لماذا أصبحنا نعيش داخل كبسولة؟!
نعيش هذا العام فى صيف غريب.. حرارة ورطوبة لا مثيل لهما حتى أننا نشعر بالاختناق.. وفى أوروبا أيام شديدة الحرارة وأيام تتدفق الأمطار والسيول.. ما هذا الصيف الغريب؟
بعد سرد طويل لتطور أحوال الطقس منذ ملايين السنين وحتى العصر الحاضر يرى العالم الأمريكى براين فاجان أننا أصبحنا نعيش فى مناخ تتزايد فيه درجة الحرارة حتى صار عبارة عن صيف طويل، وأن سكان الأرض أصبحوا يعيشون فى داخل كبسولة وهم غافلون عن مدى الخطورة فى ذلك على حياتهم وصحتهم. فهذه التغيرات المناخية سوف تؤدى إلى الجفاف فى بعض المناطق، وذوبان جبال الجليد فى مناطق أخرى، وقتل الآلاف من البشر من العطش والجوع، بينما تؤدى الزيادة السكانية إلى تكدس الناس فى المدن، ويؤدى التقدم العلمى والصناعى و التكنولوجى إلى زيادة النفايات والغازات والأبخرة وعوا دم السيارات والدخان وغيرها من ملوثات البيئة فتزيد حرارة الأرض أكثر وأكثر، وتزيد احتمالات الخطر على مستقبل سكان هذا الكوكب المنكوب بأهله!
وفى كتابه الممتع (الصيف الطويل) يحكى العالم الأمريكى قصة التغيرات التى حدثت فى المناخ على الكرة الأرضية منذ بداية التاريخ الإنسانى معتمدا على المعلومات الحديثة فى علوم المناخ والآثار والتاريخ والجيولوجيا، ويوضح فى كتابه حقيقة لم يلتفت إليها كثير من الباحثين وهى أن المناخ كان له تأثير حاسم فى تاريخ الحضارات وحياة الإنسان منذ عشرات الآلاف من السنين قبل الميلاد، فقد تراجع العصر الجليدى بعد أن تغير المناخ وبدأ الدفء ثم أخذت حرارة الأرض ترتفع قليلا قليلا حتى جاءت الثورة الصناعية وثورة الذرة والصناعات الحديثة التى تتسبب فى انبعاث غازات ومخلفات جعلت العالم يعيش فى صيف طويل، ولا يمكن إغفال تأثير تلوث البيئة وما تسببه من أضرار على الصحة وتهدد أعمار الأجيال المقبلة، كما لا يمكن إغفال تأثير المناخ والتلوث على العوامل الاقتصادية والجغرافية، وقد تؤدى العوامل المناخية من تصحر وفيضانات وجفاف فى انهيار حضارات ودول بأسرها فى المستقبل!
ومن حسن الحظ أن هذا الكتاب صدرت طبعته العربية فى سلسلة عالم المعرفة فى الكويت فى ترجمة دقيقة وجميلة للدكتور مصطفى فهمى وهو من العلماء المصريين المهتمين بنشر الثقافة العلمية فى العالم العربى وله العديد من الكتب المترجمة والمؤلفة فى هذا المجال. ويحذرنا العالم الأمريكى من أن يتكرر ما حدث خلال القرن التاسع عشر حين مات على الأقل عشرون مليونا بالجوع والأوبئة الناتجة عن المجاعات والجفاف، ويذكر أن هناك 200 مليون إنسان على وشك الموت الآن لنفس الأسباب فى أفريقيا وشمال شرق البرازيل والصحراء الكبرى وأجزاء كثيرة من آسيا. والأسباب كثيرة.. ففى مناطق الغابات يتم فى كل سنة إزالة الأشجار فى مساحات تعادل مساحة ولاية أريزونا الأمريكية، وتتحول هذه المناطق الشاسعة من مناطق تسهم فى زيادة كمية الأوكسجين فى الأرض وتلطف من حرارة الجو إلى مناطق عارية تحت حرارة الشمس. فى نفس الوقت يتكدس الناس فى المدن فى مبان مرتفعة، ويعيش الفقراء فى أحياء تفتقد أبسط الشروط الصحية وأبسط الوسائل لمنع التلوث، وتزداد