الرئيس ينتظر الوحى!
يبدو أن الرئيس الأمريكـى جورج بوش لا يسمع الأصوات العالية التى تطالب بسحب قواته من العراق. إنه لا يسمع أصوات عشرات الآلاف الذين يحتشدون فى مسيرات فى واشنطن وبقية المدن الأمريكية الكبرى وهى تهدر (كفى سفكًا للدماء فى العراق). ولا يسمع أصوات الرافضين فى الكونجرس لسياسات الحرب التى يتبعها ويجر الولايات المتحدة والعالم معه فى دوامة العنف.. ولا يسمع نصائح الدول الصديقة لأمريكا التى تحذره من أن هذه الحروب أشعلت الكراهية لأمريكا فى العالم، وجعلتها تبدو قوة عمياء على حد تعبير بعض المفكرين الأمريكيين.
الرئيس بوش لا يستمع إلا إلى صوت واحد.. صوت الرب الذى يكلمه وأوحى إليه أن يغزو العراق، فحشد الجيوش وأطاع الوحى.. ولن يغير سياساته إلا إذا جاءه الوحى بأمر آخر!!
الرئيس بوش نفسه هو الذى قال إن الرب أمره بغزو العراق. وبعض المسئولين الكبار الذين التقوا به نقلوا ذلك عنه، ونشرت الصحف تصريحاتهم، فالأمر ليس سرًا. وقصة الرئيس بوش مع الوحى الإلهى معروفة ومنشورة على لسانه هو وعلى لسان أقرب الناس إليه. وهى قصة دخلت التاريخ لتضاف إلى قصص القادة والحكام الذين عرفهم التاريخ وكانوا يتلقون الوحى ويدمرون الدول ويقتلون ملايين البشر تلبية لهذا الوحى!!
كتب هوارد هانيمان فى (نيوزويك) إن الرئيس بوش فى أحد أيام شهر فبراير 2003 اجتمع فى مدينة ناشفيل مع عدد من رجال الإعلام وقال لهم: (إن الإرهابيين يكرهون أن نعبد الرب العظيم بالطريقة التى نراها مناسبة وإن الولايات المتحدة عليها إيصال الحرية – هدية الرب – إلى كل إنسان على الأرض.. وقبل ذلك أعلن تفسيره للحرب على العراق خلال مأدبة الفطور القومية للصلاة (إن الهدف حددته يد إله عادل أمين)، وبعد خطابه فى ناشفيل التقى بوش بعدد من المرشدين الدينيين وقال لهم: (لو لم أتوقف عن إدمان الخمر قبل 17 سنة ما كان يمكن أن أصبح رئيسًا اليوم، وقد استطعت ذلك بفضل نعمة الرب وحده).
وبعد هذا الاجتماع علق تشارلز سترويل أحـد الحاضريــن فـى هـذا اللقــاء قائلاً: (لا أستطيع أن أتصور أن المسيح يدعو المؤمنين به إلى الحرب كما سمعت من الرئيس اليوم).
ويروى هوارد فاينمان فى نيوزويك أن بوش خلال مشاركته فى حملة والده سنة 1988 توثقت علاقاته مع رجال دين كانوا يشكلون فى ذلك الوقت الحركة الإنجيلية الصاعدة فى الحياة السياسية وأصبحوا بعد ذلك يمثلون قلب الحزب الجمهورى، ولذلك كان المسيحيون المتدينون هم أشد المؤيدين للرئيس بوش الابن، ونفذ يوش بعد نجاحه مطالبهم، وفى مقابل ذلك فإن هؤلاء المتشددين دينيا هم أشد المناصرين للحرب. ويقول مساعدو الرئيس بوش: (إن الإيمان المسيحى يمنح الرئيس القوة، وإنه يبدو كمبشر يتولى القيادة، والإيمان يمنحه أكثر من الثقة بالنفس، وكما قال أقرب أصدقائه – دون إيفانز الذى اختاره بوش وزيرًا للتجارة – فإن الإيمان يمنح الرئيس إدراكًا واضحًا جدًا لما هو خير وما هو شر.
