد ذلك قبلت مصر مبادرة روجرز واستمرت المناورات على المسرح السياسى واستمرت استعدادات مصر لمعركة استعادة الأرض والكرامة. واستطاع السادات أن ينجح فى عدة معارك سياسية وإعلامية يطول شرحها، ونجح فى اختيار القيادة القادرة على إدارة حرب بالمفهوم الحديث، ونجح الهجوم بضربة جوية نفّذتها 240 طائرة ظهر يوم 6 أكتوبر 1973 وبعدها هدرت المدفعية المصرية وفى الدقائق الأولى سقطت على القوات الإسرائيلية 10 آلاف و500 دانة مدفعية بمعدل 175 دانة كل ثانية. وجاء دور المهندسين بعد 20 دقيقة لفتح ثغرات بمدافع المياه التوربينية فى الساتر الترابى الذى أقامه الإسرائيليون على الحافة الشرقية للقناة بارتفاع 20 مترا، وتحركت وحدات إنشاء الكبارى بعد ساعة واحدة من بدء الهجوم الجوى عبرت عليها الدبابات والمركبات وتدفقت تشكيلات المشاة، وعندما حاولت قوات العدو الجوية ضرب الكبارى والقوات المتقدمة فى سيناء اصطدمت بحائط الصواريخ ولحقت بها خسائر كبيرة..
وقصة حرب أكتوبر قصة تحتاج إلى حديث آخر والمهم أننا نستخلص حقيقتين: الأولى أن الجيش المصرى لم يحارب حربا حقيقية إلا فى حرب أكتوبر، والحقيقة الثانية أن مصر لم تحارب عدوا واحدا أبدا فى كل الحروب الأربعة.. دائما كانت هناك قوى كبرى تمنع تحقيق النصر لمصر، وهذا يجعلنا ندرك كيف أن نصر أكتوبر كان نصرا كبيرا جدا.