الوجه الآخر لتنظيم القاعدة فى أمريكا!
ذا كان تنظيم القاعدة هو الممثل للأصولية والتعصب الدينى واستخدام الدين كقوة تخريب وتدمير، فإن الوجه الآخر لهذا التنظيم يتمثل فى أمريكا أيضاً فى الأصولية والتعصب الدينى واستخدام الدين كقوة تخريب وتدمير، وهذا ماعبرت عنه مجلة دير شبيجل الألمانية حين قالت إن النبرة الدينية تستخدم فى أمريكا لتبرير السياسة، وإن فى أمريكا 60 مليوناً يرون أنهم ولدوا مرة ثانية فى المسيح والرئيس جورج دبليو بوش واحد من هؤلاء. وقالت أيضاً إن الأمريكيين يعتقدون أن أمريكا هى «بلد الله» وأن هذا الاعتقاد له جذوره التاريخية التى بدأت مع أتباع كلفن اللاهوتى البروتستانتى الذى أسس «مدينة الله» فى جنيف فى سويسرا. وعندما هاجر المؤمنون بمذهبه الدينى من الجزر البريطانية إلى أمريكا أرادوا أن يؤسسوا فيها دولة دينية بروتستانتية، فالهجرة إلى أمريكا هى بداية تأسيس الولايات المتحدة وكانت فى الأساس لدوافع دينية.
لم تقم فى أمريكا دولة دينية بالمعنى الذى نراه فى فكر وتنظيم القاعدة أو دولة طالبان، ولأن الدستور ينعى على الفصل بين الدين والدولة وعلى الحرية الدينية ولذلك ظهرت 200 كنيسة لكل نوع مذهب وفكر خاص بها، ومع ذلك فإن الكنائس التى تنمو بسرعة ويزداد نفوذها وتأثيرها هى الكنائس ذات التوجهات المحافظة كما يقول عالم الاجتماع كين سانتشاجرين الذى توصل إلى هذه الحقيقة بناء على إحصائيات بعدد الكنائس المتشددة وعدد المنضمين إليهاوهؤلاء المتعصبون دينياً هم الذين أعطوا أصواتهم للرئيس بوش، والنموذج لهذه الكنائس كنيسة «بل فيو» المعمدانية فى ميدلاند بولاية تكساس، وتقول دير شبيجل إن القس اندروستيوارت راعى هذه الكنيسة يصلى كل يوم أحد لله القادر أن يدمر أعداء الأمة إلى الأبد وأن يغد بنعمه على «رئيسنا» جورج بوش.. وأن يقود الحرب رئيسنا ليدمر أعداءنا!
ومن الكتب المهمة التى صدرت مؤخراً فى القاهرة كتاب «مقدمة الأصولية المسيحية فى أمريكا» عن مكتبة الشروق الدولية ويشمل دراسة موثقة وترجمة لعدد من الأبحاث والمقالات بالألمانية والإنجليزية عن جذور الأصولية وتحليلاتها فى المجتمع الأمريكى، وكيف أصبحت البروتستانتية الإيفانجليكية المحافظة هى القوة الحاسمة فى الانتخابات، وكيف يرى ملايين المؤمنين المتعصبين أن أعداءهم هم الليبراليون على عكس ماهو سائد فى الكتابات العربية التى تدعو إلى الليبرالية الأمريكية وهم لايعلمون أن فى أمريكا تياراً قوياً يحارب هذه الليبرالية ويعتبرها خيانة للوطن، لأن الليبراليين يدافعون عن حقوق الشواذ وإباحة الإجهاض ويعارضون سياسات التسلح ويؤيدون اليساريين فى المطالبة بالعدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء، ويردد هذا التيار المتعصب أن الليبراليين ملاحدة، ومسئولون عن غضب الرب على أمريكا حتى أن الله اختار أسامة بن لادن لإلحاق الأذى بأمريكا بسبب هذا الغضب، وفى مواعظ القس جيرى فالويل أشهر زعماء اليمين المسيحى المحافظ الذى توفى منذ أيام- كان يردد أن التدمير الذى لحق بأمريكا فى 11 سبتمبر هو عقاب الرب لخطايا شعبه، وأن السبيل الوحيد للنجاة من عقاب الرب هو الإخلاص المطلق لكلمة الله التى تميز بين الخير والشر، وتأمر النساء بالخضوع للرجال، وتعلم الصغار أن يحترموا الكبار. وهذا التيار يؤيد العودة الى اقتناء العبيد ويستند فى ذلك الى ماورد فى سفر اللاويين من الكتاب المقدس- الإصحاح الخامس والعشرين الآية 44- «إنه يسمح باقتناء العبيد حينما يتم الاستحواذ عليهم من الشعوب المجاورة» :»وليكن عبيدكم وإماؤكم من الشعوب التى حولكم منها تقتنون عبيدا وإماء» وهم يرددون أيضاً النص الوارد فى المزامير: (إن الرب سوف يسحق رؤوس أعدائه) ويطالبون بالاستمرار فى شن «الحروب المقدسة» ولعل ذلك ماكان يقصده الرئيس بوش عندما تحدث عن الحرب فى أفغانستان والعراق على أنها حرب صليبية.
الراديكاليون المتعصبون دينياً هم الذين يعتبرون أنفسهم «محاربين مقدسين» ويشعلون النيران فى عيادات الإجهاض، وهم يقومون بمثل هذه الأعمال العدوانية ايماناً منهم بأن كل من يريد الخلاص لنفسه من لعنة الرب عليه أن يحارب «الشر» ولايقبل أية حلول وسطى، فمن ليس معى فهو ضدى. ويردد هؤلاء الوعاظ كلمات النبى يوئيل: «اطرقوا محاريثكم وحولوها إلى سيوف، وحولوا المناجل الى رماح، وليقل الضعيف إننى جبار قتال». هكذا يجد الرئيس بوش الدعم من اليمين المسيحى وهو يصور الحرب فى العراق على أنها جزء من معركته ضد الشر، وبالتالى هى تلبية لدعوة الرب. ومن كتاب مقدمة فى الأصولية المسيحية نرى أن الجذور الدينية للمواقف الأمريكية تجاه الحرب والسلام ليست من أجل الهيمنة والبترول واسرائيل فقط ولكنها أيضا تستغل الكتب المقدسة وتستخلص منها» ثلاث رؤى للحرب. الحرب المقدسة، والحرب العادلة، والحرب من أجل السلام. ونظرية الحرب المقدسة ترجع إلى كلفن أحد مؤسسى المذهب البروتستانتى، ويشرح ذلك بالتفصيل المؤرخ الأمريكى آل كوربث فى كتاب بعنوان «الدين والسياسة فى الولايات المتحدة» كما يبرر هذه الحروب بأسانيد دينية البروفيسور الأمريكى جورج مارسدن فى كتاب بعنوان
«كيف نفهم الأصولية الايفانجليكية»، الذى صدرت طبعته الثانية سنة 2000 فيقول إن الحروب هى محفزات التاريخ، فالحرب العالمية الأولى كانت حربا صليبية من أجل أن تصبح أمريكا آمنة ومن أجل الديمقراطية، وبمجرد دخول أمريكا الحرب توحدت الهوية المسيحية مع الهوية الأمريكية كما عبر عن ذلك القس الايفانجليكى بيلى صاندى بقوله: «المسيحية والوطنية هما كلمتان مترادفتان، كما ان الحجيم والخونة مترادفان» وكما قال مدير مدرسة اللاهوت فى شيكاغو شيلر ماثيور: «الأمريكى الذى يرفض الاشتراك فى الحرب ليس مسيحياً» وعلى ذلك ساد الاعتقاد بأن الحرب إنما هى من أجل «الحضارة المسيحية» ضد البرابرة المتعطشين للدماء، وقد أشعلت المواعظ الدينية هيستريا بين الأمريكيين ضد فظائع هتلر وجنوده.. لقد وحدت الحرب الشعب الأمريكى وأدت إلى تقوية التيار الدينى المحافظ، وفى هذه الفترة ظهرت منظمة «كوكلوكس كلان» الإرهابية مرتبطة مباشرة بالكنيسة واتسع نطاق علمها ليشمل الاعتداء على السود وعلى الكاثوليك واليهود والشعوب الملونة، وفى سنة 1923 وتزايد أعضاء هذه الجماعة حتى وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين يرددون تعاليم وتراتيل فى اجتماعاتهم ويرفعون رموزاً مسيحية بروتستانتية ويتخذون الصليب المشتعل رمزاً لحركتهم. كانت هذه الحركة الإرهابية تجسيداً لنظرف والعدوانية وتهديداً للمجتمع الأمريكى إلى أن ظهرت فى العشرينات من القرن العشرين موجة مضادة فى الفكر والأخلاق بدأت بالدعوة إلى الانفتاح والتحرر وانتهت إلى الانحلال فظهرت صحف الفضائح وانتشرت المشاهد الجنسية فى الأفلام والأغانى والإعلانات، وانتشر التدخين والملابس العارية والرقص بين النساء، وسمحت بعض الكنائس بالرقص فى ساحاتها، ووصف الباحثون هذه الظاهرة بأنها تعبير عن «مناخ الأزمة» لكن موجة الانحلال أدت بدورها الى ظهور حركة دينية محافظة مضادة كرد فعل لها، وظهر مصطلح الأصولية على أنه الحرب اللاهوتية ضد التغيرات الثقافية وقامت الكنائس والجمعيات المتشددة بتوزيع كتاب بعنوان «الأصول» مجاناً وهو يضم الأفكار والعقائد الأصولية المتشددة واعتبارها السبيل الوحيد الى «خلاص النفوس». وكان سكان الجنوب أكثر تشدداً والتزاماً بالعقائد المتزمتة من غيرهم فى الشمال، ونظموا حملات لمنع تدريس هذه النظرية فى عدد من ولايات الجنوب، وكانت أشهر قضية فى هذا الوقت هى محاكمة المدرس الشاب جون سكوبس بتهمة تدريس نظرية التطور لتلاميذه!
فى الحرب العالمية الثانية وضع الجنرال أيزنهاور قائد قوات الحلفاء «ثم الرئيس الأمريكى بعد ذلك» - كتاباً بعنوان «حرب صليبية فى أوروبا». وعندما جاء ترومان الى الحكم دفعته خلفيته الدينية المعمدانية الى تأييد الحركة الصهيونية برهاناً على تحقيق نبوءات التوراة- وعندما ذهب الرئيس ترومان الى معهد لاهوتى يهودى قال فى كلمته:
«إننى قورش.. إننى قورش» وقورش هو القائد الذى أعاد اليهود الى القدس من منفاهم فى بابل.. وفى الكونجرس خطب رئيس لجنة العلاقات الخارجية هنرى كابوت قائلاً: «إننى لم أحتمل أبداً فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين.. إن بقاء القدس والأرض المقدسة فى أيدى الأتراك كان يبدو لى ولسنوات طويلة وصمة فى جبين الحضارة يجب إزالتها.» وبعد حرب 1967 رأى تيار الأصولية الايفانجليكية أن انتصار اسرائيل الصغيرة على الأغيار الأشرار فى حرب خاطفة انتصار إلهى وتحقيق لنبوءات الكتاب المقدس.
وصل التيار الأصولى الى القمة فى انتخابات الرئاسة عام 1976 حتى أن مجلة تايم أعلنت أن ذلك العام هو عام الايفانجليكان. كان المرشح الأول هو جيمى كارتر الذى اعلن أنه مولود ثانية فى المسيح، وحين زار كارتر اسرائيل قال فى كلمته أمام الكنيست عام 1979 :»إن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل متأصلة فى وجدان وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكى.. إننا نتقاسم معاً ميراث التوراة» ولكن الرئيس كارتر الآن تغيرت أفكاره وأصدر مؤخراً كتابه «فلسطين: سلام لا فصل عنصرى» .
وليس كارتر آخر من وضعوا سياسات أمريكا وفقاً لمعتقداتهم الدينية، فعندما أصبح كلينتون رئيساً قال: «أخبرنى راعى كنيستى أن الله سيغفر لى كل ذنوبى إذا لم أتخلَ عن اسرائيل»، وقبله كانت للرئيس ريجان صفحات مليئة بأقواله المؤيدة لتوجهه الدينى المتعصب وتأييده لاسرائيل من هذا المنطلق حتى أنه أمسك بالكتاب المقدس فى لقائه مع المحررين والمذيعين الدينيين قائلاً: «إن بين دفتى هذا الكتاب توجد جميع الإجابات على جميع المشاكل التى تواجهنا اليوم».
يقول عادل المعلم فى ختام كتابه «مقدمة فى الأصولية المسيحية فى أمريكا» إن القس الشهير جيرى فالويل أعلن فى أحد أحاديثه فى التليفزيون أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة: «لو تخلى بوش عن القدس كعاصمة لإسرائيل فلن يحصل علىصوت ايفانجليكى واحد» كما سبق للقس فالويل أن نصح قادة اسرائيل بألا يتخلوا عن بوصة واحدة من أرض اسرائيل التوراتية!
بعد أن تقرأ هذا الكتاب المثير لابد أن تتساءل: كيف تحارب أمريكا الأصولية الدينية والأصوليين فى العالم الإسلامى ولاتحارب الأصولية والأصوليين فى أمريكا.. بل وفى البيت الأبيض؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف