هل يؤذن الملط فى مالطا؟!
إذا كانت الحكومة قد أنفقت فى سنة واحدة 61 مليار جنيه زيادة على حجم الإنفاق المقرر فى الميزانية.. إنفاق بلا موارد (!) وإذا كانت الديون الداخلية قد بلغت (511) مليار جنيه والديون الخارجية (29) مليار دولار تعادل (167) مليار جنيه أى أن مجموع الديون (668) مليار جنيه، وفوائد الديون المتأخرة على الحكومة لبنك الاستثمار (49) مليـار جنيـه، وفـوائد الدين الداخلى والخارجى (44) مليار جنيه سنويا، والزيادة فى الدين الداخلى تعادل أربعة أمثال معدل النمو الاقتصادى فى تلك السنـة وهـو 4.9%..
وإذا كانت هذه الديون تم انفاقها لسد العجز فى الموازنة ولم توجه للاستثمار والتنمية وإذا كان انفاق الحكومة زاد فى تلك السنة 13 مليار جنيه فى الحوافز والأجور والنفقات الجارية خارج بنود الميزانيـة. إذا كـانت هذه هى الصورة فماذا تنتظـر منـا الحكـومـة؟!
وماذا ننتظر نحن من الحكومة؟!
لقد نزلت هذه الحقائق على رؤوسنا كالمطارق حين فجرها تقرير الدكتور جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فى مجلس الشعب. والدكتور الملط.. كما أعرفه جيدا عن قرب منذ عشرات السنين- كان ولا يزال يزن كل كلمة بميزان دقيق، وينطق بضمير القاضى المحايد النزيه المعصوب العينين.. ولا يعرف فى الحق المجاملة ولا يخشى فيه لومة لائم. وقد قدم الدليل- بالأرقام والوثائق- على كل حكم أصدره.
كانت ملاحظات الدكتور الملط على أداء الحكومة كما يلى:
1- اتسعت الفجوة بين الإيرادات والمصروفات الحكومية.
2- لم تحقق الحكومة الإيرادات المستهدفة وبلغ النقص 17 مليار جنيه.
3- عملت الحكومة على زيادة الضرائب العامة.
4- زاد رصيد المتأخرات المستحقة للحكومة بنحو (78) مليار جنيه بينما كانت فى العام السابق (64) مليار جنيه.
5- حدث انخفاض فى الدين الخارجى تقابله زيادة كبيرة فى الدين الداخلى.
6- لم تحقق الحكومة ما وعدت به بالإسراع فى معدل النمو الاقتصادى. فقد بلغ معدل النمو الاقتصادى 4.9% وبعد خصم معدل الزيادة فى السكان (2%) يصبح صافى معدل النمو 2.9% فقط.
7- بلغ معدل البطالة 11.2% طبقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ومركز المعلومات فى مجلس الوزراء، أما بيانات وزارة المالية فتقول إن معدل البطالة 10.5%.
8- التضارب فى الأرقام والبيانات يظهر أيضا فى أرقام معدلات التضخم. الجهاز المركزى للإحصاء ذكر أن نسبة التضخم 11.4% ولكن وزارة التنمية الاقتصادية (الدكتور عثمان محمد عثمان) ذكرت أن النسبة 8.6%، ودخل البنك المركزى فى المناقصة فذكر فى تقريره أن نسبة التضخم 4.7%.
9- عدم الاستخدام الأمثل للقروض والمنح.
10- استخدام جانب كبير من أموال بعض الصناديق الخاصة فى الحفلات وتأثيث المكاتب والدعاية.
11- المصريون يستثمرون أموالا كثيرة فى الخارج حتى أن تدفقاتهم للخارج بلغت 42.7 مليون دولار فى سنة واحدة، مع انخفاض التدفقات الواردة إلى مصر للاستثمار المباشر للمصريين المقيمين بالخارج حيث بلغت 39 مليون دولار وكانت فى العام السابق 155.7 مليون دولار أى أن النقص 116.7 مليون دولار بنسبة 75%.
