ذكريات عن البابا شنودة

ذكرياتى عن البابا شنودة كثيرة جداً منها ما رأيته ومنها ما سمعته، ومنها ما قرأته، فكل من اقترب منه لمس فيه جانباً من جوانب العظمة والإنسانية، ورأى ما كان عليه من الذكاء الحاد والذاكرة المذهلة والحب لكل إنسان.. وهذه بعض ذكرياتى وذكرياتهم.
عندما زار مصر بطريرك الأقباط الأرثوذكس فى روسيا دعانى البابا شنودة لحضور لقائهما مع المطارنة والأساقفة، ووجدت نفسى الوحيد الذى لا يرتدى رداء الرهبان، وسجلت الحوار الذى دار فى هذا اللقاء ونشرت جانباً منه فى الأهرام، ولن أنسى قول البطريرك الروسى بعد اللقاء: أن البابا شنودة جمع كل حكمة المصريين.
كان مهتما بلجنة المرأة فى الكاتدرائية وبدأ بعقد مؤتمر تأسيس لها وشكل 13 لجنة فرعية وظل حريصاً على حضور جلسات هذه اللجنة ومتابعة الأنشطة والخدمات التى تقدمها.. وهو أول بطريرك يعقد دورة دراسية لزوجات الكهنة ويضع برنامجا لتثقيفهن ثقافة دينية واجتماعية وتوعيتهن بدور زوجة الراهب فى مساندة زوجها ومساعدته فى تقديم الخدمات للمحتاجين، وشملت هذه الدورة محاضرات عن ثقافة الحوار، وكيفية التفكير العقلانى وتنشئة الأطفال على الفضيلة، والذهاب إلى الفقراء والمرضى دون انتظار قدومهم طلبا للمساعدة، ودراسة كل حالة دراسة دقيقة لتكون المساعدة فى محلها وعلى قدر الاحتياج.. كما كان يتابع أعمال لجنة البر التى تقدم مساعداتها المالية للمحتاجين ومساعدة من لا مسكن له فى الحصول على مسكن مناسب، ومساعدة المقبلين على الزواج. حدث مرة أن دخلت فتاة مخطوبة لتأخذ ما تقرر لها من احتياجاتها للجهاز، ولاحظ البابا شنودة أن معها أختها الأكبر منها ولم تتزوج فأعطاها مبلغاً وقال لها: لتشترى ملابس جديدة لحضور فرح أختك، واستعدى ليكون فرحك بعدها عن قريب.. وخرجت الفتاة وقد تبددت ملامح الحزن على وجهها. وقال هو لمن حوله: لاحظوا مشاعر كل واحد أمامكم وادخلوا السرور على قلبه.. وجاءت سيدة تطلب مساعدة للحصول على مسكن مناسب لأسرتها واستطاعت أن تجمع ألف جنيه وحصلت من الكنيسة التابعة لها على ألف جنيه وتحتاج إلى ألفى جنيه لاستكمال المبلغ المطلوب منها بناء على البحث الاجتماعى، وأعطاها البابا هذا المبلغ وحين أرادت الانصراف قال لها: انتظرى.. قولى لى من أين حصلت على الألف جنيه الأولى، فقالت:بعت «غوايش» كنت أملكها، فأعطاها ألف جنيه إضافية وقال لها: هاتى بها الغوايش، وقال للكهنة: هذه المصوغات بالنسبة للمرأة هى المدخرات لوقت الشدة، وفتاة  قالت إن ما ينقصها من الجهاز هو (قماش التنجيد) فسألها البابا:(وهل معك أجرة المنجد؟) وأعطاها ما يكفى لشراء القماش وأجرة المنجد.. وحين يحضر أمامه محتاج من خارج القاهرة يعطيه ما يكفيه ويعطيه أيضاً أجرة المواصلات.. وحين يعطى للفتاة الفقيرة المقدمة على الزواج ما تحتاج إليه يعطى أمها وأخواتها لشراء ملابس جديدة لفرح ابنتهم، ويقول للكهنة: مهمتنا إدخال الفرح إلى النفوس الكسيرة.
