دروس من طه حسين (2 - 2 )
مفاتيح شخصية طه حسين تتلخص فى: الصبر وقوة الإرادة، ولم يكن يعرف المستحيل كانت لديه نقاط الضعف التى تدفع غيره إلى اليأس والقبول بما يقدر عليه، لكنه كان يتحدى كل عقبة تعوق وصوله إلى الهدف الذى حدده.
و كانت حياته مليئة بالمحن من الطفولة وحتى آخر العمر حتى إنه كتب عن نفسه يقول إنه كان يحمل فى داخله ينبوعا من ينابيع الشقاء لا ينضب إلا يوم ينضب ينبوع حياته وكان أول ينبوع للشقاء هو فقدانه البصر الذى حرمه حتى من رؤية زوجته وابنته وابنه، ولم يكن سهلا عليه عندما كانت ابنته أمينة فى التاسعة من عمرها وجلست على ركبتيه وهو يحكى لها قصة أوديب ملكا وعندما وصل إلى اللحظة التى فقأ فيها أوديب عينيه وتقدمت ابنته انتجون لتقوده، أجهشت أمينة بالبكاء وظلت تقبل أباها فأدرك أن ابنته هى الأخرى تتألم لأنه مثل أوديب لا يستطيع أن يهتدى وحده، ووجد ألمه يتضاعف ولم يستطع أن يمنع دموعه من أن تتساقط.
كان الشقاء يلازمه فى كل وقت وفى كل مكان لأنه لم يكن يستطيع أن يأكل ما يحب أن يأكله مما على المائدة، ويأكل فقط ما يعرف كيف يأكله وما يستطيع الوصول اليه ويقوم دون أن يشبع لعجزه عن الوصول إلى ما يريد. وكان يتمثل دائما قول الشاعر الضرير أبى العلاء المعرى «إن العمى عورة» وازدادت ينابيع شقائه فى باريس قبل أن يتعرف على زوجته سوزان لأنه يسمع عن المسارح وقاعات الموسيقى ولا يستطيع الذهاب اليها. لكن ينبوع الشقاء الذى ظل يتفجر طول حياته ويذكره فى كل مناسبة فهو يوم أخذه شقيقه لأداء امتحان القبول فى الأزهر فبقى جالسًا مهملًا إلى أن انتهت اللجنة من امتحان كل المتقدمين ثم ناداه أحدهم: تعال يا أعمى! وبعد أن امتحنه قال له: انصرف يا أعمى! وتكرر هذا الموقف عندما دخل لأول مرة قاعة الدرس فى فرنسا فاذا بالاستاذ يقول: هل زميلكم هذا أعمى فقد دخل دون أن يخلع القبعة، ولم يكن طه حسين قد تعلم أن يخلع قبعته كلما دخل مكانا.
***
الطموح كان من السمات الواضحة فى شخصية طه حسين، الطموح جعله يبحث عن تعليم أفضل مما كان يتعلمه فى الأزهر حيث يقضى أياما يستمع إلى شرح الأوجه التسعة لقراءة « بسم الله الرحمن الرحيم» وإعرابها من شيخ سريع الغضب إذا سأله أحد التلاميذ سؤالًا وألح عليه يوجه إليه لكمة فى صدره وإذا كان التلميذ بعيدًا يرميه بالحذاء.
والطموح هو الذى جعله يتحمل الإقامة فى حجرة فى ربع قديم مع شقيقه الأزهرى الذى كان يتركه وحده فى ركن من الحجرة ويذهب هو إلى زملائه، والطموح هو الذى جعله يبحث عن دار الكتب ويذهب اليها ليقضى مع أحد زملائه ليقرأ معه الكتب التى يحبها.
***
الصبر أيضًا من أهم سمات شخصية طه حسين.. لم يكن سهلًا أن يجلس فى الظلام حين يحل عليه الليل وهو مكور فى ركن من الحجرة ولا أحد معه ليضىء له المصباح، والمبصرون يظنون أنه لا حاجة للأعمى فى المصباح، ولا يعرفون أن الأعمى يجد للظلمة صوتا يشبه طفيف البعوض، ويتحمل طه حسين وهو يخفى رأسه بين يديه حين تفزعه أصوات الحشرات فى الحجرة القديمة وتملأ قلبه رعبًا.