المصانع فى دول الشمال زيادة رهيبة، وبسبب جشع أصحابها وحرصهم على تحقيق أكبر قدر من الربح ولو على حساب حياة البشر يزداد التهرب من اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية البيئة من الآثار الضارة من مخلفات هذه المصانع وغازاتها وكيماوياتها السامة، أضف إلى ذلك أن هذا التلوث الذى لم يسبق له مثيل فى التاريخ تتعامل معه الحكومات بإهمال وبلا مبالاة خصوصا الحكومة الأمريكية، فأمريكا هى أكبر دولة صناعية وأكبر دولة لها النصيب الأكبر فى تلوث البيئة وخرق طبقة الأوزون وهما السبب المباشر فيما يعانيه العالم من تغيرات مناخية تسبب الأعاصير المدمرة التى تصيب أمريكا ذاتها كما تصيب غيرها مثل الهند وباكستان وحتى أوروبا، فالكرة الأرضية واحدة وما يصيب جزءا منها تنتقل منه الإصابة إلى بقية الأجزاء، ومع تزايد الخطر أين يذهب الناس؟
ماذا سيحدث عندما يذوب الجليد فى جرينلاند بفعل الحرارة، وليس ذلك ببعيد فقد بدأت بالفعل مقدمات تنذر بذلك وتدفقت السيول فى شمال الأطلنطى. ماذا سيحدث لأوروبا؟ وأين سيذهب السكان الحاليون فى اسكندنافيا، وألمانيا، وفرنسا، وهولندا، وبولندا، وروسيا، ودول البلطيق؟ وماذا سيأكلون بعد أن تغمر المياه أراضيهم وتتلف الحقول على فرض أنهم سيجدون وسيلة للبقاء أحياء على هذه الأرض؟ علماء كثيرون يعتقدون أن هذا السيناريو المخيف يمكن أن يحدث ويطالبون الحكومات بالبحث منذ الآن عن كيفية التعامل مع هذه المخاطر القادمة.
وسكان الأرض اليوم يزيدون على 6 مليارات نسمة، بينهم مئات الملايين يعيشون على الكفاف ويتوقف حصولهم على الغذاء على الأمطار، فهم اليوم مثل المزارعين فى أوروبا فى العصر الحجرى والبرونزى منذ خمسة آلاف سنة، يعيشون محصولا بمحصول. قد يكون خطر المجاعة بعيدة الآن عن أوروبا والولايات المتحدة لما فيها من زراعة تعتمد على التقدم التكنولوجى وبنية تحتية قادرة على نقل المحاصيل عبر مسافات طويلة، لكن مزارعى الكفاف وسكان المدن فى القارات الأخرى يعيشون تحت تهديد دائم بالجوع ومعظمهم لا يدرى بذلك!
وفى كل سنة تحدث فى أنحاء من العالم مجاعات وفيضانات وأعاصير، ونقرأ عن هلاك الآلاف فى شمال شرق أفريقيا أو بنجلاديش بينما يبقى العالم غافلا، ولا يتمثل الغرب الغنى الذى يعيش فى مجتمعات الوفرة فى الغذاء والماء والأموال هذا الغرب المترف لا يشعر بالتهديد اليوم، ولا يدرك أنه يمكن أن يكون مستهدفا فى المستقبل الذى يعلمه الله إذا ارتفعت درجات الحرارة على كوكب الأرض بأكثر مما هى عليه الآن، فعند مستوى معين من الحرارة سوف يرتفع مستوى البحار، وسوف تغرق السهول الساحلية الكثيفة السكان، وسوف يكون ملايين من الناس مرغمين على ترك المناطق التى يعيشون فيها ويهاجرون منها، وإذا ازداد الجفاف أكثر فى منطقة الساحل وفى الأجزاء الأخرى من العالم الأقل مطرا فلا يستطيع أحد أن يتصور ما ستكون عليه قائمة الضحايا. مع ملاحظة أن التغيرات فى المناخ قد تكون أسرع وأكثر شدة مما هى عليه اليوم بسبب التدخل البشرى الذى يؤدى إلى تخريب البيئة وبسبب الاستهتار واللامبالاة وسياسات التجاهل من الدول الصناعية الكبرى.
يرى العالم الأمريكى أن المناخ عامل مهم من العوامل فى تشكيل الحضارة وبناء المجتمعات. ويرى أن الأمريكيين يسرفون فى استهلاك الموارد الطبيعية ولا يبالون بما ينتج عن صناعاتهم وتقدمهم العلمى والتكنولوجى من تلوث وتدمير للبيئة العالمية، ويصور أمريكا على أنها سفينة فخمة تسير نحو الهلاك وهى فى غفلة غير معقولة، ولا يوجد سوى عدد محدود من ركاب هذه السفينة وركابها. أما باقى الركاب فإنهم فى غفلتهم لاهون بالشراء والبيع والربح وبإشعال الحروب لصالح صناعات السلاح غير مبالين بما تسببه الحروب من تدمير للبيئة أو بالرقص واللعب والتسلية. أما الذين يتولون قيادة السفينة فلا يهتمون بقراءة الخرائط والتنبؤات الجوية ولا يشعرون بالحاجة إلى ذلك، وأصحاب القرار منهم يؤمنون بأسلوب النعامة التى تدفن رأسها فى الرمال حتى لا ترى الخطر ولذلك يكررون خداع شعوبهم بالقول بأنه لا وجود لأية مخاطر وكل شىء يسير على ما يرام وعلينا أن نستمتع بما نحن فيه ونسعى إلى المزيد.. قليل جدا من النخبة التى تتحلى بالأمانة والإحساس بالمسئولية هى التى ترى أن السحب المتجمعة لها علاقة بمصيرهم، وينشغلون بالاطمئنان إلى أن عدد قوارب النجاة يكفى حتى لواحد من كل عشرة من الركاب، بينما لا يجرؤ أحد على أن يهمس فى أذن قائد السفينة الذى يتحكم فى الدفة بعناد قائلا له إن عليه أن يغير اتجاه السفينة لتنجو وتصل إلى بر الأمان.
هذا المثال يبدو أن العالم الأمريكى براين فاجاب يرمز به إلى موقف إدارة الرئيس بوش من اتفاقيات كيوتو لحماية البيئة التى يرفض التوقيع عليها، وهو بذلك فى الحقيقة يعلن صراحة أن أمريكا سوف تظل أكبر ملوث للبيئة وأكبر من يعمل برعونة على توسيع الخرق فى طبقة الأوزون ولن تتخذ الإجراءات الواجبة لحماية كوكب الأرض من هذا المصير الذى يحذرنا منه العلماء.
ليس هذا كل ما فى الكتاب، ففيه حكايات وحقائق علمية مثيرة أقرب إلى الخيال عن أحوال الأرض والبشر على مر التاريخ، وعن العلاقة بين الأرض والإنسان والمناخ والحضارة بحيث ندرك أن التفاعل بينها مستمر على مدى ملايين السنين، وأن كل عامل منها يؤثر فى بقية العوامل، فالإنسان لم ولا ولن ينفصل عن الكون وعن التأثر به والتأثير فيه، والحقيقة التى تخرج بها بعد آخر سطر فى الكتاب هى أن حياة وصحة ومستقبل الإنسان مرتبطة بسلامة البيئة وأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذى يعمل فى تدمير بيته ومستقبله لأنه لا يعرف أن حماية البيئة تعنى حماية الحياة.
وتبقى مسئولية كل فرد ودوره فى حماية أو تدمير البيئة، وهذا هو الوجه الآخر من العملة، فالحكومات ليست وحدها المسئولة..كل واحد منا مسئول أيضا، وعليه أن يدرك ذلك ولا يساهم فى التعجيل بوقوع الكارثة.