مرصد آخر لمكافحة الفساد!
عرضت وزارة التنمية الإدارية تقريرا على مجلس الوزراء عن نتائج دراستها للفساد فى أجهزة الحكومة. انتهى التقرير إلى توصية بانشاء جهاز جديد أطلقت عليه الوزارة اسم ((المرصد القومى لرصد الفساد)) ونشرت الصحف تصريحا للدكتور أشرف عبد الوهاب مساعد الوزير ورئيس اللجنة التى وضعت التقرير قال فيه إن فى مصر 22 جهة مختصة بمكافحة الفساد ، وإن مهمة المرصد الجديد لن تكون بديلا عن هذه الجهات الرقابية الرسمية ، ولن تكون لأعضائه صفة الضبطية القضائية ، وسوف يكتفى هذا المرصد باعداد تقارير عن الفحص والرصد فى كل موقع ويقدمها للجهات الرسمية..
طبعا انتهى جهد هذه اللجنة إلى لاشئ كالعادة والقى بتوصياتها عرض الحائط . ولكن هذا التقرير يدل على أن الوزارة تدرك أن حجم الفساد فى أجهزة الحكومة أكبر مما يمكن للمواطنين احتماله ، وأن مجلس الوزراء يجب أن يكون فى الصورة لما يحدث فى كل مواقع ، ولكن العلاج الذى يقترحه التقرير ليس إلا إضافة جهاز جديد ووظائف جديدة لعشرات من المستشارين والخبراء وأطنان من الورق فوق مايتكدس كل عام من أطنان الورق فى تقارير 22 جهازا للرقابة والتفتيش والمراجعة وكل جهاز منها ليس الا مرصدا لرصد الفساد الفردى والمؤسسى ، وفى كل تقرير لكل جهاز من هذه الأجهزة وقائع وحقائق ومستندات ومقترحات لمحاسبة الفاسدين ولسد منافذ الفساد. وهكذا تمخضت وزارة التنمية الإدارية فولدت فأرا. لأن الجهاز المقترح أضعف من جميع الأجهزة القائمة ولن تكون له سلطات وصلاحيات مثلها ، فهو جهاز للعرض فقط يزيد عدد الأجهزة البيروقراطية وفى النهاية لن يكون سوى (خيال المآته) لن يخيف أحدا .. ولن يحاسب أحدا.. ولن يصلح شيئا.. فقط يرصد ويكتب تقريرا.. ومصير التقارير الحكومية معروف.. وهذا هو نموذج الفكر الذى يقود وزارة التنمية الإدارية..
بنفس الفكر الشكلى اتفقت وزارة الدولة للتنمية الإدارية ووزارة الاستثمار مع البنك الدولى وهيئة الخدمات الحكومية على قطع دابر الفساد فى المناقصات والمزايدات الحكومية ، وذلك بعقد ورشة عمل لبحث توحيد الجهات الرقابية لمكافحة الفساد ـ ونشرت الصحف تصريحا لوزير التنمية الإدارية قال فيه إن تعدد الجهات الرقابية له تأثير سلبى على بيئة الاستثمار وهروب الاستثمارات الأجنبية. وقال أيضا إن موقف مصر تحسن فى مؤشر الشفافية فى ترسية العقود الحكومية فأصبحت فى المرتبة 47 بعدما كانت فى المرتبة 55 ، والهدف الأساسى للحكومة أن تصل مصر إلى المرتبة العشرين. وفى نفس الوقت نشر تصريح لأحد الخبراء قال فيه إن البداية للوصول إلى هذا الهدف هى الغاء المادة التى تقضى ببيع الشركات العامة بمعرفة الحكومة وبيع الشركات بالمظاريف المغلقة. وطالب هذا الخبير بوضع دليل يلزم الشركات باجراءات معينة فى المناقصات والمزايدات الحكومية لكى يتم بيع الشركات العامة بصورة أكثر شفافية ولكنه ـ طبعا ـ لم يتطرق إلى عملية بيع بنك القاهرة لمستثمر رئيسى بشرط أن يكون أجنبيا وليس مصريا ، لأن موضوع بنك القاهرة قصته لم يرفع الستار عنها بعدا..