ولا شك أن الطموح هو الذى جعل طه حسين يذهب إلى دروس الأزهر ثم يذهب إلى دار الكتب، ويذهب أيضًا إلى مدرسة الدعوة والإرشاد التى أنشأها الشيخ رشيد رضا تلميذ محمد عبده لإعداد طلبة الأزهر للدعوة. مع أن شيوخ الأزهر كانوا يهاجمون فكر محمد عبده ومدرسة رشيد رضا، والشجاعة فى ابداء الرأى هى التى جعلته فى مرحلة مبكرة من عمره يتردد على الصحف ويتعرف على أصحابها ويكتب مقالات حادة فى الهجوم على طريقة التدريس العقيمة فى الأزهر، حتى صار وهو فى مقتبل العمر من كتاب صحيفة (العلم) التى كان يصدرها عبد العزيز جاويش، وتدور مقالاته حول حرية الرأى وإصلاح مناهج التعليم فى الأزهر مما جعل شيخ الأزهر( الشيخ حسونة النواوى) يهدد بفصله من الأزهر.
***
حياة طه حسين تعلمنا كيف يكون الانسان ولا ينهار أمام الكوارث مهما بلغت وكيف يكون صامدا أمام المصاعب ويتحدى الصعاب ويبحث عن مخرج من كل أزمة، فعندما اشتدت الحرب العالمية الأولى واستدعته الجامعة من فرنسا بعد عام واحد من الدراسة هناك عاد ليكتب إلى مدير الجامعة يطلب منه أن يقبله لتدريس الأدب العربى بدون أجر إلى أن تنتهى الحرب، وقبل مجلس الجامعة طلبه وقرر له مكافأة خمسة جنيهات فى الشهر وهذه الصلابة والقدرة على تحدى الصعاب نلمسها بعد هدوء الأحوال فى فرنسا وعودته اليها مع شقيقه ليساعده لكن شقيقه تركه وانصرف إلى ملاهى باريس واشتد الخلاف بينهما حتى اضطر كل واحد منهما لأن يسكن فى بيت وحده، وتحمل طه حسين العذاب إلى أن وجد سيدة ترافقه إلى السوربون مقابل أجر كان يقتطعه من طعامه!
ولا يعرف المبصرون ما كان يشعر به الشاب الأعمى وهو فى باريس يستمع إلى أحاديث وخلافات زملائه بسبب التنافس على الفتيات وهو لا يرى وجوه هؤلاء الفتيات ولا يعرف كيف يتحدث اليهن عندما يلتقى بواحدة منهن، ويقضى ساعات طويلة وحده لا يؤنسه إلا (صوت الصمت) ويعانى من ضيق ذات اليد، ويعانى أكثر فى تعلم اللغتين الفرنسية واللاتينية، ومع ذلك يصمم على أن يكون أول طالب مصرى يحصل على الليسانس وهى الدرجة التى يحصل عليها الطالب الفرنسى الذى تعلم وفقا للمناهج الفرنسية فى كل مراحله.
***
ونرى طه حسين يتعلم من أخطائه ويعترف بها، ولا يلجأ إلى المكابرة كغيره، وحين شارك الطلبة وهو فى الجامعة فى مصر الإضراب عن حضور محاضرات الاستاذ (نالينو) الإيطالى احتجاجا على إعلان إيطاليا الحرب على تركيا، وقال لهم الاستاذ: مثلكم مثل رجل أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه.. وبعد ذلك لم يفكر طه حسين فى الإضراب عن الدروس مهما تكن الظروف وفعل زملاؤه ذلك أيضا.
هذا هو الدرس.. إضراب الطالب عن الدراسة هو نوع من إيذاء النفس وحرمانها من الاستفادة بالعلم، ولن يخسر أحد من الأحزاب إلا الطالب نفسه.
ومن أهم ما يميز طه حسين (الصراحة) فهو يعلن رأيه بصوت مسموع وبكلمات واضحة ومباشرة مهما تحمل من متاعب، ولقد تحمل الكثير من المتاعب بسبب هذه الصراحة، وهو يقول: إنى أرى أن من يلتمس السلامة والهدوء يعيش حياة عقيمة بلا جدال ولا حوار..
طه حسين مثل كل العظماء فى التاريخ تلهمنا سيرتهم معنى جديدًا للحياة وقوة جديدة للانتصار على ما فيها من الآلام والهزائم.