البــابا شنودة شاعـرا
يبدو أن هناك علاقة بين العاطفة الدينية والوطنية وبين الشعر، ويبدو أن الوجدان حين يفيض بحب الله، وحب الوطن، يعبر الإحساس عن نفسه بالشعر، ودليلى على ذلك أن محمود سامى البارودى كان من أقوى شعراء الوطنية، وأن الشيخ الشعراوى والبابا شنودة كانا من أقوى شعراء الحب، حب الله وحب الوطن، وقد تناولت شعر الشيخ الشعراوى فى كتابى «مع الشيخ الشعراوى» الذى صدر مؤخرا فى سلسلة «اقرأ» وأجد نفسى غارقا فى بحور الشعر التى تركها لنا البابا شنودة.
فهو يعبر عن وحدته فى المغارة التى أعتزل الدنيا فيها أكثر من عشر سنوات ولم يكن يؤنسه فى وحشته، ويبعد عنه أشباح الخوف من وحوش الصحراء إلا صحبته لله ومناجاته التى عبر عنها فى قصائد كثيرة منها قصيدة بعنوان «من نكون»؟ قال فيها متأملا فى وجوده وحياته وما فيهما من دلالة على قدرة الله:
كـــل مـــا هــــو لك صمــت وسكـون
وهــــدوء يكشـــف الســـر المصــــون
اعتـــزلت النـــاس حتـــى مــا نـرى
غيــر وجـه الله ذى القلــــب الحنــون
وتــركت الكـــون بــــل أنسيتـــــــه
لــــم يعـــاودك إلى الكـــون الحنيـــن
هـــل تـــرى العــــــــالم إلا تافهـــا
يشتهـــــى المتعـــة فيـــه التافهـــون
كـــل مـــا فيـــه خيـــال يمحــــــى
كـــل مــا فيــه سيفنــى بعــد حـــين
فى هذه القصيدة يتساءل عن كينونته واكتشافه بأن متع الدنيا زائفة وزائلة ويبقى الله هو الحقيقية التى لا تتحول ولا تتغير ولا تزول، وفى نفس السياق يستكمل تأملاته فى قصيدة أخرى يقول فيها:
إن للكـــــــــون إلهــــــــا
ليـــس معبـــــودا ســــواه
هـــو أصــــل للوجـــــــود
وهــــو أصــــل للحيــــــاة
ينحـــنى الكـــل خضوعـــا
فلـــــه تحـــــنى الجبـــاه
فـــــى ركـــــوع وسجـــود
فــــى ابتهـــال وصـــــلاة
يجــــد الوجـــــدان فيـــه
أسمــــــــى مشتهــــــــاه
وفى قصيدة يرجع تاريخها إلى عام 1961 أثناء حياته فى الصحراء.. حياة الوحدة، والتأمل، والمناجاة، يعبر عن حالة نفسية أقرب إلى الحالة التى كتب فيها الشاعر اللبنانى خليل مطران «لست أدرى» التى يقول فيها: جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت، وسأبقى سائرا فيه شئت أم أبيت، كيف جئت، كيف أبصرت طريقى.. لست أدرى».. أما البابا شنودة فقد اختار لقصيدته عنوانا «تائه فى غربة» يقول فيها:
لسـت أدرى كيف نمضــى أو متـــى
كــل مــا أدريــه أنّا ســوف نمضـى
فـــى طريـــق الــموت نجرى كلنا
فــى سبــاق بعضنــا فى إثــر بعض
كبخــــــار مضمحـــل عمرنــــــــا
مثـل بـرق سـوف يمضـى مثل ومض
يــا صــديقى كنــا كمــا شــئت إذن
واجــر فى الآفــاق مـن طول لعرض
فهو مثل كل الزهاد فى الإسلام والمسيحية يتأمل مسيرة الإنسان فى حياته الدنيا فيجدها قصيرة، وكل ما فيها من المتع والآمال والأطماع، ما يطلبه الإنسان فيها من مجد ومال وشهرة.. كل ذلك سينتهى به ملقى فى باطن الأرض فى مساحة محدودة، ولن يبقى له إلا الذكر والعمل الصالح وما فعله فى عيادته وإخلاصه لله، ولو تذكر الإنسان هذه الحقيقة التى لا مهرب منها لعاش حياته يعمل فى الدنيا دون أن يغفل لحظة عن طاعة الله، ولا يغفل لحظة عن مصيره المحتوم، ويعد نفسه له، وهذه الحقيقة كانت فى قلبه من قبل ذلك بكثير، ففى عام 1946 نظم قصيدته عبر فيها عن إحساسه بالغربة فى الدنيا والغربة عن صخب الناس وأطماعهم، ويقول فيها:
غـريبا عشــت فـى الدنيا
نـــزيلا مثـــل آبائـــــى
يمــوج النــاس فـى مـرج
وفــى صخـــب وضوضـاء
وأقبــع هـا هنـا وحـــدى
بقلبـى الــــوادع النــائى
غريبــا لـم أجــد بيتـــــا
ولا ركنـــــا لإيـــــوائى
تــركت مفـــاتن الدنيــا
ولـــم أحفـــل بناديهـــا
ورحـــت أجـــر ترحالى
بعيــــدا عـــن ملاهيهـا
هذا الشعور بالوحدة، وبالتوحد مع الله، ومع الكون، وهو فى الصحراء الواسعة المقفرة، حيث يكون الإنسان أقرب إلى الله، وقد عبر عن ذلك فى قصيدة قال فيها:
لســــــــــــــت طينــــــــــــــــــــا
أنــــا روح مـــن فــــم الله خـــــــرجت
وســـــــأمضـــى راجعـــــــــا للــــه
أحيــــــــــا حيــــــث كــــــــــــــنت
وفــى منـاجاة لله يقول فى قصيدة أخرى:
يا إلهـــى أنت عونــــى، أنــت حصنـى
أنت ربــــى، أنـــا أحيــــا فــى حمـاك
فيــــــك مــــا يشبـــع قلبـــى دائمــــا
إيــــه ربـــــى متعـــة القلــــب رضاك
أما فى حب مصر فله عشرات القصائد تحتاج إلى حديث خاص ومنها قصيدة بعنوان «فى حب مصر» يقول فيها:
تعيشـين يا مصر فى مهجتى
وأهــواك يا مصر عمق الهوى
إذا غـبت عنــك ولــو فتـــرة
أذوب حنينــا أقاسـى النوى
إذا عطشــت إلى الحــب يوما
بحـبك يا مصـر قلبـى ارتوى
عاش بالحب.. ورحل ليلتقى بحبيبه الأكبر.. وكم كان يحب الناس.. وكم كان يحبه الناس.. فإن الله واحد.. وكل من يحب الله ويخلص فى حبه يجد نفسه قريبا من كل محبى الله.. فرق بين مسلم ومسيحى.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف