ولماذا لا نحمى أنفسنا؟!
شىء غريب أن تجد كل هذا الإصرار من الناس على عدم حماية أنفسهم..فهم يعتدون على البيئة ويلوثونها فيصبحون هم الضحايا!
كان فى مصر معهد واحد للسرطان، فأصبحت لدينا عشرات المعاهد والمستشفيات لعلاج السرطان، ويجرى الآن إعداد أكبر مستشفى فى الشرق الأوسط لعلاج الأطفال المصابين بهذا المرض اللعين.. حتى الأطفال لم ينجوا منه! ونحن محتاجون إلى إنشاء مستشفى فى كل محافظة بعد أن عجزت المستشفيات الحالية عن استيعاب آلاف المرضى من أنحاء البلاد.. ولم يعد يثير دهشتنا أن نجد فى كل مدينة، وكل مركز، وكل حى أكثر من مستشفى أو مستوصف أو مركز طبى حكومى أو خاص أو تابع لجمعية خيرية أو مسجد لغسيل الكلى لمرضى الفشل الكلوى ومازلنا فى حاجة إلى المزيد.
أما انتشار الفشل الكبدى والإصابة بفيرس سى، أو بى، أو إيه، أو الإصابات بالحمى الألمانية أو السل أو أمراض القلب والشرايين.. فكل هذه أصبحت من الأمراض المعتادة.. والأرقام الحقيقية لأعداد المصابين بهذه الأمراض وأمثالها لا يعلمها إلا الله، لأن وزراء الصحة المتعاقبين إما أن ينكروا- ويستنكروا- ما يقال عن انتشار هذه الأمراض، وإما أن يعلنوا أرقاما تمثل نصف الحقيقة إذا أرادوا إثبات التزامهم بالشفافية.
هل نكرر السؤال التقليدى الذى يتردد على كل لسان: لماذا انتشرت كل هذه الأمراض وبمثل هذه الصورة مع أن الإجابة معروفة ولكن لا أحد من المسئولين يعترف بها؟ السبب فى كلمة واحدة.. (البيئة).. والناس لم تدرك حتى الآن أهمية المحافظة على البيئة نظيفة وخالية من التلوث.. كل واحد حريص على النظافة داخل مسكنه ويلقى الزبالة فى أى مكان.. فى منور العمارة.. فى الشارع.. فى النيل.. المهم أن يتخلص منها ويبعدها عنه والسلام.
وعشرات المصانع تلقى الدخان والتراب والجير فى الهواء ليتنفسه الناس ويصابون بتكلس الرئة أو بالسل أو بالحساسية فى الصدر فى أحسن الأحوال. وعشرات المصانع تلقى مواد كيميائية فى النيل وفى الترع. وكل مجلس مدينة أو مجلس قرية إذا لم يجد وسيلة للتخلص من مياه الصرف الصحى غير إلقائها فى النيل أو فى الترع والمصارف فإن ذلك أمر عادى جدا ومسجل فى تقارير حكومية رسمية.
وفى التعديلات الدستورية الأخيرة مبدأ جديد ينص على أن حماية البيئة واجب على أجهزة الدولة، ومن ناحية أخرى بدأت وزارة البيئة فى إعداد تعديل لقانون البيئة لتشديد العقوبات وإلزام الجميع – المؤسسات والوزارات والمواطنين- بالمحافظة على نظافة الهواء والماء والزراعات من السموم التى تدخل فى أجسام الملايين ولا يستطيعون الفرار منها. وبهذا المبدأ الدستورى الجديد ستكون الدولة بجميع أجهزتها وسلطاتها ملزمة بإتباع شروط سلام البيئة فى كل مكان، وكل قرار، وسيكون على مجلس الشعب محاسبة الحكومة على ما تفعله لتطبيق هذا المبدأ الدستورى الذى يعلو على كل القوانين والقرارات ومراكز القوى.
يبقى أن نبحث عن كيفية تحمل المواطنين لمسئوليتهم، فالحكومة ليست المسئولة وحدها.. مسئولية المواطنين هى الأكبر.. والأهم.. لأن المواطنين هم الضحايا وهم المذنبون مع الحكومة وإن كانت مسئولية الحكومة أكبر خصوصا مع عدم إيمان بعض الوزراء بأهمية المحافظة على البيئة، وقد حدث أن أعلن وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين أثناء مناقشة تعديلات الدستور أن النص فى الدستور على الالزام بالمحافظة على شروط سلامة البيئة سيؤثر سلبا على الاستثمار وعلى الصناعة لأن المستثمرين ورجال الصناعة لا يرحبون بهذا الالزام لأنه يحملهم بتكلفة إضافية ويقلل من أرباحهم (!) ولم يتحدث الوزير عن صحة الملايين وحياتهم.. المهم أن يحقق المستثمرون أكبر قدر من الربح دون أن يتحملوا أعباء أو مسئوليات.. لقد أصبحنا بلد المستثمرين!
الخبراء تعبوا من التنبيه إلى ضرورة غرس ثقافة المشاركة فى حماية البيئة بحيث يشعر كل مواطن بأنه مسئول عنها شخصيا، ويؤمن بأن المحافظة على البيئة نظيفة هى الضمان للمحافظة على صحته، بل على حياته.. ويطالب الخبراء بأن تتحمل الجمعيات والمدارس والجامعات والأحزاب مسئوليتها فى نشر الوعى بأهمية حماية البيئة، أما التليفزيون فهو دائما المتهم الأول والمسئول الأول عن غياب ثقافة المحافظة على البيئة.. ولو أنه نظم حملة توعية يومية لغرس هذه الثقافة بدلا من ساعة من ساعات الفيديو كليب بأغانى الهلس التى تركز اهتمام الناس على الرقص والجنس والكلمات السوقية لكان ذلك أجدى لمصلحة البلد وأبنائه.
جميع دول العالم تقريبا تنص فى دساتيرها على التزام الدولة والمواطنين بحماية البيئة- فيما عدا أمريكا فهى أكبر ملوث للبيئة فى العالم كما هو معروف- وهذه الدساتير تعتبر الاعتداء على البيئة جريمة فى حق المجتمع كله وتفرض عليها عقوبات مشددة جنائية وإدارية ومالية، وعلى سبيل المثال ففى دستور الهند وإيران وسنغافورة وبلغاريا وتركيا وكوريا وأسبانيا وروسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا وهولندا نصوص واضحة وصارمة تمكن الاستفادة بها لكل من يريد فكرا متطورا لحماية أرواح الناس بالقانون.
وفى هذا السياق تركز الدكتورة هويدا مصطفى الأستاذ بكلية الإعلام على أهمية تكوين رأى عام متفهم ومساند لإجراءات حماية البيئة، لأن القوانين والنصوص وحدها لا تكفى، والقوانين يمكن أن تعيش ويمكن أن تموت- بالتجاهل والتحايل- والرأى العام الواعى والمؤيد والمشارك فى المسئولية هو الذى يمنح القوانين الحياة والفاعلية. وتلقى الدكتورة هويدا المسئولية على المثقفين وقادة الرأى ومؤسسات الدعوة والإعلام وعلى المدارس والجامعات.. فهى التى تؤثر على الرأى العام وتحشده لحماية حياته وحياة الأجيال القادمة.
ليس من المعقول أن يلوث المواطنون البيئة وينشرون عوامل المرض وتكون الحكومة وحدها المسئولة عن النتائج.. إن غياب الوعى بأهمية المحافظة على البيئة هو ما يدعو إلى التخوف من أن يكون مصير النص الدستورى الجديد كمصير كثير من النصوص الموجودة فى القوانين والتى تفرض عقوبات ليست رادعة. ومع ذلك فإن هذه النصوص قد تصبح مجرد حبر على ورق! وليس ذلك غريبا، فما أكثر القوانين والقرارات فى مصر وما أكثر التصريحات عن الحرص على تنفيذها، وما أبرع الناس والحكومة أيضا فى التحايل على القوانين.. وليس جديدا أن نقول إن كثرة القوانين (أكثر من 15 ألف قانون ولائحة وقرار) هى مثار الشكوى الدائمة من المحامين والقضاة ومن ا لجهات المسئولة عن تنفيذها، لعدم قدرتهم على استيعاب كل هذه التشريعات، والمفروض أن يعلم كل مواطن بكل هذه التشريعات وينفذ ما يتعلق به، والقاعدة القانونية أن الجهل بالقانون لا يعفى من العقاب.. وكل المصريين يجهلون كل القوانين!
على سبيل المثال فإن قانون البيئة القائم فى مصر صدر عام 1994 وفى مادته الأولى يلزم جميع المنشآت والمصانع والهيئات بتوفيق أوضاعها وإزالة المخالفات التى تتعارض مع حماية البيئة وحدد مهلة ثلاث سنوات لكى تنفذ شروط الصحة والسلامة، وانتهت المهلة دون أن تنفذ المصانع شيئا فتقرر منحها مهلة أخرى، وحتى اليوم، وبعد مرور 13 سنة ما زالت هذه المصانع تلقى مخلفاتها الكيمائية فى النيل، وما زالت محافظة الإسكندرية تتخلص من مياه الصرف الصحى بإلقائها فى البحر عن طريق بحيرة مريوط، وما زالت مدن وقرى كثيرة تلقى الصرف الصحى فى المجارى المائية، ولا تزال الغازات وغبار الأسمنت ينبعث من المصانع ويلوث الهواء الذى نتنفسه.
ومن الغريب أن مصر انضمت إلى برنامج الأمم المتحدة للبيئة منذ إنشائه، واستضافت مؤتمرات وندوات كثيرة عن البيئة، وهى أول دولة عربية وأفريقية تضع عقوبات على الاعتداء على البيئة كما فعلت فى قانون العقوبات عام 1937 الذى تضمن تجريم الأفعال التى ينتج عنها تلويثا للبيئة أو ضجيجا يكدر راحة المواطنين، وصدرت بعد ذلك قوانين مثل قانون النظافة العامة، وقانون تنظيم العمل بالإشعاعات، وقانون مراقبة الأغذية، وقانون حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، وقانون إنشاء المحميات الطبيعية، بالإضافة إلى قانون البيئة ومع ذلك فإن هذه القوانين لم تنجح فى حماية البيئة.
كيف نجعل جميع المصريين، الكبار والصغار، المسئولين وغير المسئولين، فى المدن والقرى فى الشارع والبيت والغيط، كيف نجعلهم يشعرون بأن حماية الماء والهواء والزراعات واجب دينى وسوف نسأل يوم القيامة عن الأذى الذى نسببه للناس، وهو أيضا واجب وطنى، ومسئولية مشتركة بين الحكومة والمواطنين. كيف نجعل هذا الواجب حاضرا فى ذهن كل مصرى، فى كل وقت وفى كل عمل؟
لابد أن نعترف أولا بأن لدينا مشكلة؟.. وأنها مشكلة كبيرة.. بل مصيبة.. صحة الناس فى خطر.. ونحن نرقص ونغنى وندعى أن الدنيا ربيع والجو بديع ونقفل على كل المواضيع. ولكننا لو تغافلنا عن المشكلة فإن المشكلة لن تغفل عنا!