لقاءات.. ومباحثات.. وتصريحات.. ووعود.. وخلاص!
لا أظن أن زيارات وتحركات وتصريحات ومباحثات وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس سوف تحقق شيئا ملموسا على الأرض، وكذلك لقاءات رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس.. كل ما فى الأمر أن شاشات التليفزيون والصفحات الأولى للصحف العربية سوف تمتلىء بصور وتصريحات وتعليقات متفائلة عن استراتيجية أمريكية جديدة لحل الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية وبدء إقامة الدولة الفلسطينية وتنفيذ رؤية الرئيس الأمريكى بوش والمبادرة العربية للسلام.. وبعد أسابيع تهدأ الساحة ونعود إلى نقطة الصفر.
لذلك لم يعد المواطن المصرى والفلسطينى والعربى عموما.. يولى اهتماما لهذه التحركات والزيارات. جاء الأمين العام الجديد للأمم المتحدة وتحدث منذ أيام عن إقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء معاناة وعذاب الشعب الفلسطينى ولم يكن فى كلامه كلمة واحدة جديدة ولكن تكرارا لما سبق أن قاله جميع أمناء الأمم المتحدة السابقين.. وجاء المنسق الأعلى للسياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى وكرر ما سبق أن قاله هو ومن سبقه على مدى عشر سنوات..
وجاء وزراء خارجية دول أوروبية.. ومساعدو وزيرة الخارجية الأمريكية.. وعقد الرئيس الأمريكى عدة اجتماعات صدرت بعدها عدة تصريحات عن استراتيجية جديدة وبدء تحرك أمريكى جديد.. واجتمع وزراء خارجية الدول العربية مع وزيرة الخارجية الأمريكية تحت شمس أسوان وفى فندق كتراكت، المزدحم بصور زعماء العالم السابقين والحاليين الذين نزلوا فيه وكررت أحاديثها التى حفظناها.. بل وصدرت تصريحات من وزراء الخارجية العرب تحمل التفاؤل وتبشر بقرب الانفراج على يد الإدارة الأمريكية الحالية التى يقال إنها أدركت أخيرا أن الكراهية السائدة فى المنطقة العربية لأمريكا وسياستها ترجع فى الأساس إلى مراوغات السياسة الأمريكية وعدائها للعرب وتجاهلها لقضاياهم وحقوقهم وانحيازها لإسرائيل وتأييدها لكل اعتداءاتها على الشعب الفلسطينى التى وصلت إلى حد فاق الممارسات الوحشية للنظام العنصرى فى جنوب أفريقيا.
الإدارة الأمريكية تبيع الوهم للعرب لكى تحصل منهم على مزيد من التنازلات التى تطلبها إسرائيل، ولكى تحصل على مساعدتهم لها فى الخروج من الورطة التى حشرت نفسها فيها فى العراق، وتريد أن يعطى العرب كل شىء أولا وبعد ذلك تعطيهم ظهرها كالعادة وتلحس وعودها، وما أكثر الوعود التى لحستها الإدارة الأمريكية الحالية والإدارات السابقة، والسجل موجود والعرب ربما فقدوا الذاكرة فى مرحلة من المراحل ولكن ذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة الحكام.. وكل الجرائم وكل الوعود لا يمكن نسيانها.. ولهذا حان الوقت لكى يقول العرب للإدارة الأمريكية، ولإسرائيل: كفى مناورة ومداورة.. توقفوا عن هذا التلاعب بمصائر وحقوق ومصالح الشعوب العربية.. حددوا مواقفكم بالأعمال وليس بالأقوال: هل أنتم أصدقاء حقا؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل تريدون السلام والعدل حقا؟ وما برهانكم على ذلك؟
وحتى لو كان العرب قد فقدوا الذاكرة فلم يمض وقت لينسوا ما قالته كوندوليزا رايس فى مؤتمرها الصحفى الأخير مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبى ليفنى حين طالبت الدول العربية بتسريع عملية المصالحة مع إسرائيل تحدثت عن المصالحة ولم تتحدث عن انسحاب الاحتلال الإسرائيلى،ولا عن إقامة الدولة الفلسطينية، ولا عن إنهاء الحصار، ولا عن جدار الفصل العنصرى الذى جعل شعبا بأكمله يعيش فى سجن تحت الحصار الاقتصادى والعسكرى.
ودعوة كوندوليزا رايس للعرب لمصالحة إسرائيل دون حل القضية كان تكرارا لما قالته وزيرة الخارجية الإسرائيلية فى نفس المؤتمر الصحفى. فقد طالبت القادة العرب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون أن ينتظروا إبرام اتفاق سلام هكذا بعد ما يقرب من ستين عاما من الاحتلال تطالبنا إسرائيل وأمريكا بعدم انتظار الحل أو نسيان هذا الموضوع والتعامل مع إسرائيل وكأنه لا أرض محتلة ولا حصار ولا قتل، ولا اعتداءات على الأقصى، ولا تهديد للقدس، ولا تشريد للشعب الفلسطينى.. استعباط؟! أو استهانة بالعرب وحقوقهم وعقولهم..؟!
مع أن كوندوليزا رايس فى الأصل أستاذة علوم سياسية ولابد أنها قرأت- أو سمعت عن- كتاب الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر (فلسطين: سلام.. لا فصل عنصرى) الذى يتحدث فيه عن سياسة الفصل العنصرى التى تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطينى، وعن ديمقراطية إسرائيل فى الداخل يتمتع بها الإسرائيليون وحدهم، وسياستها العدوانية العنصرية تجاه الفلسطينيين، وأن الفلسطينيين يتعرضون لأسوأ حالات الاضطهاد التى شهدها العالم، وأن إسرائيل انتهكت جميع القوانين والقرارات الدولية، ويضيف كارتر أن الولايات المتحدة لم تناقش شيئا من ذلك حتى الآن، أو عن الوزراء وأعضاء المجلس الفلسطينى الذين اختطفتهم إسرائيل ومازالوا فى السجون الإسرائيلية حتى اليوم.
وكتب الرئيس كاتر بعد ذلك مقالا فى واشنطن بوست بعنوان (لا تعاقبوا الفلسطينيين) قال فيه بصراحة مدهشة: (هناك تواطؤ رسمى أو ضمنى بين إسرائيل والولايات المتحدة لاستمرار الشلل لعملية السلام واستمرار معاقبة الشعب الفلسطينى ويمكن أن يؤدى ذلك إلى نتائج عكسية وعواقب وخيمة. فإسرائيل منعت وصول أموال الفلسطينيين من إيرادات الجمارك والضرائب، ومنعت تحرك الأعضاء المنتخبين فى المجلس التشريعى الفلسطينى مسافة تزيد على 100 نقطة تفتيش إسرائيلية داخل الأراضى الفلسطينية، وأدى الحصار إلى عجز السلطة الفلسطينية عن دفع رواتب الموظفين وقوات الأمن والمعلمين والأطباء، ومنعت إسرائيل المساعدات الإنسانية والغذائية إلى الفلسطينيين عبر وكالات الأمم المتحدة كما منعت الرعاية الصحية والخدمات الأخرى للاجئين.. والحكومة الإسرائيلية تفرض العقوبات على الشعب الفلسطينى لاختياره (حماس) فى الانتخابات الأخيرة.. والنتائج المحتملة ستكون إقصاء الفلسطينيين واضطهاد الأبرياء، وإثارة العنف، وزيادة النفوذ الداخلى لحماس، والمخرج الوحيد من هذه الحالة البائسة هو الاتفاق من خلال المفاوضات الجادة على حل دائم بإقامة دولتين يوفر السلام لإسرائيل والعدالة للفلسطينيين، ومحمود عباس قادر على القيام بهذا الدور التفاوضى باعتباره الرئيس المنتخب ديمقراطيا.
وجدد جيمى كارتر: مطالبته لإسرائيل والولايات المتحدة (أعطوا الفلسطينيين أموالهم. دعوا المساعدات الإنسانية تصل إلى الشعب الفلسطينى عبر الأمم المتحدة ووكالاتها. شجعوا مصر وروسيا ودولا أخرى على ممارسة أقصى نفوذها على حماس للتخفيف من سياستها السلبية. دعموا الرئيس محمود عباس جهوده لتخفيف التوتر. تجنبوا سياسة العنف وابدأوا الخطوات التى تفضى إلى سلام دائم).
هذا ما قاله رئيس الولايات المتحدة الأسبق ويكفى أن يضعه القادة العرب أمام الإدارة الأمريكية وحكومة إسرائيل وقصر الحديث حول النقاط التى أثارها. وبعد أن تنفذها إسرائيل يمكن الحديث عن التطبيع والمصالحة والصداقة والسلام. أما الحديث عن المصالحة والتطبيع مع استمرار كل الإذلال للشعب الفلسطينى واستمرار احتلال الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية فليس له وصف إلا بأنه (استعباط) وتعامل مع العرب على أنهم أغبياء يمكن الضحك عليهم بالأوهام والوعود الكاذبة أو بالضبط عليهم سياسيا بالتلويح بمشروع أمريكا الخاص بإثارة الفوضى فى المنطقة التى أطلقت عليها اسما عبثيا يذكرنا بأدب اللامعقول هو (الفوضى الخلاقة) وكذلك بتحريض ورشوة عناصر محلية لإثارة الشغب والقلق وشغل الحكومات العربية بأزمات داخلية.
أساس المشاكل أن الدول العربية متفرقة.. وفى حالة ضعف، وباجتماع هذين السببين تتصور الإدارة الأمريكية- وإسرائيل- أن هذا هو الوقت المناسب لهما للضغط على العالم العربى لكى يقبل ما لا يمكن قبوله، ويتنازل عن الحقوق والمصالح والأراضى والمقدسات.. وهذا هو المستحيل.
وأساس الحل فى البداية بين العرب.
هناك من لا يزال يقول إن الأوراق كلها فى يد الولايات المتحدة مما يعنى أن العرب ليست لديهم أوراق، وهذا خطأ تاريخى واستراتيجى. العرب لديهم أوراق ولكنهم لا يستخدمونها، لأنهم متفرقون ولا يجتمعون على رأى واحد ولأنهم فى حالة ضعف. ومع ذلك فإن اجتماع الضعفاء وتوحد مواقفهم يجعلهم قوة. لا أتحدث عن البترول. ولكن أتحدث عن عوامل قوة أخرى عديدة لدى العرب يمكن التأثير بها على القرار الأمريكى والإسرائيلى.
أول هذه الأوراق وأكثرها اتساقا مع المنطق موقف موحد وجاد يقول: لا يمكن أن يعطى العرب لإسرائيل والولايات المتحدة إلا بعد أن تعطى كل منهما المقابل.. لن يعطى العرب كل شىء لإسرائيل وأمريكا دون أن يحصلوا على شىء. خطوة مقابل خطوة. وتنازل مقابل تنازل. والسلام والتطبيع ليس الخطوة الأولى ولكنه الخطوة الأخيرة بعد عودة الأرض وإقامة الدولة وليس قبل ذلك وإلا فإن ذلك هو التفريط.. ومن فى العالم العربى يقدر على أن يتحمل تاريخيا مسئولية التفريط فى الحقوق؟!