أحلام الوزير السابق
الدكتور مصطفى الرفاعى وزير الصناعة السابق كانت لديه رؤية لتطوير الصناعة المصرية لم يحقق منها سوى القليل خلال الفترة القصيرة التى تولى فيها الوزارة، ولكنه أراد أن يقدم هذه الرؤية لتكون تحت نظر من يفكر فى عبور الفجوة التكنولوجية التى تفصل بين مصر ودول آسيا. والحلم الذى يسيطر على تفكيره أن تصبح مصر دولة قوية، والدولة القوية هى التى تملك مؤسسات علمية وصناعية وعسكرية قوية، تكون أساس اندماجها فى المجتمع الدولى وفى الاقتصاد العالمى.. وهى الدولة التى تعرف مصادر قوتها وتحسن استخدامها ولا تهدر شيئًا منها.. هى التى تدرك أن الدول المتقدمة تحتكر التكنولوجيا ولا تريد مساعدة الدول النامية على التقدم، وسياستها قائمة على استنزاف ثروات الدول النامية وفتح الأسواق لمنتجاتها فى هذه الدول وضمان استمرار التفوق والهيمنة الاقتصادية التى تفتح لها الأبواب للهيمنة السياسية..
والحل أن تزيــد الدول النـــامية مدخراتها المحلية وتستثمرها فى الصناعـة – ولا يهم أن يكون ذلك بالقطاع العام أو القطاع الخاص، المهم هو إنشاء كيانات صناعية مصرية متقدمة تكون منتجاتها وفقًا للمستويات العالمية. ولمصر تجربة بدأتها منذ عشرات السنين عندما أنشأت الهيئة العامة للتصنيع التى حققت الكثير وأنشأت مصانع كان يمكن تطويرها لتكون نواة لنهضة صناعية كبرى، ولكن المسيرة تعثرت بعد ذلك، بينما أخذت دول أخرى بهذا النموذج المصرى وحققت نهضتها.
تعثرت النهضة الصناعية لأن بناء القواعد الصناعية لم يصاحبه بناء لقواعد تكنولوجية ومؤسسات للبحث للتطوير، وإن كان ذلك لا يقلل من الإنجازات التى تحققت وكان يمكن أن يتحقق ما هو أكثر إذا كنا قد ركزنا على استيراد الآلات والمعدات الصناعية الحديثة بدلاً من التوسع فى استيراد السلع الاستهلاكية، فكانت النتيجة أن المصانع لم يتم تحديثها، ومعظمها انتهى عمرها الافتراضى ولم تعد صالحة لإنتاج السلع الجيدة التى تقدر على الصمود فى وجه المنافسة الضارية فى الأسواق الخارجية، وارتبكت اقتصاديات التشغيل وتزايدت ديونها للبنوك، ولم تفكر الحكومة فى وسيلة للتعامل معها سوى عرضها للبيع، وهكذا تحولت هذه المصانع التى كانت مفخرة نباهى بها الأمم إلى مشكلة قومية تبحث الحكومة عن التخلص منها.
الدرس المستفاد من ذلك أن استمرار التجديد هو الضمان لتطور الصناعة، أى أننا يجب أن نضع التنمية التكنولوجية فى أولويات العمل الوطنى، وأن تسير التنمية التكنولوجية والعلمية مع التنمية الصناعية خطوة بخطوة. والتنمية التكنولوجية ليست فقط البحوث العلمية والتطوير فى الهندسة، ولكنها تشمل الإدارة الحديثة، والتخطيط، والتنظيم، بل إن مفهوم التكنولوجيا الحديثة يحدد أسلوب حياة الفرد ومعيشته، بحيث يكون حل كل مشكلة فردية أو عامة بالأسلوب العلمى فى التفكير والتخطيط والعمل، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تعود المجتمع على احترام الإبـــداع والعلــم بدلاً من احترام المال والسلطة فقط، وإذا تحققت ثــورة حقيقية فى مجال التعليم بالفعل وليس بالكلام لإعداد عقول وكوادر تتفهم طبيعة هذا العصر (عصر المعلومات والتكنولوجيا) وتجيد التعامل معه..
ولابد أن نعترف بأن التعليم الجامعى عندنا متخلف ولا يقارن بالتعليم الجامعى حتى فى الدول الآسيوية التى تقدمت – ولا نقول الدول الأوربية – مع العلم بأن العولمة تعنى أن الحدود بين الدول سوف تزول ولن تفضل كل دولة تشغيل مواطنيها إلا إذا كانوا على المستوى العالمى فى الكفاءة والعلم، فإن لم يكونوا كذلك فسوف تفضل الاستعانة بالأجانب، لأن المعيار هو الكفاءة والإنتاجية وليس للعواطف الوطنية أولوية كما كان الأمر قبل العولمة!
وإذا كنا لا نستطيع النهوض بالملايين من القاعدة العريضة ليكونوا على المستوى العالمى فى العلم والكفاءة والإنتاجية والقدرة على التنظيم والانضباط فلا أقل من البدء بتكوين مجموعات من المتفوقين ذهنيًا يتمتعون بالقدرة على مسايرة التطور، وهذه المجموعات يمكن أن تكون الطليعة وتتسع قاعدتها بعد ذلك تدريجيًا، وتكون أهم مصادر الثروة القومية للتعامل مع متطلبات العصر فى جميع المجالات وليس فى الصناعة والهندسة والتكنولوجيا فقط، بل نحتاجها فى القانون، والتعليم، والتخطيط، والبرمجيات، وإدارة البنوك والشركات، وفى التسويق وهكذا، وهى التى ستنقذ البلاد من بيع كل شىء نفشل فى إدارته.
ولن نحقق التقدم إلا إذا بدأنا تنفيذ سياسة واضحة لنقل التكنولوجيا وأنشأنا هيئة جديدة للتفكير المستقبلى والتخطيط ودراسة المشاكل الاقتصادية والصناعية واقتراح بدائل للحل، هذه الهيئة تضم النخبة ممن يملكون الرؤية والفكر والمعلومات والخبرة والغيرة الوطنية، وهى مختلفة عن الدراسات والتقـــارير التى تعدها المجالس القومية فى أنها مسئولة عن التخطيط والتفكير والقيادة. ومثــل هذا الكيان موجود فى الدول المختلفة ويطلق عليه Brain Trust أو Think Tank، عبارة عن مجموعات تتولى تحليل القضايا والمشاكل وتقترح المشروعات والحلول والمبادرات بالتفصيل وتقدم نتائج دراستها إلى جهاز التنفيذ وتؤخذ هذه الدراسات بجدية وتأخذ طريقها إلى التنفيذ فعلاً ولا توضع فى الأدراج. وهكذا يكون لدينا (العقل) الذى يفكر ويضع التصورات لتحسين الأوضاع الحالية فى كافة المجالات ولا تلقى مسئولية التفكير المستقبلى على الوزراء وحدهم وهم غارقون فى مشاكل الحاضر التى تتفجر تحت أقدامهم ولا تدع لهم فرصة لتجاوز الواقع والتحليق فى المستقبل و(مجموعة التفكير المستقبلى) هذه هى التى تضع التصور لكيفية تحديث الصناعة، وكيفية بناء المدن الجديدة، وغزو الصحراء، وحل مشاكل البطالة، والانفجار السكانى، وتدهور التعليم، وقلة إنتاجية العامل والموظف، وتخلف الإدارة، ومواجهة سيطرة البيروقراطية، وكيفية الاستغلال الأمثل للموارد وإنقاذها من الإهدار، وكيفية تصنيع الصناعة ذاتها والتصميم المناسب للمصانع، وكيفية تخطى العقبات أمام التصدير.
مشكلتنا أن التنفيذ فى كل مشروع يبدأ قبل أن تسبقه دراسة دقيقة لكل التفاصيل، وتكون النتيجة أن يتعثر التنفيذ، ويتأخر، وأحيانًا يتم هدم المشروع بعد بنائه لأن الدراسة لم تتم بصورة كافية قبل التنفيذ، وآخر مثال جراج رمسيس الذى أهدرت فيه أموال تقرب من 40 مليون جنيه فى بنائه ثم هدمه، دون أن يكون مفهومًا لماذا تم البناء ولماذا تم الهدم وأين كان المسئولون عن هذا وذاك، وهل حاسبهم أحد عن إهدار هذه الملايين؟
الدكتور الرفاعى يرى ضرورة امتلاك القدرة على تعميم الوحدات محليًا وفى إمكان المصريين إنتاج المعدات الصناعية وعدم الاعتماد على استيرادها جاهزة، وهناك نماذج للدول التى اعتمدت على خبراء الهندسة الوطنيين مثل المكسيك التى تحظر بالقانون التعاقد على استيراد معدات يمكن تصنيعها محليًا ونتيجة لذلك أصبح لديها ثلاث شركات هندسية متكاملة مملوكة للدولة تشكل قاعدة تكنولوجية ساهمت فى تحديث الصناعة. وأسبانيا فرضت بالقانون أن تتولى الشركات الأسبانية جميع أعمال التصميمات الهندسية للمشروعات ونتيجة لذلك تكونت فى أسبانيا شركات هندسية تكنولوجية متكاملة منها المؤسسة الصناعية الوطنية القابضة لمعظم الصناعات الكيماوية والبتروكيماوية والنقل والثروة المعدنية، وتكونت شركة تكنيكاس التى تنافس الآن الشركات العالمية الكبرى.
الخلاصة أن انتقال مصر إلى مصاف الدول الصناعية لن يتحقق على يد الأجانب أبدًا، لأن ذلك لم يتحقق فى أية دولة فى العالم، وكل دولة تقدمت صناعيًا وتكنولوجيًا تقدمت بأيدى أبنائها وبتدخل حكوماتها وليس بتخلى الحكومات عن العمل فى تنمية القدرات التكنولوجية الذاتية، والأجانب لن يستثمروا أموالهم وخبراتهم فى تنمية بلادنا وهم يبحثون عن الربح بأسرع طريق، وخروج أرباحهم فى أسرع وقت.
فى عبارة واحدة يلخص الدكتور الرفاعى نتاج خبرته فيقول: يجب ألا نعطى أسواقنا هدية بلا مقابل للدول الصناعية ولنا فى الصين دروسًا مفيدة لمن يرغب فى التعلم. وإذا كان مفهومًا أن تعمل الدول الصناعية الكبرى على تعطيل مسيرة تحديث الصناعة ونقل التكنولوجيا الحديثة للدول النامية، فليس مفهوماً - ولا مقبولاً - أن يكون بيننا من يساعد على تنفيذ سياسات الدول الكبرى التى تخرب اقتصادنا وتزيد مشاكلنا الاجتماعية.
أحلام الدكتور الرفاعى تدور كلها حول عبور مصر الفجوة التكنولوجية، وقد بدأ فى ذلك عندما تولى وزارة الصناعة سنة 1999 ولكنه واجه مشاكل وصعوبات متراكمة منذ عشرات السنين، وكانت مشكلته الأكبر مع القطط السمان الذين سيحققون ثرواتهم وترتبط مصالحهم ببقاء التخلف فى الصناعة والتكنولوجيا، والارتباط بمصالح الشركات العالمية الكبرى، وتنفيذ سياسة استيراد المنتجات الجاهزة وليس استيراد التكنولوجيا والمصانع كما تفعل الصين وماليزيا وغيرها. وهؤلاء يقدمون أسواقنا هدية للشركات الأجنبية بلا مقابل. لقد أحسن الدكتور مصطفى الرفاعى بتسجيل خلاصة تجاربه كوزير للصناعة ثلاث سنوات، وقبلها كرئيس لشركة إنبى للبترول التى حقق فيها نجاحه الأكبر، وقبلها كان مسئولاً فى شركة ديبونت دينمورز فى أمريكا وهى شركة متخصصة فى مجالات اختراع وتصنيع المنتجات الجديدة والمواد الجديدة، كما اكتسب خبرة فى التصنيع بالمكسيك والجزائر والإمارات وعمل مستشارًا للأمم المتحدة. وقد سجل تصوراته فى كتاب أصدرته مكتبة الشروق الدولية بعنوان (عبور الفجوة التكنولوجية – قصة عمل وطنى معاصر) ولو كل وزير سجل لنا تجربته بعد تركه الوزارة فسيكون لدينا رصيد من التجارب والأفكار تفيد من يريد أن يستفيد ولا يبدأ كل وزير من نقطة الصفر دائمًا.