شباب العشوائيات.. وشباب مصر الجديدة!
الفرق بين شباب العشوائيات وشباب مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتى كالفرق بين السماء والأرض. شباب لديه كل ما يتمنى وأكثر، وشباب محروم مــن كل ما يتمنى.. شباب الأحياء الراقية نعرف عنه الكثير.. نراه فى المحلات الراقية ودور السينما والملاهى والمطاعم الفاخرة.. يدخن السجاير المستوردة وربما يدخن أشياء أخرى.. ويجد الفرصة للهو البرىء وغير البرىء.. وشباب لا نعرف عنه شيئًا لأنه يعيش فى العشش والحارات الضيقة المظلمة، ولا يجد الفرصة للظهور للتعبير عن مشاكله.. وحتى لو حاول ذلك فلن يجد من يستمع إليه. وأخيرًا وجد من يهتم به ويقدم لنا بحثًأ كاملاً شاملاً عن أحواله فنعرف- لأول مرة- ملامح شخصية هذا الشاب العشوائى المجهول والظروف التى يعيش فيها والتى لا تجد من يريد أن يعرفها أو يعترف بها.
الدكتورة سعاد عبد الرحيم خبير أول فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية خصصت بحثها عن مشكلات الشباب فى المناطق العشوائية واختارت التركيز على ثلاث مناطق هى منشأة ناصر، وعشش الشرابية، ومنطقة الحوتية. تبين أن المشكلة الأولى التى يعانى منها شباب الحوتية هى مشكلة البطالة وبنسبة 49%، وهم شباب بين 15 و35 سنة أى فى سن العمل، وترتب على هذه المشكلة مشكلة ثانية هى عدم القدرة على الزواج، وذلك ما يدفعهم إلى التمرد والثورة على المجتمع والسخط على كل من يحيطون بهم. والمشكلة الثالثة هى المشاجرات التى تحدث بين هؤلاء الشباب وبعضهم ويستخدمون فيها العنف والألفاظ الخارجة، وكثيرًا ما تحدث مشاجرات بين شباب الحوتية وطلاب المدارس المجاورة الذين هم فى مثل أعمارهم. لأن أبناء المدارس ينظرون إلى شباب العشوائيات نظرة متدنية ويرون أنهم أقل منهم- وهم من ذوى المستوى الاقتصادى والاجتماعى الأفضل نسبيًا لأنهم غالبًا من أبناء الطبقة المتوسطة. والنتيجة أن العلاقة بين شباب الأحياء المجاورة لهذا الحى العشوائى علاقة متوترة تسودها الكراهية والرغبة فى العدوان. والمشكلة الرابعة هى مشكلة معاكسة شباب الحى العشوائى لفتيات الأحياء المجاورة ولأية فتيات فى الشوارع، وذلك نتيجة للفراغ الذى يعانون منه، وتسكعهم على النواصى وأمام المقاهى وبداخلها. وأخيرًا المشكلة الكبرى وهى الاتجار فى المخدرات، أو بمعنى أدق توزيع المخدرات بحثًا عن كسب المال ليعيشوا ويدبروا احتياجاتهم المشروعة وغير المشروعة.
هكذا يعيش شباب الحوتية والتفاصيل كثيرة ولكنها لا تسر.. أما منشأة ناصر فهى منطقة عشوائية من نوع مختلف لأنها تمثل نموذجًا لوضع اليد والتعدى على أملاك الدولة، ويظهر لنا من البحث أن قائمة المشاكل التى يعانى منها شباب هذه المنطقة كما يلى:
- عدم الاستمرار فى التعليم وبخاصة فى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و22 عامًا، 75% منهم انقطعوا عن التعليم وحاولوا النزول إلى سوق العمل تحت ضغط الحاجة، وتسبب ذلك فى معاناة بعض الشباب من مشاكل نفسية واجتماعية لأنهم كانوا يرغبون فى مواصلة التعليم ويرون فى أنفسهم القدرة على التفوق وتخطى حاجز الفقر إذا استمروا فى التعليم، وهؤلاء يعبرون عن شعورهم بالسخط والإحباط بصور مختلفة.
- وجود نسبة من نساء الحى مطلقات وأرامل وتزيد فى هذا الحى نسبة الأسر التى تعولها النساء وليس أمامهن فرص للعمل سوى العمل فى خدمة البيوت أو فى بيع سلع تافه (مناديل ورق، وكبريت، وأمشاط.. وهكذا).
- مشكلة البطالة هى المشكلة الكبرى فى منطقة الحوتية ونسبتها 57% وبالإضافة إلى وجود مشكلة العاطلين توجد مشكلة الزرائب التى يعيش فيها جامعوا القمامة. ومعظم شباب المنطقة يعملون فيها.
- تنتشر فى هذه المنطقة البلطجة والمشاجرات، ويشكو الأهالى من عدم وجود خدمات أمنية.
- وتنتشر أيضًا المخدرات المختلفة والكحوليات.
وحين يصف البحث المنطقة العشوائية الثالثة وهى منطقة عشش الشرابية يصف مساكنها بأنها تعتبر مساكن جوازًا لأنها لا تصلح للسكن الآدمى، فهى عبارة عن أكواخ وعشش يقطنها فقراء ويستخدمون الصفيح والخيش والكرتون والطين والخشب الحبيبى والجريد لإعدادها، وهذه الأكواخ على جوانب الترع والمصارف وبجوار المساجد وبمحاذاة السكك الحديدية، وبعضها ليست له أبواب وجميعها بدون مياه نقية ولا صرف صحى ولا كهرباء. وفى التصنيف الاجتماعى لسكان هذه العشش تم تقسيمهم إلى أربعة أنماط، النمط الأول يشمل الكسالى والفقراء المستسلمين المتوافقين مع حالتهم والمنبوذين اجتماعيًا وأصحاب الأعمال التافهة.
والنمط الثانى يشمل أصحاب الاحتياج المؤقت للإقامة داخل العشش دون توافق أو شعور بالرضا. كما يشمل أيضًا سكان المنطقة الأصليين الذين يعيشون فى بيوت ووجدوا أنفسهم وسط هذه العشش ومحاطين بها.
والنمط الثالث هم أصحاب المنفعة الدائمة فى الإقامة فى هذه الفوضى السكنية البعيدة عن عيون الدولة، فهم إما هاربون من تنفيذ أحكام قضائية، أو متشردون، أو باعة جائلون، أوإرهابيون!
أما النمط الرابع من سكان الحى فهم المهاجرون من مناطق الفقر فى أنحاء البلاد على أمل العثور على لقمة العيش فى العاصمة، وبعضهم من أصحاب الأعمال الصغيرة والباعة السريحة.
ليست هذه هى المناطق العشوائية الوحيدة فى داخل القاهرة، أو فى داخل البلاد فهناك الكثير من أمثالها. وهذا البحث يشمل أربعة تجمعات للعشش غيرها فى منطقة الشرابية هى: عشش مظلوم القديمة، وعشش مظلوم الجديدة، وعشش بجوار سور الصحة، وعشش بجوار مستشفى جيهان. ويكشف لنا البحث أن سكان عشش الشرابية يفتقدون أبسط الاحتياجات الأساسية للإنسان ومع هذا المجتمع يمثل الشباب فيه الأغلبية إلا أنهم تنتشر بينهم الأمية – ذكورًا وإناثًا – وتنتشر البطالة. ومن يعمل منهم لا يجد إلا أعمالاً مؤقتة لا تحتاج إلى خبرة أو مهارة. نسبة الأمية 54% من سكان هذه المنطقة.. وتعمل النساء والبنات فى بيع الخضراوات والمأكولات المطبوخة.. وكثير من شباب المنطقة يحلم بالهجرة المشروعة أو غير المشروعة، ولكنه لا يملك المال اللازم لذلك. نسبة كبيرة من الأسر تعولها نساء يحصلن على دخل ضئيل من أعمال تافهة مثل جمع الزبالة وفرزها ووضعها فى أكياس وبيعها لشركات متخصصة مقابل عشرة قروش للكيلو، وبعضهن يعملن فى تعبئة الملح، أو تعبئة البوتاس فى أكياس وبيعها بسعر رخيص فى المناطق المجاورة، والفتيات يعملن إما فى الخدمة فى البيوت وإما فى بيع البقالة والحلوى وإما فى ممارسة أعمال غير مشروعة!
