كوميديا سوداء فى مكتب بريد
المشهد: مكتب بريد فى القاهرة بعد تجديده وتعليق لافتة كبيرة تعلن عن عهد جديد. وبعد حملة إعلانات مدفوعة عن تطوير الخدمة فى مكاتب البريد وإغراء المواطنين بإيداع أموالهم فى دفاتر التوفير حيث أعلى سعر للفائدة وسهولة الإيداع والسحب بدون حد أقصى.. وبعد تدريب الموظفين والموظفات على الابتسامة فى وجه العملاء بمناسبة وبدون مناسبة تنفيذا لتوجيهات وزير الإدارة المحلية.
الوقت: قبل الظهر بقليل.
سيدة تدخل المكتب- تقف أمام الشباك بأدب شديد. الموظفة مشغولة فى حديث مع زميلتها على الشباك المجاور. الحديث عن شقاوة الأولاد ومتاعبهم وهروب الزوج من تحمل المسئولية عن أبنائه.
بعد انتهاء الفضفضة فى أوقات العمل الرسمية تمد الموظفة يدها لتأخذ دفتر توفير من يد السيدة وتفتحه وعلى وجهها ملامح الزهق. السيدة تطلب سحب مبلغ، وتسأل بأدب شديد:
هل نحتاج إلى كتابة طلب بالمبلغ واسحبه غدا؟
الموظفة لا ترد، إنما تلتفت خلفها وتصيح:
المدام عاوزة تسحب كذا ألف جنيه.. فيه فلوس؟
موظف آخر يجلس على مكتب بعيد يبدو زهقان من عيشته، يدخن سيجارة أوشكت على الانتهاء وأمامه كوب شاى نصفه ملىء ونصفه الآخر فارغ طبعا. يجيب بقرف:
أيوه.. ماشى.
الموظفة تسجل فى الدفتر المبلغ المسحوب، وتسجله أيضا على كارت، وتكتب إيصالا توقع عليه السيدة بالاستلام.
يدخل رجل بدين يلبس جلبابا يبدو أنه ظل يلبسه شهورا، وفى يده لفة كبيرة يفردها ويطلب من الموظفة إيداعه فى دفتر توفيره.
متجاهلا السيدة التى تنتظر الانتهاء من استلام نقودها. تنسى- أو تتجاهل- الموظفة السيدة الواقفة أمامها التى وقعّت على استلام المبلغ، وتنشغل بعد المبلغ الكبير الذى حمله الرجل الذى يبدو أن له أهمية خاصة فى المكتب.. تعد المبلغ ثلاث مرات، ثم تسلمه إلى الموظف الجالس بعيدا، ومن الواضح أن رئيس المكتب يقوم هو الآخر بعد المبلغ ثلاث مرات، ثم يضعه فى خزانة بجانبه ويصيح:
تمام.
تستغرق إجراءات استلام النقود من الرجل البدين وعدها وتسجيلها فى الدفتر والكارت حوالى ربع ساعة، وينصرف بعد السلام على كل موظف وموظفة فى المكتب، ويودع بالحفاوة التى استقبلوه بها. السيدة تحاول بإيماءة مهذبة أن تلفت نظر الموظفة إلى أنها مازالت واقفة. تحيلها الموظفة إلى الأستاذ فلان رئيس المكتب. تدخل السيدة وتقف أمام الأستاذ فلان فتجد ثلاثة رجال يزاحمونها وكل واحد منهم ينافس الآخرين فى تملق سيادته والرجاء بأن يصرف لهم مبالغ من دفاترهم ورئيس المكتب يقول لهم:
مفيش فلوس النهاردة.. هو كل واحد عاوز فلوس يأخذها فى نفس اليوم.. كلكم مستعجلين.. الصبر يا ناس.. تعالوا بكرة.
أحد الواقفين يقول بصوت أقرب إلى التوسل:
عشان خاطرى يا أستاذ فلان.. أنا عندى ظروف.. طب ادينى 6 آلاف دلوقت أمشى حالى.
خلاص، قلت بكرة.
دا أنا بقى لى ثلاث أيام باجى وتقول لى بكرة.
طيب تعالى كمان 3 أيام.
يبدو على المواطن الاستسلام فيقول بصوت منخفض:
طيب.. حاضر.. آجى كمان 3 أيام وتدينى 12 ألفا؟
ربنا يسهل.
يلتفت رئيس المكتب إلى السيدة الواقفة بأدب أمامه دون أن تنطق:
نعم..؟
الفلوس.
اللى أنا طلبتها؟
مفيش فلوس.. تعالى بكره.
دا أنا خلاص انهيت الإجراءات ومضيت بالاستلام.. وحضرتك قلت للمدام إن فيه فلوس.
لا.. مفيش فلوس.. خد يا ابنى الدفتر إلغى المعاملة.. اتفضلى يا ست معاه يلغى لك المعاملة!
مفيش فلوس إزاى.. أنا شايفة واحد أودع مبلغا كبيرا..
الله.. هو كل واحد يطلب فلوس ياخدها.. مفيش فلوس النهاردة.
لو حضرتك فتحت الخزنة دى تلاقى فيها الفلوس.
ناقص تقعدى مكانى!
حضرتك.. ما يصحش كدة.. دا أن باطلب فلوسى.. أنا أودعت الفلوس، ومن حقى أسحب أى مبلغ فى أى وقت زى ما بيقولوا فى التليفزيون.
روحى للتليفزيون!
حضرتك.. من فضلك.. أنا ممكن آجى بكره لو مفيش فلوس فى الخزنة.. لكن أنا شايفة الفلوس.
جرى إيه يا مدام.. أنت حتحاسبينى.. روحى اشتكينى.
لا مش حاشتكى ولا حاجة.. بس دول بيقولوا فى الإعلانات عن حسن معاملة الجمهور فى المكاتب.
احنا بنعامل الجمهور أحسن معاملة.
إحنا مش جمهور.. إحنا عملاء.. العميل له حق.. واللى له حق ياخده.
أنا مش فاضى.. خلاص.. الدفتر أهه.. لغينا المعاملة وإيصال التوقيع..
تفتح السيدة تليفونها المحمول وتتحدث فيه همسا.
بعد دقائق يصل رجل تبدو عليه الثقة والشرر يتطاير من عينيه.
إيه.. فيه إيه.. فين رئيس المكتب ده؟
رئيس المكتب ينظر إلى الرجل بقلق، ويرد بصوت متخاذل:
مفيش حاجة يا سعادة البيه.. الست عاوزة تسحب.. واحنا تحت أمرها.
يفتح الخزانة تظهر أكوام من الأوراق المالية من فئات مختلفة. يعد المبلغ المطلوب مرة واحدة بسرعة البرق. يسلمه للسيدة. ويصيح:
يا مدام.. خلصى إجراءات السحب بسرعة.
الموظفة تنهى الإجراءات. والسيدة تضع الفلوس فى حقيبة يدها. ويخرج الرجل الغامض بسرعة. رئيس المكتب يخرج من مكتبه ليلحق به وهو يهمس:
والله أحنا بنعامل الجمهور أحسن معاملة.. وهو بس سوء تفاهم بسيط.
السيدة تسأل أقرب موظفة:
هو الأستاذ ده اسمه إيه؟
تنظر إليها الموظفة بعيون زائغة ولا ترد.
أحد الواقفين يقول:
آهو كل يوم من ده.. خناقات ومشاكل.. ناس عاوزة فلوسها.. فى الإيداع ياخذوا الفلوس هوا.. فى السحب يدوخوا الناس.. قدمى شكوى يا مدام.. خللى البيه بتاعك ياخد إجراء.
السيدة تكلم نفسها وهى تغادر المكتب:
هو كمان الواحد علشان فلوسه لازم يجيب معاه حد مهم.
رئيس المكتب ظل واقفا فى الخارج يودع سعادة البيه حتى ركب سيارته (فور باى فور) وانطلق مع السيدة.
الزحام فى المكتب ازداد الجميع يتابعون المشهد.. وعلى وجوههم علامات التشفى.
ملحوظة: رئيس المكتب نسى من اللخمة أن يغلق الخزانة قبل خروجه لاسترضاء سعادة البيه.
ملحوظة ثانية: هذه ليست شكوى. ولن أرد على من يطلب منى أن أذكر له اسم رئيس المكتب. وعلى جيش المفتشين فى هيئة البريد أن يتابعوا ويتعرفوا على العقد النفسية التى تحكم تصرفات بعض الموظفين. والمشهد مجرد نموذج أهديه إلى الحكومة الإلكترونية!