تصريح الوزير يعنى الاتجاه إلى إبقاء جهات الرقابة لنفس الهدف (مكافحة الفساد) وإضافة جهة جديدة للرقابة هى (المرصد) والوزير سعيد لأن مصر أصبحت فى المركز 47 فى مؤشر الشفافية. وأظن أن المصريين ليسوا سعداء بذلك وكانوا يأملون أن يكون الوضع أفضل من ذلك فى ظل التصريحات الحكومية عن طهارة اليد والشفافية التى تنهال كالمطر!
وضمن زحام الأحاديث والتصريحات عن الفساد ومحاربة الفساد نشر على لسان الدكتور حسام بدراوى عضو الأمانة العامة للحزب الوطنى ورئيس لجنة التعليم بالأمانة أن هناك جمعية اسمها (جمعية مكافحة الفساد) ورئيسها هو الدكتور حسام نفسه ، وأن هدف هذه الجمعية ـ كما قال ـ هو محاربة الفساد والقضاء عليه فى جميع المجالات فى مصر ، وبشرنا بأن هذه الجمعية تضم مجموعة مختلفة من الأطياف السياسية وتعمل بقوانين معروفة عالميا لتعريف الفساد واكتشافه وفقا لما جاء بلجنة منبثقة عن الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ، وضمن هذه المجموعة عدد من البرلمانيين والسياسيين وغيرهم ، وقد وضعوا خطة للعمل ،وقال الدكتور حسام إنهم يناقشون مشاكل النشر والصحافة وكيفية إتاحة المعلومات بطريقة صحيحة تضمن حسن أداء العمل وتكشف الفساد فى نفس الوقت.. ووجه الدكتور حسام بدراوى ـ بصفته رئيسا لجمعية مكافحة الفساد ـ الدعوة للجميع للمشاركة لتكون هذه الجمعية البذرة الأولى لكى تصل مصر إلى مستوى عالمى فى الشفافية مثلما حدث فى هونج كونج وسنغافورة ومنذ سنوات قليلة كانت هونج كونج وسنغافورة أكثر دول العالم فى معدلات الفساد لدرجة انتشار الاعتقاد فيهما بأن الفساد مثل القطار لايمكن الوقوف أمامه ، إنما يمكن القفز منه إشارة إلى أن الفساد كان من لوازم الحياة فيهما مثل الهواء والماء ، ولكن كلا من الدولتين كانت لديها القوة والحزم وحاربت الفساد حتى أصبحت هونج كونج فى المركز الثالث وسنغافورة فى المركز الرابع على مستوى العالم فى الشفافية..
الجهاز الذى كان مقترحا لمحاربة الفساد جهاز مختلف عن الأجهزة القائمة كما قيل لأنه جهاز أهلى وليس حكوميا ، وهو بذلك جهاز بلا سلطات ولاصلاحيات ولكن الدكتور حسام يتحدث عنه وكأنه قادر على قطع دابر الفساد بمجموعة المتطوعين من أعضائه الذين لانعرف إن كانت لهم صلة بالفساد أم لهم صلة بأجهزة محاربة الفساد ، وهل لديهم الخبرة والصلاحية لهذه المهمة أو أن لديهم فقط الرغبة فى الخدمة العامة أو الرغبة فى الشهرة والظهور فى الإعلام، فهم لم يفصحوا عن الوسائل التى سيتبعونها لاكتشاف الفساد والوسائل التى يملكونها لمكافحته، كما لم يعلنوا عن النتائج التى حققوها حتى الآن إن كانوا قد حققوا شيئا..
المسألة ـ كما تبدو ـ مجرد كلام فى كلام. وتصريحات وزير ومساعد وزير ورئيس جمعية، وهمة كبيرة وحماسة بالغة.. على الورق!
أما تقرير مركز الدرسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام فيقول إن العديد من الدول العربية ـ وليست مصر وحدها ـ أعلنت عن إعطائها الأولوية لمكافحة الفساد، سواء كان هذا الموقف حقيقيا أو دعائيا أو مرتبطا بتصفية حسابات، وهو ـ على أى حال ـ يلتقى مع مطلب شعبى دائم بمكافحة الفساد, وإن كانت غالبية الحملات اقتصرت على ضبط بعض قضايا الفساد دون أن تعالج أسبابه أو تطوير الضوابط لمنعه، ولم تعمل أية دولة من الدول العربية على انشاء مؤسسات لها استقلالية وسلطة النفاذ للمعلومات المتعلقة بأعمال الدولة وعقودها الداخلية والخارجية واتخاذ إجراءات رادعة وحاسمة مع كبار الفاسدين قبل صغارهم..
وهناك هيئة الشفافية الدولية التى أنشئت عام 1993 كمنظمة غير حكومية مقرها برلين ومهمتها الحد من الفساد فى دول العالم ، وفى أحد تقارير هذه الهيئة جاءت تونس فى المرتبة 32 ، والمغرب فى المرتبة 37 ، والأردن فى المرتبة 40 ، ومصر فى المرتبة 63 مثل الصين ولكن مصر تحسن وضعها كما يقال فأصبحت فى المرتبة 47 ، أما الجزائر فقد قال رئيسها عبد العزيز بوتفليقة فى يوم من الأيام (إن الفساد فكك أواصر الدولة ، وسفه قيم الحكم ، وأربك مسيرة التنمية الأقتصادية والاجتماعية، وأدى بمفاهيم العمل والنزاهة إلى الانحراف، وقد ولد فى النهاية ظاهرة الإرهاب المدمرة) . وفى لقاء بوتفليقةمع الجالية الجزائرية فى مدينة مونتريال الكندية فى مايو 2000 تعهد بمحاربة الفساد المستشرى فى الجزائر مشيرا إلى أنه مستعد لتعريض نفسه للموت من أجل ذلك، ولم يعرض الرئيس الجزائرى نفسه للموت ولم يتمكن من القضاء على الفساد والله أعلم!
ويذكرنا الباحث المعروف الدكتور أحمد النجار ـ الخبير فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام فى دراسة له عن الفساد فى الدول العربية بما حدث عندما مزق العقيد القذافى الميزانية العامة لليبيا عام 2000 فى مؤتمر جماهيرى عام ، وكان ذلك مؤشرا على غضبه على أمين اللجنة الشعبية العامة للمالية (وزير المالية الليبى) ، وتمت إقالته هو ومحافظ البنك المركزى الليبى (طاهر الجهيمى) ، وخضع وزير المالية (محمد بيت المال) ومعه 22 من القيادات المصرفية للتحقيق معهم بتهمة التورط فى منح قروض بدون ضمانات لبعض الشخصيات مما أدى إلى ضياع 4 مليارات دولار من أموال الشعب الليبى ، وشكل العقيد القذافى لجانا سميت (لجان التطهير) للتحقيق وتحديد المسئولية عن ضياع هذه المليارات فى قروض بدون ضمانات..
ويختم الدكتور النجار بقوله إن هناك إجماعا على أن قضية مكافحة الفساد هى قضية نبيلة وتتمتع بكل المشروعية الاقتصادية والسياسية والأخلاقية ومن الضرورى أن تتم هذه المكافحة بشكل صارم ونزيه وعادل فى أى بلد..
والقضية ليست إنشاء أجهزة جديدة أو توحيد الأجهزة القائمة. القضية هى وضع الضوابط والقواعد الواضحة والصارمة لضمان الشفافية فى كل العمليات المالية والاقتصادية ونشر جميع المعلومات بكل عملية بيع أو شراء ، ووضع قواعد تضمن نظافة اليد فى عمليات المناقصات والمزايدات وبيع الشركات والبنوك وكافة المعاملات المالية والعقود الداخلية والخارجية.. ذلك أفضل جدا من إنشاء عشرين مرصدا يرصد الفساد بعد وقوعه!!