مخاطـر.. وتحـديات!
خبراء الاستراتيجية المحايدون يكشفون الآن عن الهدف الحقيقى من غزو أمريكا للعراق، وهو استكمال مخطط السيطرة على بترول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبحر قزوين، وحصار الصين بالوجود العسكرى الأمريكى. ومنذ الغزو عام 2003 إلى اليوم تم سلب ونهب أموال وبترول العراق، ولا أحد فى الحكومة العراقية يعرف أين ذهبت حصيلة البترول وكيف يعانى العراق من العجز عن توفير مطالب الانفاق العام وسداد الديون، وكيف يلجأ إلى طلب معونات خارجية وإعفائه من سداد الديون التى تضخمت، فضلا عن العجز عن إعادة بناء ما دمرته القوات الأمريكية من المدن والمنشآت والمرافق الأساسية مما يحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات.
بعض الخبراء يرون أن أمريكا حققت أهدافها فى العراق رغم خسائرها المادية والبشرية والسياسية وأولها القضاء على دولة العراق الموحدة وتخريب مقومات النهضة وإعادتها إلى ما كانت عليه فى القرن التاسع عشر. ويقولون إن العراق يحتاج إلى خمسين عاما لكى يعود إلى ما كان عليه فى حكم صدام (!)
والخراب الذى أحدثته أمريكا فى العراق يدعم دور إسرائيل فى المنطقة ويفتح أمامها المجال للعمل بحرية ودون محاذير لتنفيذ مشروعها الكبير. وقد بدأت عقب الغزو الأمريكى للعراق بتوجيه ضربة جوية داخل سوريا قرب دمشق بحجة أن هذه المنطقة يوجد بها إرهابيون، ولم تحاول الإدارة الأمريكية إخفاء موقفها المؤيد لهذا الهجوم فقد أعلن الرئيس بوش أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، وبعدها مباشرة أعلن شارون- رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت- أن الجيش الإسرائيلى سيواجه ضرباته لأية دولة عربية، وأصدر الكونجرس قرارا يعطى للإدارة الأمريكية الحق فى فرض عقوبات على سوريا لنفس الحجة، وهكذا أسفرت أمريكا وإسرائيل عن الوجه الحقيقى لهما بدون قناع.
نجحت أمريكا فى تحقيق ثلاثة أهداف بغزوها للعراق: الهدف الأول فرض الهيمنة على المنطقة بالتواجد العسكرى فى قلب العالم العربى فأصبح الجيش الأمريكى شوكة فى جنب العرب ومصدر تهديد للأمن القومى العربى، والهدف الثانى هو استكمال وضع البترول العربى تحت سيطرتها، والهدف الثالث إعداد المنطقة لحل الصراع العربى الإسرائيلى وفقا للرؤية الإسرائيلية وبما يحقق أطماع إسرائيل. ويضاف إلى هذه الأهداف أن الحرب فتحت سوقا كبيرة للصناعة العسكرية الأمريكية الضخمة وهى صناعة أساسية تعتمد على البترول من أهم أعمدة الاقتصاد الأمريكى ومن المنظور الاستراتيجى بأن البنتاجون يعتبر العالم منطقة مفتوحة ويجب أن تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية فى كل مكان، وإذا كانت هناك مناطق لا توجد فيها قواعد عسكرية أمريكية فإن الجيش الأمريكى عليه أن يعمل على إنشاء قواعد فيها مستخدما ما يسمونه بالقوة العسكرية الأمريكية غير المسبوقة، وبذلك تضمن أمريكا بقاء النظام العالمى أحادى القطب وتستمر فى إدارة سياسة العالم والعمل منفردة دون اعتبار للدول الأخرى أو للشرعية والقانون الدولى.
ولا تخفى الإدارة الأمريكية أن الهدف النهائى من كل ذلك هو أن تكون الولايات المتحدة هى (سيدة العالم) وتظل قادرة على تعطيل صعود القوى الأخرى التى يحتمل أن تكون منافسة أو مشاركة لها فى قيادة النظام العالمى على المدى القصير مثل أوروبا الموحدة، والصين، والهند.
وما يهمنا هو تأثير هذه الاستراتيجية الأمريكية على العالم العربى، فهى تعمل الآن على إنشاء نظام أمن إقليمى جديد فى الشرق الأوسط لتأمين المصالح الأمريكية فى المنطقة وإبقائها ضمن مناطق نفوذها أما ما تعلنه من أن هدفها هو جعل المنطقة تتمتع بالديمقراطية وحقوق الإنسان فليس سوى شعار ترفعه فى الدعاية السياسية التى تستخدمها لإخفاء أهدافها الحقيقية وتسويق مواقفها التى تتعارض مع المصالح العربية ولا يهمها أن تكون المنطقة ديمقراطية أو غير ديمقراطية، ما يهمها أن تكون هذه المنطقة تحت الهيمنة وموالية لإسرائيل، لأن أمن إسرائيل وتفوقها يأتى فى المقام الأول للسياسة الأمريكية، وفى هذا السياق فإن السياسة الأمريكية تعمل على عرقلة كل تقارب عربى وكل محاولة عربية لإنشاء نظام إقليمى للأمن العربى لتوفير قوة دفاعية جماعية للدول العربية، كما تعرقل كل محاولة لقيام الجامعة العربية بدور تظهر فيه الدول العربية كوجود سياسى موحد وفى هذا السياق تستخدم أمريكا مبدأ فرق تسد لتنفيذ سياستها، وهكذا يمكن أن ندرك لماذا تظهر فى هذا الوقت الدعوة إلى التخلى عن العروبة وعن الانتماء العربى وانكفاء كل دولة عربية على ذاتها داخل حدودها تحت شعار: مصر أولا أو سوريا أولا أو السعودية أولا هكذا، وتحت إلحاح مثل هذه النعرات الوطنية يتخلى أصحابها عن حقيقة الوجود العربى، فالعرب أمة واحدة ولو كره الكارهون.. يتحدثون لغة واحدة، ولهم ثقافة واحدة، وقيم اجتماعية وأخلاقية واحدة وتاريخ مشترك ويعيشون على أرض واحدة لا تفصل بينهم إلا الحدود التى صنعها الاستعمار، ويواجهون التهديدات ذاتها وتجمع بينهم مصالح مشتركة، وقد أصبحنا فى عالم تتجه فيه الدول إلى التقارب والتكامل والتوحد وأمامنا منظمة الأسيان التى تجمع دولا تختلف فى نظامها السياسى وفى اللغة والدين ومع ذلك فإن التكامل بينها يمثل نموذجا يفيد الدول العربية أن تتأمله، وكذلك الدول الأوروبية التى تختلف فى اللغة وفى النسيج الاجتماعى والعادات والتقاليد ولكل منها تاريخ خاص بها وبين بعض الدول الأوروبية عداوات وحروب وحساسيات قديمة، ولكنها على الرغم من كل ذلك توحدت، فكيف يدعو البعض الدول العربية إلى التفرقة بينما تعمل دول العالم على التوحد فى كيانات كبيرة حتى تقدر على تحقيق التنمية والرخاء والأمن لشعوبها؟
ونأتى إلى ما تعلنه الإدارة الأمريكية هذه الأيام عن عزمها التحرك لحل القضية الفلسطينية، وذلك لجذب الدول العربية إلى مشاركة أمريكا فى الورطة العراقية، بينما استراتيجية الرئيس بوش التى لم ولن يغيرها لا تعطى الأولوية لإقامة الدولة الفلسطينية او لإعطاء الفلسطينيين الحق فى حياة آمنة على أرضهم بدون أسوار وحواجز ومطاردات واغتيالات واجتياحات إسرائيلية.. وإسرائيل هى التى رفضت خارطة الطريق والإدارة الأمريكية جعلتها مجرد خيال مآتة، وفى كل حين تطرح أفكارا جديدة بديلا عنها وعن المبادرة العربية للسلام، وذلك لاستهلاك الوقت وتجديد الأمل فى التوصل إلى حل، وكل ما تطلبه أمريكا- وإسرائيل- هو تفكيك المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وتجريد الفلسطينيين من السلاح، دون التزام من الجيش الإسرائيلى بعدم القيام بعمليات التدمير والقتل، مما يعنى إطلاق يد إسرائيل ووضع قيود على الشعب الفلسطينى لكى يقف مكتوف الأيدى ويتلقى صامتا ومستسلما الضربات والاعتقال والإذلال على المعابر.
ولا يزال المطروح على الفلسطينيين قبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح لا تملك الدفاع عن نفسها، وفى حدود مؤقتة، على أرض ممزقة، ويتنازلون عن حقهم فى العودة إلى بلدهم بينما إسرائيل مفتوحة أمام كل يهود العالم الذين لا علاقة لهم بهذه الأرض وفى مقابل ذلك يتم تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجميع الدول العربية دون التزام إسرائيل بالانسحاب إلى حدود 1967 أو الانسحاب من القدس الشرقية أو إزالة المستوطنات المعاقة على الأراضى الفلسطينية وهذه الدولة الفلسطينية المسخ المقترحة بلا سيادة، وليس لها حرية إقامة علاقات سياسية أو اقتصادية مع دول أخرى إلا عن طريق إسرائيل، ولا تطالب بالأراضى التى قامت إسرائيل بضمها خلف السور العازل وهى تزيد على 40% من مساحة الضفة.
ومع ذلك فليس لدى إسرائيل إرادة للسلام، وكل الاجتماعات والمباحثات والزيارات التى تقوم بها إنما هى تحرك وهمى للخداع ليس إلا لإقناع العرب والرأى العام العالمى بأنها تسعى إلى إيجاد حل، بينما هى تعمل على إبقاء الوضع الحالى على ما هو عليه لأنه يعطيها الفرصة لتصفية العناصر الفلسطينية وإثارة الخلافات والصراعات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية، واستمرار الضغط الاقتصادى والتجويع على أمل أن يخضع الفلسطينيون فى النهاية ويقبلوا بكل ما تفرضه عليهم.. لقد دفنت إسرائيل اتفاق مدريد وأوسلو وواى ريفر وبقية الاتفاقيات التى وقعت عليها بعد مفاوضات طويلة ومضنية استغرقت سنوات عمر العرب، وها هى ذى تقتل خريطة الطريق والمبادرة العربية.. تطلب من الفلسطينيين فى نفس الوقت أن يفعلوا المستحيل من أجلها دون ان يحصلوا على شىء.. كان الشعار: الأرض مقابل السلام والشعار اليوم: السلام مقابل الكلام!
هذه هى سياسة أمريكا وإسرائيل، هى سياسة تحقق لهما مصالحهما وأهدافهما، فمتى يتفق العرب على سياسة موحدة لمواجهة المخاطر والتحديات التى تهدد الوجود العربى ذاته؟ متى يقف العرب صفا واحدا ويتناسون الخلافات والحساسيات التى تفرق بينهم وتعطى أعداءهم الفرصة لفرض الأمر الواقع عليهم؟.. متى يفيق العرب ويعملون لحماية مصالحهم ومستقبلهم؟