يشعر شباب العشوائيات فى الشرابية بالدونية وهذا أمر طبيعى، فهم يعيشون فى عشش محرومة من المياه والعرف الصحى وفى بعضها كهرباء مسروقة من الشارع، والعشش مكونة من الخشب والباب الذى يحمى المسكن يكشف بداخله أكثر مما يستر، والأسقف بالخشب أو الصاج مما لا يمنع شمس الصيف أو مطر الشتاء، إضافة إلى تكدس السكان حيث يعيش فى الحجرة الواحدة عدد يتراوح بين أربعة إلى ستة أفراد فى المتوسط، والمساحة غالبًا متر فى مترين لا أكثر! ويترتب على هذا التكدس مشاكل اجتماعية نتيجة التزاحم واختلاط الجنسين بلا خصوصية مما يولد انحرافات تكون ظروف المكان هى المسئولة عنها بالدرجة الأولى.. وفى هذا الحى تنتشر السرقات والبلطجة، وقد اعترف بذلك الشباب وبرروا لجوءهم إلى السرقة باحتياجهم إلى الطعام، وقالوا ذلك دون أن يشعروا بأى نوع من الخجل أو العار أو حتى الحرام، وبعضهم قال إنه متخصص فى السرقة من خارج المنطقة، وبعضهم يستخدم السنج والمطاوى فى السرقة بالاكراه فى الطريق العام أثناء الليل.. ويضاف إلى ذلك انتشار تعاطى وتجارة المخدرات (الحبوب المخدرة والبانجو وحقن الماكستون فورت وشم البنزين والكلا، وتناول أدوية الكحة والكحول الأحمر، كذلك ينتشر بين شباب هذه المنطقة لعب القمار ويتسبب ذلك فى مشاجرات عنيفة بينهم.. وليس غريبًا أن يكتشف البحث أن انتشار البلطجة والمشاجرات بين الشبان والفتيات تؤدى إلى القتل أو إحداث العاهات المستديمة فى بعض الحالات.
وقد ذكر أحد الشباب للباحثة أن شقيقه قتله شقيق زوجته وهو تحت تأثير المخدر (الخناقة كانت هزاراً قلبت بجد بسبب البانجو. أخو مراتى ما حسش بنفسه غير وهو ضارب أخويا بالمطوة فى قلبه مع إنهم كانوا أصحاب). والمشاجرات بين النساء والفتيات تحدث بسبب تكدسهن خارج العشش لممارسة أعمالهن المنزلية- لضيق المسكن- فيثور النزاع على استخدام المكان لغسل الملابس أو نشرها أو طبخ الطعام أو بسبب لعب الأطفال وما يسببونه من مشاجرات.. وتستخدم النساء الألفاظ الجارحة فى المشاجرات ولا مانع من استخدام زجاجات مكسورة وغيرها مما يؤدى إلى إحداث إصابات بالجسم أو الوجه تبدو آثارها عليهن!
من المشكلات التى يسجلها البحث اعتداء شباب الحى على نساء وفتيات الحى والمعاكسات المستمرة لنساء وفتيات المناطق المجاورة، ولذلك يضطر الأهالى إلى الوقوف أمام أبواب الحمام المشترك إلى حين خروج نسائهن وبناتهن. ويلجأ بعض الشباب إلى قطع أسلاك الكهرباء فيعم الظلام ليلاً ويقوم بما يريد من سرقات واعتداءات على النساء.. وبعض الشباب يفرض اتاوة على السكان..
شباب الشرابية عبروا عن شعورهم بأن المسئولين يضطهدونهم، وأن الشرطة تسىء معاملتهم، وكثير منهم مسجل خطر وتم حبسه فى قضايا متعدة وأفرج عنهم وهم تحت الملاحظة والمراقبة، وقال بعضهم إنهم يريدون التوبة ولكن لا يجدون الفرصة لحياة نظيفة وعمل شريف.
بحث الدكتورة سعاد عبد الرحيم فيه الكثير من التفاصيل والقصص عن حياة قطاع من الشباب يعيش فى ظروف لا يصدقها عقل ولا يتصور أحد أن يتحملها بشر.. هذا على الرغم من الجهد الكبير الذى بذلته الدولة لتحسين أوضاع سكان العشوائيات وتخصيص مئات الملايين من الجنيهات لذلك.. ولكن يبدو أن المشكلة أكبر مما نتصور، ولذلك تحتاج إلى حشد جهود المجتمع كله.. الحكومة ورجال الأعمال والجمعيات الخيرية والاجتماعية وصناديق الزكاة.. لأن هذه العشوائيات المنتشرة فى القاهرة والمحافظات يمكن أن تتحول إلى بؤر للجريمة والإرهاب.
الجميع يعلمون كيف يعيش شباب الأحياء الراقية والمتوسطة.. ولكن من يستطيع أن يقضى يومًا مع شباب حى من هذه الأحياء العشوائية الذين يعيشون على هامش المدينة وبعيدًا عن العيون.. وعن القلوب؟!