12- إن المهمة الأساسية للحكومة هى زيادة الاستثمارات فى مشروعات التنمية الاقتصادية لزيادة الدخل القومى وإيجاد فرص عمل ولكنها استثمرت 13% فقط من استخدام الموازنة فى مشروعات استثمارية، وقد تعثر وتأخر تنفيذ بعض مشروعات الخطة فى الجهاز الإدارى للدولة والإدارة المحلية والهيئات الخدمية والاقتصادية.
13- عدم كفاية دراسات الجدوى الاقتصادية لبعض المشروعات، وعدم كفاية أبحاث التربة ومواصفات الأساسات، وطرح مشروعات للتنفيذ قبل تدبير مواقع مناسبة لها، وعدم التزام المقاولين بمواعيد التنفيذ ومخالفتهم للمواصفات الفنية، وعدم كفاءة مقاولى الباطن، وكثرة التعديلات للأعمال بعد التنفيذ. وضعف الرقابة والمتابعة على التنفيذ.
14- عجز حساب تمويل مشروعات الإسكان الاقتصادى لمحدودى الدخل عن سداد القروض والفوائد لبنك الاستثمار.
هذه بعض جوانب الصورة العامة للحكومة بالأرقام الصادرة عن الحكومة. تخيل لو أن هذا التقرير ألقى فى مجلس العموم البريطانى، أو فى مجلس النواب الأمريكى، أو فى الكنيست الإسرائيلى، أو فى البرلمان الهندى، ماذا كان سيحدث؟ وما هو رد الفعل؟ وتخيل أن الحكومة استمعت إلى هذا التقرير وسط وجوم السادة أعضاء مجلس الشعب واكتقت بتعليق من الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية قال فيه إن تضارب الأرقام طبيعى جدا نتيجة اختلاف المفاهيم وإن زيادة العجز فى الميزانية وفى الديون لا تمثل مشكلة، ولو قامت الحكومة بسد العجز سوف يبيت جزء من الشعب بدون عشاء (!) وأن الحالة تحسنت فى السنة التالية، ومعنى كلامه بالبلدى (مفيش غير كده)
وكان تعليق رئيس مجلس الشعب الدكتور فتحى سرور: أنا لو مكان المستشار جودت الملط حا أقول ألعن مما قاله، كله إلا الموازنة والحساب الختامى. بينما كان تعليق النائب المخضرم عبد الرحيم الغول (الحزب الوطنى) إن الدكتور الملط بهذا التقرير يتدخل فى السياسة ويخرج عن نطاق اختصاصه(!)
وفى الصحافة القومية والحزبية ترددت أصداء الشعور بالقلق من عواقب استمرار الأحوال على ما هى عليه، وطالب البعض بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية، وطبعا لم يلتفت أحد إلى هذا المطلب، واكتفى البعض بمناشدة الحكومة بإجراءات جادة للإصلاح وتفادى ما ندعو الله ألا يحدث، وأظهر البعض شعوره بالإحباط وتوقع ألا تتحرك الحكومة ولن تغير سياساتها، حتى أن صحيفة الوفد قالت إن الملط يؤذن فى مالطا(!) وقال صديقى العزيز الشاعر الكبير فاروق جويدة فى مقاله بالأهرام (لا حياة لمن تنادى)، وأعتقد أن هذا القلق طبيعى بل ضرورى ولكن الإحباط لن يفيد، ولنعط الحكومة فرصة لإصلاح أخطائها وإلا..! ويدعونا إلى ذلك أن رئيس الوزراء اعترف بأن كل ما جاء فى التقرير صحيح.
صحيح أن تقرير الدكتور الملط كان عن السنة المالية 2004/2005 وليس عن السنة الحالية، لأن أوراق ومراجعات السنة السابقة لم تكتمل، وربما تكون الأرقام قد تغيرت إلى الأحسن أو الأسوأ. ولكن سياسات الحكومة وأداء الوزراء والوزارات لا يزال هذا العام كما كان فى العام الماضى والعام الأسبق، فالحكومة هى الحكومة.. تواجه بالعناد والمكابرة كل من يحاول توجيه كلمة نقد إليها، وتسعى إلى النيل منه بدلا من الحوار معه والرد عليه، وتكرر دائما أنها حكومة قوية جاءت برسالة واضحة ومحددة وتعمل على تنفيذها دون تردد، ولا يهمها النقد أو الاعتراض أو أن يكون الرأى العام راضيا أو ساخطا.. وما تكتبه الصحف من نقد وملاحظات لا يؤثـر فى أحــد من الســادة الــوزراء وعــبر عـن ذلك الدكتور يوسف بطرس غالى بأسلوبه الخاص فقال: أنا خــلاص جـــتتى نحســت.
يلاحظ صديقى فاروق جويدة أن التقرير لم يذكر شيئا عن أموال الخصخصة، وتجاهل بيع مشروعات القطاع العام من الشركات والبنوك والأراضى والعقارات ولم يبحث أين ذهبت هذه الأموال.. كم بلغ حجم هذه الأموال وما هى المجالات التى أنفقت فيها.. وتجاهل بيع القطاع العام وأصول الدولة المصرية بهذه الصورة غير جائز خاصة أن قصصا وحكايات حول هذه القضية ابتداء ببيع عمر أفندى وأرض ميدان التحرير وانتهاء ببيع بنك الإسكندرية وبقية البنوك المباعة ولم يذكر التقرير أيضا شيئا عن الالتزامات التى تحملتها الحكومة فى تسويات ديون رجال الأعمال مع البنوك أو إسقاط جزء من هذه الديون، أو فى حصة مصر فى البنوك الأجنبية إلا إذا اعتبرنا أن الحكومة تتعامل الآن بمنطق الجزر كما جاء فى تقرير الدكتور الملط. حيث توجد جزيرة للخصخصة، وجزيرة أخرى لتسويات البنوك، وثالثة للديون، ورابعة للأرقام المضروبة، وهكذا وصل فاروق جويدة إلى نتيجة أنه (لا حياة لمن تنادى)!
ولكنى أعتقد أنه لا شىء ينتهى إلى العدم، قد يبدو أن القضايا الساخنة تثير الرأى العام لفترة، ثم يبرد الموضوع ويغطى عليه موضوع آخر يشغل الرأى العام وهكذا، ولكن الذين يراهنون على ذلك يخطئون، لأن كل موضوع ينسحب من دائرة الاهتمام يترسب فى أعماق الشعور، وتتراكم الموضوعات، ثم يظهر رد الفعل فجأة وبشدة نتيجة تراكم طبقات من التوترات وقضايا لم تحسم وتركت على أمل النسيان.. لا أعتقد أن الدكتور الملط يؤذن فى مالطا، فإن تقريره هذا العام بما فيه من مخالفات وأخطاء الحكومة يضاف إلى تقريره الذى أعلنه العام الماضى عن ذات المخالفات والأخطاء، وليس من المعقول أن يتجاهل نواب الشعب تكرار نفس الملاحظات والأخطاء سنة بعد سنة، وليس معقولا أن تتجاهل ذلك الحكومة وتكون هذه هى صفحتها فى التاريخ والتاريخ لا ينسى ولا يتسامح ولا يغفر.. قد يؤجل الحساب ولكن هناك دائما يوم للحساب.
واعتقادى أن هذا التقرير- وتقارير الأعوام السابقة ستكون موضع دراسة فى مجلس الشعب وفى الحزب الوطنى والدكتور الملط ليس رئيسا لحزب من أحزاب المعارضة حتى يتصارع عليه أصحاب الصوت العالى، ولكنه رئيس لجهاز من أجهزة الدولة، ومهمته الأساسية هى الرقابة على التصرفات المالية لأجهزة الدولة، فإذا أدى واجبه فعلينا أن نشكره لا أن نقلل من قيمة جهده وجهد الجهاز الذى يرأسه، وهو رجل قانون مشهود له ممن يعرفون أقدار الرجال فليس من اللائق أن يقول له واحد من أعضاء مجلس الشعب إنه لا يعرف اختصاصه أو أنه تجاوز اختصاصه، بينما السيد العضو هو الذى لم يعرف اختصاصه ولم يمارس مهمة الرقابة التى أقسم على القيام بها باسم الشعب. وفى النهاية فإن هذا التقرير قدم صورة واقعية لا يكذب ولا يتجمل، والأجدى أن تشكل لجنة على أعلى مستوى لدراسته واتخاذ الإجراءات الحاسمة لعلاج الأخطاء التى أشار إليها.. هذا إذا كنا حريصين فعلا على الشفافية والإصلاح.