هل النيل فى خطر؟
لابد أن يسيطر عليك القلق- مثلى- ويطير النوم من عينيك- كما حدث معى- عندما تطالع كتابا جادا بعنوان (النيل فى خطر) ومؤلفه الدكتور محمد القصاص من أكبر العلماء المصريين العالميين المتخصصين فى شئون البيئة ومعروف بأنه يزن كلماته بميزان الذهب، ويلتزم فى كتاباته بالدقة الشديدة، وبالمنهج العلمى، ويعرف أن ما يكتبه يقرؤه علماء وخبراء البيئة ويسجل فى جامعات وهيئات ومنظمات دولية عديدة.
الدكتور القصاص يدق أجراس الإنذار فى كتابه الذى أصدرته دار المعارف فى سلسلة (اقرأ) وهى السلسلة الذهبية التى يزيد عمرها على 54 عاما وفيها أشهر أعمال كبار الأدباء والمفكرين والعلماء المصريين والعرب.. ويحذرنا الدكتور القصاص من أن الدراسات عن تغيرات المناخ العالمى التى أشرفت عليها المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أثبتت أن الدول العربية واقعة فى حزام الجفاف العالمى وستكون عرضة لمخاطر تغير المناخ، وليس أمامها إلا حشد الجهود والإمكانات العربية للمحافظة على البيئة فى المنطقة، ولن تقدر الدول العربية على ذلك وهى فرادى، وليس أمامها إلا أن تعمل معا لحماية مستقبلها.
أما مستقبلنا الذى يرتبط بالنيل فإن التحذيرات عنه كثيرة!
التحذير الأول: أن قضية المياه فى مصر سيزداد خطرها فى السنوات القادمة إذا لم نحسن ترشيد استخدام المياه فى المنازل وترشيد مياه الرى فى الزراعة، وهذه المسئولية يتحملها كل فرد من المصريين، ويتحملها- طبعا- وزير الرى ووزير الزراعة، لأن الزراعة فى مصر هى المستهلك الرئيسى للمياه (80% من جملة الموارد المائية.. والتوسع الزراعى مستقبلا لإطعام ملايين الأفواه القادمة يعتمد أولا وأخيرا على ما يمكن توفيره من المياه. ووزير الخارجية أيضا له نصيبه من المسئولية فى إدارة علاقاتنا مع دول حوض النيل التسع (بالإضافة إلى مصر) ومع دول الجوار التى تشاركنا فى أحواض المياه الجوفية. والسعى إلى زيادة حصتنا التى تبلغ 55.5 مليار متر مكعب لن تكفى استهلاكنا المتوقع بعد سنوات قليلة. ولا بد أن يكون فى حساباتنا تزايد السكان وتزايد الطلب على المياه، ولذلك يجب أن يكون موضوع إدارة موارد المياه مشروع مصر القومى، ولا بد أن نتخلى عن الوهم بأن المياه الجارية فى النيل بلا حدود، بينما تنفذ مصر مشروعات قومية للتوسع الزراعى مثل مشروع ترعة السلام فى سيناء لزراعة 600 ألف فدان، ومشروع توشكى لزراعة نصف مليون فدان.. وهذان المشروعان تبلغ تكلفتهما أكثر من 10 مليارات جنيه ولا بد من حساب أثرهما على كميات المياه المتاحة حاليا ومستقبلا.
التحذير الثانى: أن توزيعات الأرض الزراعية فى مصر فى مزارع صغيرة لم تعد مناسبة لتحقيق زيادة الإنتاج وخفض استهلاك المياه وخفض النفقات عموما، ولذلك يطالب الدكتور القصاص بإيجاد صيغة لتحويل الوحدات الزراعية الصغيرة إلى تجمعات إنتاجية كبيرة وبذلك يمكن تطبيق أساليب تكنولوجية حديثة لمضاعفة الإنتاج وإقامة مشروعات كبيرة للتصنيع الزراعى، ويقترح أن تكون حصص الملكيات الصغيرة على المشاع فى مزارع كبيرة تدار بطريقة اقتصادية بتكنولوجيا حديثة.
التحذير الثالث: هو ضرورة البدء بسرعة فى التحول إلى وسائل للرى تؤدى إلى كفاءة استخدام المياه وتقليل الفاقد فى شبكات الترع الحالية، والتوسع فى تبطين قنوات الرى، وإدراج حساب تكلفة المياه فى حسابات التكلفة والعائد فى الزراعة. لأننا الآن نحسب تكلفة البذور والأسمدة والعمالة ولا نحسب مياه الرى ضمن عناصر التكلفة.. ويقترح الدكتور القصاص التوسع فى تشكيل مجموعات من المنتفعين من شبكات الرى ليكون لكل مجموعة حق الانتفاع ومسئولية الإدارة وتحمل تكاليف صيانة الترع والمصارف التى يستفيدون منها.
ويطالبنا الدكتور القصاص أيضا بإعادة النظر فى الأسلوب الحالى بالتوسع فى مد أنابيب تحمل مياه النيل إلى المناطق السياحية على امتداد سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليج العقبة، بينما يفرض الاستخدام السليم للموارد المتاحة الاقتصاد فى إهدار ماء النيل بمد هذه الأنابيب إلى أطراف البلاد.. إلى الطور، ورفح، وشرم الشيخ، وشاطئ البحر الأحمر، ومرسى مطروح.. وفى رأيه أن هذا استهلاك غير مبرر لقدر غير قليل من حصة مصر من مياه النيل، والأفضل إنشاء محطات لتحلية المياه بالتكنولوجيا الحديثة ذات التكلفة المقبولة لاستهلاك القرى السياحية، وعلينا أن نذكر أن مصر أنشأت محطة تحلية مياه البحر فى القصير فى أوائل القرن العشرين وكانت بذلك من الدول السبّاقة، فهذه المحطة من أقدم محطات تحلية مياه البحر فى العالم. وبالإضافة إلى ذلك يمكن التوسع فى استخدام المياه الملحة لرى محاصيل خاصة.. وهناك نتائج مبهرة لأبحاث العالم الراحل الدكتور أحمد مستجير أثبتت إمكان زراعة القمح والذرة والأرز بالمياه المالحة باستخدام الهندسة الوراثية، ودراسات أخرى للدكتور محمود زهران عن زراعة نباتات المراعى والألياف ولب الورق بالمياه المالحة.. وإذا شجعنا الأبحاث فى هذا الاتجاه فسوف نوفر جزءا لا يستهان به من المياه.
ونحن ندين بحياتنا للنيل ولكننا لا نعرف عنه الكثير.. ولا نحافظ كما يجب على هذه النعمة التى أنعم الله بها علينا، فالنيل يمتد 6650 كيلو مترا من بحيرة تنجانيقا فى الهضبة الاستوائية وتستفيد منه 10 دول هى: مصر والسودان وأثيوبيا وأريتريا وكينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبورندى وزائير، أى أن النيل ليس لنا وحدنا.. وهو نهر قديم عمره أكثر من 6 ملايين سنة (!) واتخذ صورا كثيرة إلى أن وصل منذ 10 أو 20 ألف سنة إلى الصورة الحديثة التى نراها اليوم، لذلك يجب أن تكون حماية نهر النيل من التلوث ووقف الإسراف السفيه فى استهلاك المياه من أول واجبات الحكومة والمواطنين جميعا.
ولكن نحن نقول كل يوم إن النيل هو شريان الحياة لمصر، وإن مصر هبة النيل كما قال المؤرخ اليونانى هيرودوت منذ آلاف السنين.. إلا أن ذلك لم يجعل كل مصرى يتعامل مع النيل بما يستحقه من الاحترام.. ولا يشعر كل مصرى بالقلق من تزايد معدل النمو على شواطئ الدلتا وخاصة فى رأس البر وقرية برج البرلس ومنطقة رشيد التى التهم البحر مساحة كبيرة من أرضها، وهذا يستلزم تنفيذ مشروعات لحماية الشواطئ تتكلف عشرات الملايين كل سنة، ولو تنبهت الجهات المسئولة منذ سنوات لما حذر منه علماء مصر فى المراحل المبكرة لأمكن حماية شواطئ الدلتا لتكاليف أقل بكثير مما ينفق حاليا.. وهاهم أولاء العلماء- وعلى رأسهم الدكتور القصاص- يحذرون من خطر النحر المستمر حاليا، وبعضهم يقول إن دلتا النيل- مثل دلتا الأنهار الكبرى الأخرى- تتعرض لظاهرة الانخفاض البطيء، وعلماء معهد بحوث الشواطئ بالإسكندرية وجدوا فعلا من الأرصاد البحرية أن منسوب الأرض فى الدلتا يحدث فيه انخفاض بمقدار نصف مليمتر كل سنة فى الجانب الشرقى عند المنزلة وأقل من ذلك فى الجانب الغربى عند إدكو والإسكندرية.. وهذا التغير ربما يحدث بسبب ارتفاع بطيء فى سطح البحر، وشواهد التاريخ تسجل اختفاء مدن بمواقعها فى حوض بحيرة المنزلة مدفونة تحت الماء حاليا، والأمر ليس كذلك فى القطاع الغربى، أى أن الدلتا تتعرض لميل وليس لهبوط متساو. ومع زيادة درجات الحرارة نتيجة زيادة الغازات التى تحبس الحرارة سوف يرتفع مستوى سطح البحر ويهدد المناطق الساحلية المنخفضة مثل شمال الدلتا، ويدرس معهد بحوث الشواطئ الآن مع هيئات علمية هولندية مدى المخاطر التى تتعرض لها الشواطئ المصرية من ارتفاع منسوب سطح البحر.
وآخر تقرير أذاعه البنك الدولى يحذر من أن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية سيؤدى إلى ارتفاع مستوى المياه فى البحار والمحيطات مما يهدد بإغراق مساحات شاسعة من المناطق الساحلية كالإسكندرية.. وأن دلتا النيل ستكون مهددة بالغرق فى نهاية القرن الحالى، والمصريون الذين يعيشون فى الدلتا هم أكثر من ثلث سكان مصر. ويتوقع العلماء أيضا أن تتوغل مياه البحر إلى أعماق بعيدة داخل الدلتا وتغمر الشواطئ والكنوز الأثرية التى لم يتم اكتشافها فى الإسكندرية.. المسألة إذن جد ولا بد من بدء التفكير بجدية فى الإنقاذ.
ويحدثنا الدكتور القصاص عن بحيرة ناصر وضرورة حمايتها، فالمياه التى تصل إلى البحيرة حوالى 84 كيلو مترا مربعا فى السنة، وهى فى منطقة شديدة الجفاف ودرجة الحرارة فيها عالية ولذلك فإن معدلات البخر عالية، والخوف أن تعرض البحيرة لغزو نباتات مائية مثل ورد النيل أو البوص مما يزيد معدلات البخر بدرجة خطيرة، ولهذا لا بد من حماية مياه البحيرة من فقد هذه الكميات الكبيرة وحمايتها أيضا من النمو الكثيف من الطحالب الزرقاء الذى يؤدى إلى تكوين طبقات من الزبد والخبث السطحى نتيجة موت النباتات وتحللها. وقد ظهرت معالم هذا الخطر 8 مرات على مدى 6 سنوات وتكررت هذه الظاهرة فى السنوات الماضية وتتكرر كل سنة (!) وقد أظهرت الدراسات زيادة نمو البكتيريا فى العشرين سنة الأخيرة وتزداد قرب السد وتسبب روائح عطنة.
أما أسماك بحيرة ناصر فإن الدكتور القصاص يرصد بالأرقام أوجه الخلل فى تنمية هذه الأسماك بدليل أن الكميات التى يتم اصطيادها ترتفع فى سنة وتنخفض فى الأخرى. ومما يدعونا إلى القلق هو تدهور نوعية المياه فى بحيرة ناصر نتيجة تدفق المواد الغريبة والملوثات من الشواطئ والسفن العائمة التى تنقل المسافرين بين أسوان وأبو سنبل، وزيادة مراكب الصيد من 200 إلى 2000 مركب وكل ذلك بدون وجود وسائل لمعالجة المخلفات (!) بالإضافة إلى خطر زحف الرمال من الصحراء الغربية إلى حوض البحيرة وهذه الرمال تتراكم فى البحيرة وتؤثر على سعة التخزين، ويجب أن ننتبه إلى مخاطر عبور حاملات أمراض المناطق الحارة فى الجنوب، وكانت الصحراء تقوم بدور الحاجز لهذه الأمراض من الوصول إلينا ولكن البحيرة سهلت وصول أسراب البعوض وآفات الزراعة وخصوصا الجراد فى رحلاتها من الجنوب إلى الشمال.. كتاب الدكتور القصاص صغير جدا وخطير جدا ويحمل تحذيرات مهمة جدا تتعلق بحياتنا ومستقبلنا.. ولا بد أن تشكل لجان.. ويجتمع العلماء.. ونستعين بالهيئات الدولية.. لأن النيل إذا كان فى خطر.. فإن هذا أمر لا يمكن السكوت عليه لحظة واحدة..
أليس كذلك