والقصة كما يرويها هوارد فاينمان تبدأ عام 1948 عندما انتقلت أسرة بوش إلى مناطق النفط فى ولاية تكساس وانضموا إلى الكنيسة المشيخية، وكان والده – بوش الأب – يجمع الأموال للكنيسة ويعطى دروس الأحد. وحين التحق جورج بوش الابن بمدرسة اندوفر الثانوية كان هو (الشماس) فى المدرسة، لكن كان فى نفس الوقت يشارك فى حفلات اللهو، ويلهو بسيارته الفاخرة المكشوفة، إلى أن تزوج لورا عام 1977 فانضما إلى الكنيسة المشيخية فى هيوستن لكنه كان مع ذلك يسرف فى شرب الخمور. وقال أصدقاؤه إن صبر زوجته لورا بدأ ينفد بعد ولادة طفلتيه التوأم عام 1982. وعندما اقترب من سن الأربعين فى عام 1985 توقف عن شرب الخمر، وكان الفضل فى ذلك للواعظ الشهير بيلى جراهام وهو واعظ متعصب يشن حملاته على الإسلام والمسلمين، وانضم بوش إلى مجموعة لدراسة الكتاب المقدس تقوم بدراسة مكثفة على امتداد سنة لإنجيل واحد من العهد الجديد، وكانت هذه الدراسة هى العلاج الجماعى الذى ساعده على الاقلاع عن شرب الخمر بعد أن لجأ إلى الكتاب المقدس لإنقاذ زواجه وعائلته. وكان فى سنة 1978 قد رشح نفسه فى الانتخابات النيابية عن بلده ميدلاند ومنى بهزيمة منكرة، وعندما انتقل إلى واشنطن للمشاركة فى إدارة حملة والده للرئاسة كان دوره (ضابط الاتصال) مع اليمين الدينى، واكتشف أنه قريب منهم وأنه يتكلم بلغتهم. وفى سنة 1993 قال بوش لأحد الصحفيين إن المؤمنين بالمسيح وحدهم هم الذين سيدخلون الجنة، وكان هذا الصحفى يهوديًا فحول هذا التصريح إلى حملة شاركت فيها صحف كثيرة بتعبيرات تحمل الغضب والاستنكار، ولكن هذه الحملة أفادته حين رشح نفسه بعد سنة واحدة حاكمًا لولاية تكساس لأنها جعلته يحصل على تأييد قادة الكنائس والأوساط الدينية.
وحين بدأ بوش الاستعداد للترشيح للرئاسة عام 1999 بدأ تحركه بجمع كبار القساوسة لينال بركتهم، وأخبرهم بأنه (تمت دعوته) لتولى هذا المنصب. ويقول جارى باور أحد منافسيه: (لقد تحدث بوش عن إيمانه فصدقه الناس.
وقال دافيد فرام الكاتب السابق لخطابات بوش: (إن الرئيس بوش يؤمن بأن كل الأمور فى يد الرب.
وهذا ما يراه البعض صلابة ويراه آخرون مزيجًا من العناد والوقاحة). ويقول العاملون فى البيت الأبيض أن الأجواء فى البيت الأبيض مثل أجواء الصلاة ومجموعة دراسة الكتاب المقدس موجودة فى البيت الأبيض دائمًا. وزوجة رئيس الموظفين قس فى الكنيسة ووالد كونداليزا رايس كان مبشرًا فى آلاباما.
يقول هوارد فاينمان: (لقد أقنع الرئيس بوش نفسه بأن الحرب فى العراق حرب عادلة وفق المفهوم المسيحى كما شرحها القديس أوغسطين وتوما الأكوينى ومارتن لوثر وآخرون، وهو يرى وفقًا لذلك أن أسامة بن لادن وجماعته (أشرار) وأن صدام حسين (شرير) وقد ذكر ذلك فى حديث لمجلة نيوزويك فى نوفمبر 2001 مما يدل على أن نواياه لغزو العراق كانت مبيتة، وأنه يقسم العالم والبشر إلى قسمين: أخيار وأشرار ويضع نفسه والولايات المتحدة فى خانة الأخيار ويضع آخرين فى محور الشر.
يقول المفكر الأمريكى ستيف والدمان: (إن الناس يقدرون تفانيه فى الإيمان، ولكن بدأ الناس يقلقون فيما يتعلق بالحرب واعتبارها مهمة خلاصية). ويقول هوارد إن الرئيس بوش يستيقظ مبكرًا فى معظم الأيام وينزوى فى مكان هادىء للقراءة.. ليس لقراءة ملخص للأخبار والبرقيات التى تبعث بها المخابرات خلال الليل، فتلك سيقرأها فيما بعد فى المكتب البيضاوى، ولكنه يبدأ يومه بقراءة فى كتـاب عظــات إنجيليـة عنوانـــه (غـاية ما يمكننى عمله لأعظم العظماء) ومؤلف هذا الكتاب هو أوزالد تشيمبرز المبشر المعمدانى الذى مات سنة 1917 بينما كان ينشر تعاليم الإنجيل بين الجنود الأستراليين والنيوزيلانديين المحتشدين فى مصر، والذين انتزعوا فلسطين من أيدى الأتراك واستولوا على القدس من أجل الإمبراطورية البريطانية.
فى الثمانينات أشار بوش إلى طريقه الدينى بكلمة (المسيرة) وفى خطابه إلى الأمة فى 29 يناير 2003 قال: (إن الحرية التى نناضل من أجلها ليست هدية أمريكا للعالم، بل هى هدية الرب إلى البشرية). وعندما سقطت مركبة الفضاء كولومبيا وقتل طاقمها بالكامل قال بوش فى كلمته التى نعى فيها رواد الفضاء: (لم يعد طاقم المركبة كولومبيا إلى الأرض بسلامة، لكن بوسعنا أن نحمد الله على أنهم وصلوا جميعهم بسلامة إلى بيتهم) وعبارة (وصلوا بسلامة إلى بيتهم) تستخدم من القسس فى العظات أثناء مراسم الجنازات للدلالة على أن الذين ماتوا باتوا مع المسيح. وبوش نفسه يعتبر واحدًا من الأمريكيين المعروفين بأنهم (ولدوا ثانية فى المسيح). وهذا الميلاد الثانى جعل واعظ تكساس تونى ايفانز يقول: (إن الرئيس بوش يشعر بأن الله يتحدث إليه) وفى المزامير: (إن الرب سوف يسحق رءوس أعدائه). وللرئيس بوش كتاب صدر عام 2000 فى بداية الحملة الانتخابية للرئاسة الأولى بعنوان: (مهمة للأداء – لأحقق إرادة خالقى) قال فيه: إننى أبنى حياتى على أساس لا يتغير، فإيمانى يحررنى بحيث أضع مشاكل اللحظة فى منظورها الصحيح واتخذ قراراتى حتى ولو لم تعجب الآخرين، إيمانى يحررنى لأعمل الأشياء الصحيحة حتى ولو لم تعجب الناخبين)، وقال: (إن تعليمات الرب تلهمنى قراراتى المصيرية) وهذا ما جعل هيلارى كلينتون زوجة الرئيس السابق بيل كلينتون وعضو مجلس الشيوخ المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأمريكية العام المقبل تصف إدارة الرئيس بوش فى مقابلة مع صحيفة ايريس تايمز بقولها: (إن لدينا أيضًا حكومة رجال دين تتبع المرشد الأعلى) وذلك فى تعليقها على النظام السياسى فى إيران!
من الطقوس المعروفة فى البيت الأبيض أن الرئيس بوش فى اجتماعه اليومى مع مساعديه وبعض الوزراء يبدأ الاجتماع بالصلاة، ويلقى أحد الحاضرين دعاء من الأدعية التى تلقى فى المواعظ الكنسية بينما يخفض الحاضرون رءوسهم ويغلقون عيونهم ويقوم رامسفيلد حين كان وزيرًا للدفاع – بالتوسل إلى الله والجميع يرددون: آمين. وبعد استقالة رامسفيلد لا أعرف من الذى يتوسل إلى الله فى هذا الاجتماع اليومى. ولكى ندرك مدى صدق القول بأن الرئيس ينتظر الوحى ليرشده بما يفعل فى العراق وأفغانستان وإيران وسوريا وفلسطين والعالم كله نفهم مدى عمق تأثير الأصولية الدينية فى الإدارة الأمريكية الحالية ومدى عمق إيمان الرئيس بوش بأن الرب يخاطبه ويوحى إليه بما يفعل.. لذلك علينا أن ننتظر إلى أن ينزل الوحى لنعرف ماذا سيحدث للدول وللبشر فى الشرق الأوسط إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولاً وتنتهى ولاية (الرئيس المؤمن) آخر العام القادم
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف