الأساطير التى تحكم أمريكا
رسائل عديدة وصلتنى تعليقا على المقالات الأخيرة عن تأثير التعصب الدينى على السياسة الأمريكية، وأنا أعذرهم لأننى أنا نفسى لم أكن لأصدق ذلك لولا أن أصبح لدى أكثر من عشرين كتابا من تأليف أساتذة أمريكيين تضم دراسات أكاديمية حول هذا الموضوع، ولحسن الحظ أن بعض هذه الكتب صدرت طبعاتها العربية فى القاهرة ويستطيع من لا يصدق أن يرجع إليها بنفسه، وقد وجدت فى المكتبة البريطانية أيضا دراسات عديدة عن الدين والسياسة فى أمريكا، وقد صدرت أخيرا الطبعة العربية للكتاب بعنوان (الملاك يوجه العاصفة: أسفار الرؤيا والإمبراطورية الأمريكية) تأليف مايكل نورثكوت وهو من أبرز المتخصصين البريطانيين فى اللاهوت والسياسة، وتدرس كتبه فى جامعة أدنبرة، وفى هذا الكتاب رصد تاريخى لما يسمى (الدين الأمريكى) منذ هجرة البيوريتانز (المتطهرون) فى بدايات القرن السابع عشر وحتى غزو العراق.
فى بداية ولايته قال الرئيس جورج دبليو بوش إن للولايات المتحدة مهمة دينية (إرسالية) هيأها الله لها، وأن النجاح فى هذا النضال سيكون فى الأساس لأن ملاك الرب هو الذى يوجه العاصفة، ويعنى بذلك الإشارة إلى ما جاء فى سفر الخروج المقدس (وكان الرب يتقدمهم نهارا فى عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلا فى عمود نار يضىء لهم) فأمريكا فى نظره قوة كاسحة كالعاصفة التى تجتاح الأشرار فى العالم، والرب هو الذى يوجه هذه العاصفة، وفى دراسة مايكل نورثكوت أن 40% من الأمريكيين يعتقدون أنهم يعيشون فى (آخر الزمان) وتنعكس هذه الفكرة حتى فى الأفلام الأمريكية مثل غزو الغرباء والكائنات القادمة من الفضاء لأمريكا، واجتياح النجوم والشهب للكرة الأرضية وتهددها بالغناء، وانفجار ناطحات السحاب، وهجوم العناكب الضخمة للمدن الأمريكية، واقتراب التهديد النووى من أمريكا، وأسراب الغربان التى تطارد الأمريكيين وتقتلهم، إلى غير ذلك من أفلام الرعب.. ويفسر مايكل نورثكوت ذلك بأن جانبا كبيرا من الأمريكيين ينتظرون (معركة هروماجدون) التى ذكرت فى سفر الرؤيا وفيها تذيب النار والحرارة قشرة الأرض، ولذلك فإن هؤلاء يعيشون فى خوف دائم من أكثر من مصدر.. خوف من غير الأمريكيين، وخوف من السود الذين كانوا عبيدا وأصبحوا مواطنين.. وخوف من المجرمين.. وخوف من أصحاب العقائد الأخرى.. وقد صور مايكل مور فيلما وثائقيا حصل به على جائزة الأوسكار أشار فيه إلى أن التليفزيون الأمريكى ووسائل الإعلام جميعا تركز بصفة دائمة على الجرائم وإطلاق الرصاص والمطاردة والمخدرات والحرب فى إسرائيل والآن الحرب على الإرهاب وبعد أحداث 11 سبتمبر تأكد للبعض صحة الأفلام التى تم إنتاجها فى تسعينات القرن العشرين والتى صورت المسلمين على أنهم الأعداء الجدد لأمريكا وللعالم الحر بعد زوال خطر الشيوعية، وأنه لا سبيل أمام أمريكا إلا خوض حروب عنيفة لبداية تاريخ جديد، وهذا ما قدره الله سلفا، لأن أسامة بن لادن لديه خطة لتهديد العالم، ونشر العنف والرعب لإقامة حكومة إسلامية تحكم العالم (!) وهذا ما يفسر إعلان الرئيس بوش (الحرب الصليبية) بعد أحداث 11 سبتمبر، وقوله إنه هو والذين يحاربون فى أفغانستان والعراق هم (عباد الله الذين يحققون إرادته) ويفسر أيضا اعتقاد بوش مع كثير من الأمريكيين أن إسرائيل هى المحور فى (تاريخ نهاية الزمان) ولذلك قال إن أحد أهداف غزو العراق : أن يكون الشرق الأوسط آمنا بالنسبة للأمة الإسرائيلية، ولذلك وقف بوش بعد عام واحد من غزو العراق- فى أبريل 2004 فى حديقة البيت الأبيض ليعلن موافقته على خطة شارون لدعم الاحتلال الإِسرائيلى وإنشاء المستوطنات فى أكثر من 40% من الضفة الغربية.
يقول الباحث البريطانى الشهير مايكل نورثكوت إن إدارة بوش الحالية ضالة ومنحرفة عن مسار التاريخ الأمريكى وأن لها جذورها العميقة فى الدين الزائف بعيدة عن المسيحية الأصلية التى تقدم البديل الأخلاقى والروحى لما صارت إليه الإدارة الأمريكية من العنف والامبريالية والإفراط فى استخدام القوة العسكرية، وإلى هذا الحد قام بوش بلير بتوظيف الأخلاق المسيحية لتبرير الحروب والأطماع الامبريالية وفى ذلك إساءة استخدام للدين على أيدى الزعماء السياسيين وأيضا على أيدى الإِرهابيين، فهؤلاء وهؤلاء يشتركون معا فى إضفاء القداسة على حروبهم العدوانية ويعتبرون أنفسهم هم الأخيار ويعتبرون أن غيرهم هم الأشرار.. فليس غريبا إذن أن يقول الرئيس بوش فى يناير 2001 إن الله يدعوه ويدعو أمريكا لقيادة العالم فى معركة حددها الله لتشكيل العالم وليس غريبا أن يتحدث بوش عن نفسه وعن الأمريكيين على أنهم محررون للإنسانية أو أن يتحدث عن (الأصول القدسية) للأمريكيين ودور بلدهم المقدس.
عندما بدأ الرئيس بوش الاستعدادات لغزو العراق استأجر كارولين بيرز خبيرة الإعلان والتسويق لعمل حملة لتسويق الحرب للشعب الأمريكى.
وكارولين بيرز هى المسئولة عن حملات الإعلان والتسويق لأنواع من المواد الغذائية أشهرها (أرز ماركة أنكل بنز) وشامبو لغسيل الشعر أن الرئيس بوش طلب إعداد (علامة) أو شعار شبيه بالعلامة التجارية المميزة للمنتجات العالمية ووقع اختياره على شعار (الحرب ضد الإرهاب) ليكون شعاره فى حملة التسويق للحرب، أو إن شئت الدقة لحملة التضليل، وفى خطابه الشهير فى قاعدة (ماكديل) فى فلوريدا قال بوش إن أمريكا وقواتها المسلحة (خادمة لمشيئة الرب).
يقول مايكل نورثكوت إن المهاجرين الأوائل المؤسسين لأمريكا (البيوريتانز- المتطهرون) الذين فروا من الاضطهاد الدينى فى انجلترا اعتقدوا أن المسيح سوف يهبط فى أمريكا ويحكم العالم ألف سنة يسود فيها السلام والعدل، كما جاء فى سفر الرؤيا فى انجيل يوحنا، وتحدثوا عن (معجزات المسيح فى أمريكا) وعن صراع الأمريكيين الأخبار مع (أعداء المسيح) وتنبأ البعض بأن بداية الألفية ستكون حوالى سنة 2000 ولابد أن تخوض أمريكا معركة مع (ممالك الشيطان) وأمثال هذه الأساطير كثير تعمقت فى وجدان قطاع عريض من الشعب وعلماء اللاهوت الأمريكيين وهذا ما يجعلهم يتحدثون عن أن الأمريكيين هم المسئولون عن التاريخ البشرى وأن تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم يتمثل فى تحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وأن أمريكا هى الأمة المعدة من الرب لتحقيق الخلاص للتاريخ البشرى، وأن أمريكا هى (جنة الله فى الدنيا) وهى وطن القديسين.
يكرر مايكل تورثكوت الاستشهاد بالنصوص من كتابات كبار المفكرين ورجال الدين على مدى التاريخ الأمريكى ليدلل على أن فكرة الألفية مؤثرة بعمق فى تكوين المفهوم الأمريكى عن الحرية والديمقراطية والليبرالية والتجارة الحرة والحروب، وفكرتهم الراسخة بأن المجتمع الأمريكى هو (المجتمع الصالح) والأمة الأمريكية هى أول أمة حرة ديمقراطية بمعنى الكلمة وعليها مسئولية (النهوض بالقضية المسيحية) فى العالم. وبناء (مملكة الرب) وهذا ما جعل الرئيس الأمريكى جون مونرو يعلن فى سنة 1822 ما عرف باسم (عقيدة مونرو) عن حق الولايات المتحدة فى أن تسود النصف الغربى للكرة الأرضية، وبهذه العقيدة ضمت أمريكا فى القرن التاسع عشر المكسيك وتكساس ثم بورتوريكو وكوبا ثم بنما وشنت حروبا فى نيكاراجوا مما جعل لها سيطرة امبريالية شبيهة بالسيطرة الامبراطورية لبريطانيا أو أسبانيا أو البرتغال، ولكن عقيدة مونرو كانت قائمة على الزعم بأن الامبراطورية الأمريكية أكثر (صلاحا وتقوى) من الامبراطوريات الأخرى لأن توسع الامبراطورية الأمريكية هو توسيع لنطاق الحرية ، والحرية هى المبدأ الذى تستخدمه أمريكا حتى اليوم لتحرير العالم و(الخلاص لجميع البشر).
يقول مايكل تورثكوت إن أمريكا هى التى قدمت الأموال والأسلحة لصدام حسين بما فى ذلك الأسلحة الكيماوية فى حربه مع إيران انتقاما من الثورة الإيرانية، كما سبق أن دعمت شاه إيران بصفته (رجل أمريكا) لضمان استمرار تدفق البترول الإيرانى إلى أمريكا.. وكان صدام مناهضا للشيوعيين ومناهضاً للإسلاميين.. وكان يحقق سياسة أمريكا فى قمع الأغلبية الشيعية فى العراق وقهر الأكراد فى الشمال العراقى الذين ينظر إليهم على أنهم تهديد لتركيا وهى مفتاح مهم تعول عليه الولايات المتحدة فى المنطقة، وأمريكا هى التى أيدت صدام فى حملاته للإبادة الجماعية للأكراد بالغازات القاتلة فى حلاجة عام 1988 ووافقت على إلصاق هذه الحملات بالإيرانيين، وهذا التأييد الأمريكى لصدام هو الذى شجعه على غزو الكويت للاستيلاء على ثروتها البترولية.
وهذه قصة أخرى
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف