هذه هى أمريكا!
فى التليفزيون الأمريكى داعية متعصب اسمه القس جراى باور يكرر فى أحاديثه ما يؤمن به اليمين الدينى فى أمريكا من أفكار تسبغ الشرعية القدسية على السياسة الأمريكية المؤيدة لإسرائيل، وللرأسمالية وللسيادة الأمريكية على العالم، ويبشر بأن انتشار الرأسمالية الأمريكية و(الدين الأمريكى) فى جميع أنحاء العالم هو المؤشر على اقتراب نهاية التاريخ وظهور يسوع المسيح وقيامه بتنصير كل الأمم قبل نهاية الزمان! ويؤكد هذا القس الإيفانجيلكى أن العولمة هى تحقيق للنبوءات الواردة فى الكتاب المقدس عن قرب عودة المسيح وبداية معركة هرماجدون وهو واحد من تيار اليمين الدينى الذى يتحالف مع المحافظين الجدد الذين يتولون الآن قيادة السياسة العدوانية الأمريكية.
ويقول الباحث البريطانى البروفيسور مايكل نورثكوت إن بوش وتشينى ورامسفيلد وولفويتز وغيره من أركان البيت الأبيض حاليا من تيار اليمين الدينى والسياسى المتعصب لا يختلفون عن أسامة بن لادن، فالهدف واحد وهو محاربة من يعتبرونهم الأشرار أو (حزب الشيطان) وهم يعتبرون أنفسهم (حزب الله) وملائكة الخير الذين ينشرون الحرية والديمقراطية والرأسمالية فى كل مكان فى العالم بقوة السلاح إن لزم الأمر!
يقول مايكل نورثكوت إن الرئيس بوش يؤمن إيمانا شديدا بالعقيدة التى يؤمن بها أسامة بن لادن ومن قبله سيد قطب فكل منهم يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن الله بعثه للقيام برسالة عالمية يجب أن يؤمن بها العالم كله، ومن يرفضها (كافر).. وفى رأيهم أن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع المختلفين معهم هى القتل وليس الحوار أو التفاوض، مما يجعل كلا منهم خطرا يهدد سلام العالم، كما يقول مايكل نورثكوت.
أثناء الحرب الباردة قاد رينهولد نيبور أحد كبار رجال اللاهوت الأمريكيين النضال ضد السوفيت، وفى أحاديثه ومواعظه وفى كتابه (سخرية التاريخ الأمريكى) كان يردد أن العالم يجب أن يتبع النهج الأمريكى وأسلوب الحياة الأمريكية، لأن الله ألقى على كاهل أمريكا هذه المهمة المقدسة، ولذلك فإن الحضارة الأمريكية هى التى ستشكل التاريخ الإنسانى، وأمريكا هى التى ستقيم مملكة الرب على الأرض، وهذه المملكة لا تؤمن بالمساواة بين البشر، ولكنها تؤمن بالرأسمالية، وبالشركات العابرة للقارات، وبالبنك الدولى، وصندوق النقد الدولى.. وبغير ذلك من المؤسسات التى تسيطر على حكومات العالم وتوجه الاقتصاد العالمى لصالح أمريكا، وفى نفس الوقت فإن فكرة العدالة الاجتماعية ليست من الأفكار الأساسية فى مملكة الرب، وهذا ما يعطى الشرعية للرأسمالية المتوحشة والنتيجة أن فى أمريكا قلة يملكون الثراء الفاحش، بينما 33 مليون أمريكى يعيشون تحت مستوى الفقر، و8 ملايين لا يجدون الطعام ووفيات الأطفال بين الفقراء الأمريكيين أعلى منها فى بعض الدول الفقيرة، وآلاف الفقراء ماتوا فى سنة 2003 بسبب موجات الحرب فى شيكاغو وغيرها من المدن الأمريكية، بينما مات من البرد القارس فى الساحل الشرقى فى أوائل سنة 2004 مئات من الأمريكيين الفقراء؛ لأنهم لم يكونوا قادرين على توفير وسائل التدفئة التى لا غنى عنها وتعتبر من الضروريات فى الشتاء وانتشار الفقر فى أمريكا هو نتيجة للقرارات التى تتخذها النخبة السياسة التى يؤمن الرئيس بوش بأفكارها وينفذ سياساتها مثل إلغاء الدعم الذى كان يحمى الفقراء، وإلغاء الإعانات والرعاية الصحية وتدفئة مساكن الفقراء وتوفير المسكن والطعام والتعليم ورعاية الطفولة.. إلخ.
والفلسفة الاجتماعية التى يعتنقها بوش والنخبة الأمريكية التى يمثلها هى أن الفقراء يجب أن يجدوا العطف من الأغنياء وليس من الحكومة، ولذلك خفض الضرائب على الأغنياء، وهذا ما جعل الكاتب الأمريكى الشهير بول كروجمان يقول: إن بوش يأخذ من الفقراء ليعطى الأغنياء! وأن تخفيضات الضرائب كانت لصالح الأغنياء الذين يمثلون 1% من الأمريكيين.. ونتيجة لسياسة الرئيس بوش الداخلية فإن الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا، ولكى يحمى الأغنياء أنفسهم فإنهم بدأوا ينعزلون ويعيشون ويتحركون فى دوائر مغلقة وفى أحياء بعيدة عن عيون عامة الشعب، وهكذا لم يعد الشعب الأمريكى شعبا واحدا، ولم يعد المجتمع الأمريكى مجتمعا واحدا بعد أن تعمق الانقسام بين الأغنياء والفقراء.
يقول الباحث البريطانى البروفيسور مايكل نورثكوت إن الحكومة فى أمريكا هى (حكومة الأثرياء) حيث يمتلك 13 ألفا من أغنى الأسر ثروة من الأراضى والأسهم والسندات أكثر مما يمتلك 20 مليون أمريكى، أى أن 80% من إجمالى ثروة أمريكا الآن فى أيدى 10% فقط من الشعب الأمريكى، وكبار المديرين يتقاضون أجورا تزيد ألف مرة على أجور الموظفين الذين يعملون تحت رئاستهم، وأغلبية الشعب الأمريكى لا يشغلهم فى الحياة سوى الكفاح لتدبير مستلزمات معيشتهم، ولذلك فإن الواحد منهم يبحث عن عملين أو ثلاثة لكى يوفر احتياجاته واحتياجات أسرته، بينما يستمتع الآخرون بمستويات من الثروة تفوق الخيال، ويعلق نورثكوت على هذه الحقائق بأن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يزعم أنه مجتمع ديمقراطى أو أنه مجتمع حر.
هذه الأوضاع الاجتماعية التى يصعب تصديق وجودها فى أمريكا أغنى دولة فى العالم- التى تقول إنها بلد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان- جاءت نتيجة تحالف اليمين الدينى (الذى أرسى فكرة الحرية الاقتصادية المطلقة واقتصاد السوق دون حدود أو ضوابط) مع أصحاب المصالح من الاقتصاديين ورجال المال والأعمال والإعلام والقيادات السياسية.. وقام رجال الدين الايفانجليكيون بمهمة الدفاع عن هذه السياسة وتبرير النظام الذى يحكم بالسجن المشدد على اللصوص الصغار، بينما تمر دون عقاب جرائم سرقة المليارات والتلاعب فى حسابات الشركات والمؤسسات، وعلى رأس الذين وجهت إليهم اتهامات بذلك الرئيس جورج دبليو بوش نفسه ونائبه ديك تشينى، وقد تعرض كل منهما للتحقيق لعدم الانضباط فى أعمالهما المالية، وانتهى التحقيق إلى لا شىء، وطبعا لم يُحول كل منهما إلى القضاء، وهذا بعض ما يسجله مايكل نورثكوت فى كتابه (الملاك يواجه العاصفة) فى فصل بعنوان (تقسيم الأسلاب وضياع الحلم).
لقد أصبحت الولايات المتحدة امبراطورية قائمة على القوة وإنكار العدل. ويقول المؤرخ آرثر شليسنجر (من ذا الذى يشك فى وجود امبراطورية أمريكية، إنها امبراطورية غير معلنة، مدججة بكل الأدوات الاستعمارية من جيوش وسفن وطائرات وقواعد عسكرية وعملاء وجواسيس وكل هذه الوسائل والأدوات منتشرة فى أنحاء الكرة الأرضية السيئة الحظ، والهدف الأساسى للامبراطورية الأمريكية هو فتح العالم للمشروع الأمريكى، لأنه بدون عالم مفتوح لا يمكن أن يكون الاقتصاد الأمريكى فاعلا فهو نظام قائم على التوسع وأمريكا تستخدم القوة العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية وفتح الأبواب أمام الاستثمار الاقتصادى الأمريكى).. وفى (وثيقة خطة الدفاع) التى أشرف على إعدادها بول ولفويتز النص على ضرورة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو إزاحة جميع المنافسين لأمريكا وإبعادهم عن المسرح العالمى وأن تفرض أمريكا نفسها كقوة عالمية وحيدة تدافع عن مصالح الدول المتقدمة صناعيا، ولابد أن تحشد أمريكا قدراتها العسكرية والدبلوماسية لمنع أية دولة لديها طموح للقيام بأى دور أكبر على الصعيد العالمى أو الإقليمى، وإلى جانب هذه الوثيقة هناك وثيقة أخرى بعنوان (مشروع لقرن أمريكى جديد) تتحدث عن تدعيم قيادة أمريكا للعالم، وتشكيل العالم فى القرن الحادى والعشرين لتحقيق المصالح الأمريكية، وهناك وثيقة ثالثة بعنوان (إعادة بناء الدفاعات اِلأمريكية) تتحدث عن خوض أمريكا لحروب تكتيكية كبرى عديدة فى وقت واحد وكسبها بحسم، وتنفيذا لهذه الاستراتيجية خاضت أمريكا حربين فى أفغانستان والعراق وقدمت العون العسكرى فى الفلبين وكولومبيا وهاييتى وهددت وتهدد إيران وسوريا والسودان والبقية تأتى..
هذه هى أمريكا.. وهناك المزيد!