من يحب الله يحب الأطفال والفقراء والمرضى فيحبه الله.. هذه العبارة قالها لى البابا شنودة فى يوم الاحتفال بعيد الميلاد وقد اعتدت إلى الذهاب لتهنئته فى كل عيد واستمتع بحديثه وطرائفه، وحدث أنى ذهبت متأخراً فى هذا اليوم لعذر خاص فوجدت الضيوف قد انصرفوا والبابا واقف على الباب الخارجى ومعه سكرتيره الأنبا يؤنس وأمامه طابور طويل من الأطفال فى يده علبة شيكولاتة كبيرة يملأ كفه بالشيكولاتة ويعطيها لكل طفل، ومع الشيكولاتة يعطيه «العيدية» وبعد أن فرغ من إسعاد آخر طفل قال لى: ليس للعيد معنى إذا لم تجده فى ابتسامة طفل. وقالت لى سيدة إن ابنتها أصيبت فى حادث بكسور متعددة فى أنحاء جسدها وخضعت لعدة عمليات جراحية، وعندما شعرت أنها ستفقد ابنتها أو ستعيش معاقة تحدثت تليفونيا مع الأنبا يؤنس وطلبت أن يبلغ البابا حاجتها إلى أن يصلى من أجل إنقاذ حياة ابنتها، وبعد ساعات فوجئت بالبابا يزور ابنتها فى المستشفى ويقضى معها ساعات فى حديث روحى ومودة جعلتهم جميعا فىحالة معنوية مرتفعة وبالأمل تحسنت حالة ابنتها وبعد ذلك عاشت الأم فى خدمة المرضى الذين ليس لهم معين.
وقال لى الطبيب الخاص للبابا شنودة إنه مندهش لأن البابا يتابع بدقة الأبحاث الطبية الجديدة فى نقل الأعضاء، ووسائل تنظيم الأسرة وأطفال الأنابيب والتلقيح المجهرى وزرع الأجنة والهندسة الوراثية والاستنساخ، ويهتم اهتماما خاصا بمتابعة الأبحاث حول أضرار التدخين والمخدرات والمسكرات ويحذر منها فى عظاته ويذكر الحقائق العلمية عن أضرارها ولا يكتفى بالكلمات العامة، ولهذا كرمته نقابة الأطباء ومنحته درعها أكثر من مرة.
وكانت نصائحه للكهنة وللناس: لا تستطيع أن يكون لك تأثير على أحد إلا إذا كانت بينك وبينه محبة. ليس الإيمان عقيدة ونصوص تحفظها وترددها عن ظهر قلب.. الإيمان يقين وثقة بالله وترجمة الإيمان إلى عمل لله ولصالح الناس. الصغار أمانة فى أعناقنا وإن لم نستطع أن نغرس فيهم الخير فعلى الأقل لا نزرع فيهم الشر. من يلتزم بالحق يلتزم بالله، ومن يبعد عن الحق يبعد عن الله، ومن يخشى الله لا يخشى فى الحق لومة لائم. المحبة بدون عطاء هى محبة عاقرة، وهى زرع بلا ثمر. الذى يعرف أن حياته مكونة من دقائق وساعات وأيام وأسابيع وشهور وسنوات يجد نفسه حريصاً على استغلال كل دقيقة فى عمل فيه منفعة له أو لغيره، وبالتالى لا يمكن أن يشكو الفراغ أو يبحث عن وسيلة يقتل بها الوقت، ويدرك أنه بذلك يقتل عمره ويضيعه فيما لا يفيده مع الله ومع الناس. الألم يجعلك تقف على حقيقة الحياة وحقيقة نفسك وحقيقة الآخرين. الألم منحة من الله لكى تتذكره وتسعد بصحبته.. اجعل الله أمامك فى كل عمل تحقق فيه النجاح.. فإذا دخل الله فى عمل دخلت فيه القوة والبركة فاحذر من عمل ليس لله. من شروط المرافقة الموافقة ومن شروط المصالحة المصارحة، إذا ارتفع الصوت اعلم أن صاحبه غير واثق من نفسه ومما يقول. لا يجوز ممارسة فضيلة بالتضحية بفضيلة أخرى لأن الفضائل كيان واحد فالشجاعة ليست فضيلة إذا كانت بدون حكمة وملازمة للتهور.. الله يريد محبتنا له قبل طاعتنا ويريد الطاعة الصادرة عن الحب له.. الصوم الحقيقى هو التدريب على الصبر وضبط النفس طول السنة وطول العمر وليس فى أيام الصيام فقط. البعض يظن أن الإيمان والتمسك بالدين هما الكآبة بينما الدين فرح بالحياة مع الله.. المؤمن مبتسم دائما. فى الحياة مع الله لا يوجد مستحيل.
أليست هذه كلمات لا تصدر إلا ممن أوتى الحكمة وصفاء البصيرة؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف