مؤتمر للخداع الاستراتيجى!
يبدو أن الرئيس بوش لايزال مصمما على عقد مؤتمر فى نوفمبر القادم فى محاولة أخيرة منه لتحسين صورة أمريكا فى المنطقة وإنقاذ شعبيته وشعبية حزبه قبل إجراء انتخابات الرئاسة العام القادم وقبل أن يغادر البيت الأبيض بعدها ويصبح هو وأخطاؤه جزءا من تاريخ أمريكا الحديث سوف تخجل منه بالتأكيد وتحاول نسيانه.. المؤتمر دعا اليه الرئيس بوش أطرافا عربية مع رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الفلسطينى ويدعى أنه سيكون بداية لإنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وإقامة الدولة الفلسطينية وتحقيق السلام وفقا للرؤية التى أعلنها فى بداية عهده ولم يفعل شيئا لتحقيقها ولكـن فعل العكس بتجاهل القضية وإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لمواجهة عدوانها على الشعـب الفلسطينى..
أبدت مصر والسعودية تحفظات على عقد المؤتمر بدون إعداد يدل على الجدية والاستعداد للتوصل إلى حلول مقبولة وعادلة للموضوعات الأساسية فى القضية مثل الحدود والقدس واللاجئين والمستوطنات..
والرئيس محمود عباس أعلن استعداده لحضور المؤتمر على الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلى أعلن أنه لن يناقش القضايا الأساسية، ولن يصدر عن المؤتمر مقترحات للحل ولكن سيصدر بيان مشترك، أى أن المؤتمر سيكون مجرد لقاء لخدمة الدعاية السياسية الأمريكية والإسرائيلية، والإيهام بأن القضية الفلسطينية على وشك الوصول إلى الحل، وأن السلام قادم، وبالتالى يصبح من حق إسرائيل أن تطالب الدول العربية بالتطبيع الكامل وتطالب أمريكا الدول العربية بالاشتراك فى إنقاذها من المستنقع العراقى بتحمل الخسائر وتتمكن القوات الأمريكية من الانسحاب من المدن والبقاء فى معسكراتها لعشرات السنين ويبقى الاحتلال العسكرى الأمريكى للعراق تحت حراسة الدول العربية!
المؤتمر اذن مناورة ساذجة ومكشوفة، ولو كانت لدى الإدارة الأمريكية إرادة حقيقية للحل لكانت قد أعدت لقاءات مسبقة لوقف الاعتداءات الإسرائيلية وتقريب وجهات النظر والتوصل إلى مشروع يمكن أن يكون مقبولا من جميع الأطراف.. ولكن الإدارة الأمريكية حتى هذه اللحظة تترك الحرية لإسرائيل للعربدة فى الأراضى الفلسطينية تقتل من تريد، وتدمر ما تريد، وتفرض الحصار والتجويع كما تريد، ولا يبدو أن لديها شيئا حقيقيا تقدمه للوصول إلى صلح تاريخى ينهى أكثر من نصف القرن من الصراع والحروب والدماء، ولا تزال إسرائيل تحظى بالهيمنة المعنوية ولا توجه إليها أمريكا اللوم أو الادانة على عدوانها وعقابها الجماعى على المدنيين الفلسطينيين، ولا تزال الإدارة الأمريكية تتجاهل تماما عشرات القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتجاهل عشر اتفاقات سبق أن وقعت عليها الحكومة الإسرائيلية مع الجانب الفلسطينى ولم تنفذ منها شيئا وقد يتذكر الرئيس بوش اتفاقات أوسلو، وواى ريفر، والقاهرة، وواشنطن، وشرم الشيخ وخريطة الطريق ورؤية بوش وغيرها وغيرها وكلها عليها توقيع الرؤساء الأمريكيين.. وفوق ذلك فإن الولايات المتحدة تتجنب حتى اليوم تقديم تعريف للسلام الذى تتحدث عنه، ولا تزال تعمل على سكب الزيت على النار لإشعال الانشقاق الفلسطينى بدلا من اتخاذ خطوات عملية تساعد على توحيد الصف الفلسطينى تمهيدا للدخول فى مفاوضات جادة توصل إلى هذا الحل التاريخى.. أمريكا تسعى إلى عقد مؤتمر للسلام فى جو من العنف ليس له مثيل، والحكومة الإسرائيلية تعمل على فرض سيطرتها على الشعب الفلسطينى وتمارس عليه ألوانا من القمع تدفعه إلى الانفجار والانتحار والتعبير عن الغضب بكل وسيلة ممكنه...
ليس لدى الإدارة الأمريكية خطة أو خطوات حقيقية للتوصل إلى السلام لتقدمها فى هذا المؤتمر.. مع أن فى إمكانها ـ لو كانت جادة ـ أن تعد مشروعا من العناصر التى سبق التوصل اليها فى مفاوضات طابا فى يناير 2001 واقتراحات (إيهود باراك) فى سبتمبر 2000 ، وخطاب وزير الخارجية الأمريكى السابق (كولين باول) فى أكتوبر 2001 وقرارات مجلس الأمن 242و338 وغيرها من عناصر للحل يمكن البناء عليها بحيث يتحقق التعايش السلمى بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين ويضمن الأمن لإسرائيل كما يضمن تمتع الفلسطينيين بمقومات الحياة، ومن الممكن بالطبع وضع ترتيبات للأمن عند الحدود النهائية لدولة إسرائيل وهى حدود عام 1967 ويمكن أن يكون للولايات المتحدة دورا فى ضمانات الأمن للدولتين..
لو كانت الإدارة الأمريكية جادة فى التوصل إلى سلام من خلال هذا المؤتمر فعليها أن تعلن منذ البداية رفض تقطيع الأراضى الفلسطينية وعزل بعضها عن البعض الآخر بمستعمرات إسرائيلية مسلحة، وعليها أن تعلن صراحة أن القدس الشرقية ستكون عاصمة للدولة الفلسطينيـة، وعليهـا أن تعلن تصورها لكيفية التعامل مع المياه والكهرباء والمرافق اللازمة لحياة الشعب الفلسطينى فى دولته..
باختصار إن مجرد عقد مؤتمر جديد لن يحقق شيئا إذا لم تكن هناك رؤية كاملة للسلام على المائدة، والإدارة الأمريكية أول من يعلم أن طرفى الصراع لا يستطيعان الوصول إلى تسوية وحدهما، وأن المسئولية فى إقرار السلام أو استمرار الصراع تقع على الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، فهى الطرف الذى نجح فى الامساك بخيوط القضية وبالقدرة على التأثير على الأطراف جميعا بشرط أن تقدم حلا عادلا لكى يدوم.. المشكلة أن الإدارة الأمريكية لا تفعل شيئا لتحقيق العدل وتمارس الضغوط على السلطة الفلسطينية وحدها وتفرض عليها الشروط والاستحقاقات دون أن تطالب إسرائيل بشئ فى المقابل ولو بالالتزام بالاتفاقات التسعة التى وقعتها لوقف العدوان..
الشئ الوحيد الذى لا تريد الإدارة الأمريكية أن تفهمه أن ارادة الشعب الفلسطينى لا يمكن كسرها ولا يمكن أن يفرط شعب فى أرضه ووطنه مهما بلغت التضحيات والضحايا، ويمكن أن تستعيد الإدارة الأمريكية أحداث حرب الاستقلال الأمريكية والمقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسى ومقاومة شعب جنوب افريقيا لسياسة الفصل العنصرى، وعشرات الأمثلة لنضال الشعوب من أجل الحرية والاستقلال والقضاء على الاحتلال، ولن يكون لمثل هذا المؤتمر قيمة اذا لم تدرك الإدارة الأمريكية أن تخلى الفلسطينيين عن القدس مستحيل لأن القدس ليست قضية فلسطينية ولكنها قضية عربية إسلامية يمكن أن تشعل نيران الغضب الذى لا ينطفئ اذا لم تجد الحل العادل، ومستحيل قبول إنشاء دولة فلسطينية مقطعة الأوصال محرومة من المقومات الأساسية للدولة، أو قبول استمرار وضع الشعب الفلسطينى تحت رحمة الدبابات والصواريخ الإسرائيلية..
وإذا قيل إن انقسام الفلسطينيين هو الذى يجعل الحل مستحيلا فإن الجميع يعلمون أن إرادة الحل إذا توافرت فسوف يتوحد الفلسطينيون تحت راية واحدة وقيادة واحدة وسوف تنتهى كل صور العنف من الجانب الفلسطينى اذا انتهت من الجانب الإسرائيلى..
فى عبــارة واحــدة: علـى الإدارة الأمريكية أن تقدم ما يثبت أنها جادة هذه المرة، لأن العرب لم تعد لديهم ثقــة فى التصريحات والوعــود والعهود التى تقدمها لهم وقد خابت آمالهم فى كل مرة صدقوا فيها ما تقوله الإدارة الأمريكية..
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف