أصول التطرف الدينى فى أمريكا!
أمريكا هى القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية التى تنفرد بقيادة العالم فى هذه المرحلة، وتتدخل تدخلاً مباشرًا فى شئون الدول وخصوصًا الدول العربية والإسلامية.
ويصل الأمر إلى التدخل بالجيوش، والضغوط السياسية والحصار الاقتصادى، ما دام الأمريكيون لديهم أقسام متخصصة فى الجامعات لدراسة كل شىء عن المجتمعات العربية والإسلامية، ومراكز أبحاث، وعملاء مخابرات، يتابعون تفاصيل الحياة والأحداث الصغيرة والكبيرة فى كل ركن فى بلاد العرب والمسلمين، ولها أصدقاء – ولا أقول عملاء – على درجة عالية من الكفاءة والتدريب يقدمون لها كل المعلومات عن كل شىء ويحصلــون عــلى المقــابل أو لا يحصلون. وما دامت لأمريكا عيون فى المنطقة تضع لافتات مراكز أبحاث، أو جمعيات حقوق إنسان، أو مكاتب إعلام وعلاقات عامة.. أو.. أو.. مـا دام ذلك كذلك، فـلابد أن نفعل نحن أيضًا نفـس الشىء لنعرف كل شىء عن أمريكا.. لكى نحـدد علاقاتنـا وأساليب تعاملنا على أساس من الفهم لطبيعة هذه الدولة العظمى التى تتحكم فى مصائر البشر، والتى يسميها بعض الباحثين الأمريكيين: القوة العمياء.
ومن حسن الحظ أن الأمريكيين أنفسهم لهم دراسات تكشف الكثير من الأسرار والخفايا التى لا نعرفها بدقة، وإذا عرفناها قد لا نصدقها. وأمامى عدد من هذه الدراسات، ولنبدأ بكتاب فى منتهى الأهمية أصدرته مكتبة الشروق الدولية -ضمن المشروع القومى للترجمة الذى يشرف عليه الدكتور جابر عصفور- وعنوانه (أصول التطرف: اليمين المسيحى فى أمريكا) وهو من تأليف مجموعة من كبار الباحثين وأساتذة الجامعات الأمريكيين، بإشراف البروفيسورة كيمبرلى بلاكر الأستاذة بجامعة ميتشجان. وهذا الكتاب يشرح بالتفصيل الأصولية المسيحية، ويقول إنها أصبحت خطرًا على أمريكا وعلى العالم، كما يعتبر الأصولية الإسلامية أيضًا خطرًا على أمريكا وعلى العالم. ويظهر الانحياز فى الفكر الأمريكى فى ملحوظة مهمة لاحظها ناشر الكتاب عادل المعلم، فكتب إلى كيمبرلى بلاكر يسألها: لماذا تذكرون الأصولية الإسلامية وتغفلون عن الأصولية اليهودية؟ وهذا يماثل ما حدث فى العراق من الادعاء بحيازته لأسلحة دمار شامل، وغض النظر عن ترسانة الدمار الشامل والأسلحة النووية فى إسرائيل، فردت عليه البروفيسور كيمبرلى بلاكر بأن الأصولية الإسلامية أصبحت حاضرة فى كل وسائل الإعلام ولدى الشعب الأمريكى بعد أحداث سبتمبر. ولهذا جاء تشبيه الأصولية المسيحية بالأصولية الإسلامية من عدة نواح، وهذه طبعًا حجة غير مقنعة.
والكتاب يرسم خريطة للفرق والجماعات الدينية الأصولية الأمريكية ومدى تغلغل أفكارها فى المجتمع الأمريكى وتحول هذه الأفكار المتطرفة إلى سياسات للدولة. وتشير الدكتورة هبة رءوف التى ترجمت الكتاب مع تامر عبد الوهاب إلى أن هذه التيارات الأصولية ليست تيارات دينية تسعى إلى غرس قيم روحية، ولكنها ذات طبيعة سياسية، تروج للأساطير الدينية التى أدت إلى السياسة الإمبريالية الحالية للولايات المتحدة. كما أن هذه التيارات نجحت فى (تهويد المسيحية) بحيث أصبحت معظم أفكارها ولغتها مصدرها العهد القديم وليس العهد الجديد. ولهذا تسمى (المسيحية الصهيونية) لما بينها وبين الفكر الصهيونى من تحالف، وهى فى نفس الوقت امتداد لرؤى الأمريكيين الأوائل لأنفسهم باعتبارهم (شعب الله المختار)، وأنهم يمثلون (مدينة على جبل) تفيء بنورها العالم الذى يعمه الظلام وينتظر أن تؤدى رسالتها فى تنويره وتحريره، وهذه الرؤى هى التى ظهرت بوضوح فى فكر الزعامات الأمريكية عبر التاريخ وتبلورت أخيرًا بمنتهى القوة والوضوح فى إدارة الرئيس بوش الابن.
مترجمة الكتاب هبة رءوف تنصح بقراءة مجموعة من الكتب تلقى أضواء على الفكر والمجتمع الأمريكى فى هذه المرحلة مثل كتاب صمويل هنتجتون الأخير (من نحن)؟ الذى يشرح فيه أن الهوية الأمريكية قائمة على الثقافة الأنجلو- بروتستانتية، وهذه النظرية توظفها التيارات الأمريكية المتطرفة لفرض تصور مسيحى عن أمريكا يستبعد (الآخر)، وهنتجتون فى هذا الكتاب يدعو إلى قيام أمريكا بحروب طويلة خارج الأرض الأمريكية، ويدعى أن ذلك هو الحل الوحيد لتحقيق التماسك لأمريكا ومنع انهيارها من الداخل بسبب تعدد الأعراق والثقافات لشعبها. ويكرر هنتجتون نظريته عن صراع الحضارات ويقول إن الإسلام المسلح هو العدو الأساسى فى هذا الصراع الحتمى. والكتاب الثانى الذى تدعونا هبة رءوف إلى قراءته فهو عن (الدور الاستعمارى للولايات المتحدة فى المنطقة العربية منذ القرن السابع عشر) للمؤرخ الأمريكى روبرت اليسون. والثالث عنوانه (استعادة مائدة العشاء الأخير) من تأليف كارى كاش، وهو رجل عسكرى، والكتاب رواية تسجل يوميات قائد كتيبة أمريكى فى العراق يروى كيف نجحوا فى نشر رسالة المسيح فى مجتمع إسلامى لا يحترم الإنسان(!) وهو من الكتب التى توزعها الكنائس الأمريكية بسعر رخيص. وتقدم لنا هبة رءوف قائمة أخرى بالكتب التى ترشحها للقراءة مثل كتاب جهاد الخازن (المحافظون الجدد والمسيحيون الصهيونيون) الذى أصدرته دار الساقى فى لندن، وكتاب (مدينة على جبل) الذى أصدرته دار النهار فى بيروت، وكتاب (الأصولية المسيحية فى أمريكا والرئيس الذى استدعاه الله) لعادل العلم وأصدرته مكتبة الشرق الدولية التى أصدرت أيضًا كتاب (الشعب المختار: الأسطورة التى شكلت إنجلترا وأمريكا) وترجمه الدكتور قاسم عبده أستاذ التاريخ المعروف.. والقائمة طويلة.. وفى مكتبات القاهرة الكثير منها ومن غيرها.
أما كتاب (أصل التطرف: اليمين المسيحى فى أمريكا) فإن جون سووملى أستاذ الدراسات الاجتماعية يقول عنه إنه محكم التوثيق حول أخطار الأصولية المسيحية فى شقيها البروتستنتى والكاثوليكى، ويكشف خطر السيطرة على العقل، ويشرح العلاقة بين الأصولية وجرائم الكراهية.. كما تشرح مؤلفة الكتاب كيف تلقن المدارس التعليم الأصولى للأطفال وتبدأ بحفظ آيات وصلوات الكتاب المقدس، ودروس عن العذاب فى الجحيم، وتحرص مناهج التعليم فى مدارس الأصوليين على عدم تعليم تلاميذها التفكير الحر أو تنمية القدرة على الاختيار، وهذا الأسلوب السلطوى فى التعليم يعود التلاميذ على ألا يقيموا وزنًا للديمقراطية ويرفضون الحق فى الاختلاف فى الرأى.. وتقول: (إنهم يعملون على تربية وتكوين جيش من المغفلين يحركونهم كالدمى، على استعداد للقتل – بل والتضحية بأرواحهم – فى سبيل قضيته يتم تحديدها لهم).. وتتجلى طبيعة الأصولية الدينية فى موقفها بعد أحداث سبتمبر عام 2001 وقول ممثليها: (إننا سوف نمحو الذين يهددون أمتنا والذين يقفون فى طريقنا للقبض على الإرهابيين، على شريطة ألا يكونوا مسيحيين أو أمريكيين).. وتقول المؤلفة أيضًا إن الرئيس بوش هو المسئول بشكل أساسى عن تشجيع العوامل التى تسببت فى كارثة إقحام الدين فى السياسة. فلقد قام تيموثى باكفى بتفجير المبنى الفيدرالى فى أوكاهوما تحت تأثير حركة (الهوية المسيحية) التى تروج للمسيحية المسلحة. ومن أمثلة الأصولية التى تؤمن بالعنف جماعة (جيش الرب) الراديكالية التى قامت بعمليات قتل وتفجير وخطف أشخاص وأرسلت عقب أحداث سبتمبر 280 رسالة ملوثة بمادة الانتراكس السامة إلى عيادات تجرى عمليات الإجهاض، ومن آرائهم أن اتباع وحرمان المرأة من حقها فى التعليم والعمل وتعرضها للمعاملة السيئة من الزوج.. وقد لا يصدق بعضنا أن المرأة فى المجتمع الأمريكى المتحرر فى الظاهر تتعرض لذلك.
وترتبط الأصولية بجرائم الكراهية ضد الأعراق وأصحاب الديانات الأخرى، كما ترتبط بعدم الاهتمام بالبيئة لاعتقادهم بأن كل شىء سخر للإنسان بمنحة من الرب كما جاء فى سفر التكوين، وهم يتوقعون المجىء الثانى للمسيح فى المستقبل القريب، وبالتالى لا يجدون حاجة للحفاظ على مقومات الحياة على الأرض لأن الحياة لن تستمر على الأرض طويلاً. وهم يعيدون تفسير النص على الفصل بين الدين والدولة فى الدستور الأمريكى ويعيدون كتابة التاريخ لإضفاء الصبغة المسيحية على الأمة الأمريكية. وقد اكتسب اليمين المسيحى مزيدًا من القوة فى السنوات الأخيرة وتولى رموزه عددًا لا يستهان به من المناصب فى جميع المستويات ويمتلك هذا اليمين المسيحى العديد من قنوات التليفزيون ومحطات الإذاعة والصحف الواسعة الانتشار. وبعض الجماعات الأصولية تمارس الابتزاز والضغط على وسائل الإعلام، مثل (مؤتمر المعمدانية الجنوبية) و(الرابطة الكاثوليكية للحقوق الدينية والمدنية) فإن لهما تأثيرا كبيرا على الإعلام ويمارسان التهديد باللجوء إلى القضاء وجرجرة من يختلف معهم إلى المحاكم، ويقومون بحملات إرسال الخطابات والمنشورات.. كما يقول بالدعوة إلى مقاطعة الشركات التى تدعم نشاطًا لا يتفق مع مبادئهم، وتذكر المؤلفة أن الأب فرانك بروفون من منظمة (قساوسة من أجل الحياة) تحدث أمام المؤتمر العام للحزب الجمهورى فقال: (إن الكنيسة تملى سياسات الأمة، فالكنيسة تعلن الحقيقة الربانية التى يجب أن تتوافق معها جميع السياسات).
وتقول كيمبرلى بلاكر إن اليمين المسيحى فى أمريكا له تأثير كبير على تشكيل الرأى العام باستخدام ما تصفه بالصراخ الزاعق فى المطبوعات، وبهجومها على كل من يشير إلى التمييز فى المجتمع الأمريكى ضد الأمريكيين من أصول أفريقية، وضد المسلمين، والأقليات الأخرى، وضد المرأة، ويستفيد اليمين المسيحى من تعطش الإعلام إلى المعلومات وبحثه عن الإثارة فيقوم بتغذية وسائل الإعلام بمعلومات مغلوطة، وبأنصاف الحقائق حول الموضوعات التى يعارضها الأصوليون، ويحققون هدفهم لأن الأمريكيين يتقلبون (لف الحقائق) وليست لديهم القدرة فى بحث مدى صحة المعلومات والرسائل التى يقدمها لهم الإعلام، وهكذا تكون للأصوليين الكلمة العليا.
وفى دراسة إدوين كاجين أن المعتنقين لفكرة الميلاد الثانى فى المسيح عددهم 60 مليونًا وأن أكثر الكنائس تشددًا وأكثرها نموًا هى كنيسة الرب فى المسيح، وهى بروتستانتية أصولية، وتقول إن الأصولية المسيحية تنتشر فى أمريكا وفى أنحاء كثيرة من العالم مثل الفلبين ودول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكن الحكومة الأمريكية توجه حربها على الأصولية الإسلامية وحدها، مع أن الأصوليين المسيحيين يقولون إنهم هم المعبرون عن إرادة الرب، وأن الرب يريدهم فى السلطة، وهكذا فإن هدفهم السيطرة على القوانين وعلى حياة الأمريكيين. إن قـراءة هذا الكتاب ضرورية لمن يريد أن يرى الوجه الآخر لأمريكا.. ومعظم صفحاته يمكن أن تكون تحت عنوان (صدق.. أو لا تصدق)