تنقل الينا الصحف والفضائيات أخبار الأزمة الإقتصادية في الولايات المتحدة وايطاليا وفرنسا وأسبانيا واليونان ولكن لم أكن أتصور أن الأزمة في بريطانيا قد وصلت إلي حد تخفيض ميزانية الجيش والجامعات وانهاء خدمة عشرات الآلاف..
وفي زيارتي الي لندن هذه المرة رأيت الآثار المؤلمة للأزمة العالمية في دولة عظمي مثل بريطانيا ولا تخفي حكومتها أن العلاج يحتاج الي وقت لن يكون قصيرا والي الصبر والقبول بالتضحيات!
لا تخفي الحكومة البريطانية أن هذا العام عام صعب علي البريطانيين بعد أن أعلن نائب رئيس الوزراء أن بريطانيا كانت علي حافة الهاوية الاقتصادية في العام الماضي وقال إن الأولوية الأولي للحكومة لا تزال انقاذ الاقتصاد,
وقد وصلت البطالة الي أعلي مستوي خلال العشرين عاما الماضية, وزاد عدد العاطلين علي ثلاثة ملايين, ولا أحد يعيش في الوهم ويتصور أن الأزمة العالمية والبريطانية يمكن أن تنتهي بسرعة, فكل من يحدثك يقول لك إن الأزمة ستكون طويلة المدي وأن بريطانيا ستعيش في حالة ركود متوسط مع استمرار ضغط الانفاق الحكومي لمواجهة العجز في الميزانية وتزايد الدين العام وتراجع الأنتاج وزيادة الضرائب.. ويتحدثون عن قيام الحكومة بإعادة هيكلة صناديق المعاشات ضمن برنامج التقشف وخفضت المعاشات وخفضت ثمانين مليار جنيه من الميزانة( بما يساوي سبعمائة وخمسين مليار جنيه مصري تقريبا) وقررت انهاء خدمة نصف مليون ولا يستطيع القطاع الخاص توفير فرص بديلة, ورفعت ضرائب المبيعات الي عشرين في المائة ومدت سن المعاش الي خمسة وستين عاما, والزمت العاملين بساعات عمل اضافية لتعويض النقص بسبب فصل الموظفين والعمال وقررت مضاعفة مصاريف التعليم الجامعي وخفضت ميزانيته!
قامت مظاهرات احتجاج واضرابات وأعلنت الحكومة بوضوح وبصراحة أنها لن تتراجع عن هذا البرنامج لأنه الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الاقتصاد وأن الاستجابة للمطالب سيعجل بالانهيار.. والنتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية( الغذاء ـ الكهرباء ـ البنزين ـ أسعار المساكن والمواصلات.. الخ), وخفض الانفاق العام علي التعليم والصحة, وكنتيجة لانخفاض الدخول تراجع معدل النمو الاقتصادي, وتنشر الصحف أخبار الشركات التي تعلن أفلاسها, والأثرياء الذين يعرضون منازلهم الفاخرة للبيع ويشتريها أجانب لديهم أموال كثيرة يريدون استثمارها في العقارات الراقية وأكثرهم عرب وهنود وصينيون وروس من الطبقة الجديدة في هذه البلاد.
وفي كل مكان ذهبت اليه كنت ألمس آثار الأزمة في كل شيء حتي في ثمن فنجان القهوة ومع ذلك فإن البريطانيين يتعاملون مع الأزمة بوعي حضاري يتناسب مع شعب دولة عظمي هي أقدم الديمقراطيات في العالم, حرية الرأي مكفولة مائة في المائة, والنقد لسياسات الحكومة في الصحف وقنوات التليفزيون وفي الاجتماعات, لم تعد هناك حاجة للاضرابات لأن المطالب معروفة والأزمة أيضا معروفة وليس من العقل المطالبة بما لا تستطيع الحكومة تنفيذه, والحوار مستمر بين الحكومة ونقابات العاملين, والأمور كلها واضحة ومعلنة بشفافية كاملة, ولا يجرؤ مسئول علي أن يكذب أو يضلل, فجريمة الكذب هي أكبر الجرائم الأخلاقية والسياسية والجنائية أيضا, ومحاربة الفساد تتم بحزم بعد صدور قانون لمنع الفساد بكل صوره هو أكثر القوانين تشددا في العالم, ومع ذلك لم تمنع الأزمة من إقامة الدورة الأولمبية بصورة تعكس عظمة بريطانيا, ولم تمنع الأزمة الملايين من الخروج الي الشوارع والمشاركة الجماعية في المهرجانات.
ويلفت النظر الي أن الشعب البريطاني محب للحياة وحريص علي المشاركة في كل المناسبات ولا تلحظ أثرا للاكتئاب والأحباط اللذين تراهما علي كثير من الوجوه في بلاد أخري نتيجة لأزمة مماثلة تمر بها بلادهم. واللطيف أن الحكومة البريطانية قررت إجراء استفتاء لقياس معدل السعادة لدي البريطانيين لدراسة حالة المواطنين النفسية والبدنية ومدي شعورهم بالرضا عن حياتهم.
هكذا تعيش الدولة العظمي وشعبها في ظل الأزمة والضائقة الأقتصادية والجميع يدركون أن الحياة يجب أن تستمر, والابتسامة يجب الا تختفي, والأزمة سيتم التغلب عليها بالعمل وبالأمل.