ليس من المعقول ـ ولا من المقبول ـ أن يظل نصيب الفرد في القاهرة 35 مترا مسطحا بينما نصيب الفرد في الرياض مثلا 200 متر وفي باريس120 مترا وفي موسكو150 مترا,
وهي عواصم مزدحمة وتشكو من الاختناق, فكيف تكون شكوي سكان القاهرة الذين لا يجدون مساحة من الأرض تسمح لهم بالحركة بسهولة ويشعرون فيها أنهم يتنفسون بالراحة.
سألت محافظا سابقا جمعتني به الصدفة: لماذا كنت تقدم الوعود ولا تنفذها, فقال لي: لاني كنت حسن النية, تصورت في البداية اني محافظ بحق وحقيقي, وأن لدي سلطات رئيس الجمهورية كما كان يقال, وحين رأيت بعيني ما وصلت إليه منطقة العتبة من تدهور وفوضي جعلها أقرب الي خرابة فكرت في أن أصدر قرارا بتطهير هذه المنطقة من العشوائيات والبلطجية وفوضي الباعة المنتشرين في كل مكان, ثم اصطدمت بحقيقة لم أكن أعرفها, وهي أن المحافظ لا يستطيع أن يصدر مثل هذا القرار إلا بعد موافقة مدير الأمن, وقيل لي إن المسألة ليست مسألة تنظيم أو تخطيط أو استعادة المظهر الحضاري, ولكنها أولا وأخيرا مسألة الأمن السياسي.. وكانت هذه أول صدمة.. بعد ذلك رأيت عمارات آيلة للسقوط وقررت أن أصدر قرارات بإزالتها حرصا علي حياة السكان, فقيل لي إنني اذا أصدرت هذه القرارات فلن أستطيع تنفيذها إلا بعد إذن وزارتي الدفاع والري, ولا أستطيع أن أقترب من العمارات المخالفة التي تملكها وزارات مثل عمارات العبور وهي مخالفة لجميع قوانين الاسكان.. وهذه مجرد أمثلة ليس إلا, فكيف يمكن للمحافظ أن يقوم بدوره في تلك الظروف مهما كان إصلاحيا أو ثوريا, أو صاحب رؤية؟ ثم قال سيادته: لا تسألني عن النظافة والتجميل والانضباط في الشارع, فهيئة النظافة والتجميل فيها عجز كبير في الأفراد, وكنا نزرع الأشجار والزهور ونفاجأ بعد ذلك بسرقتها أو قطعها, ونكتشف أن السيارات التي تحمل الزبالة تلقيها في شوارع مدينة نصر, ونكتشف سرقة لمبات النور من الأعمدة, وقالوا لي إن نظافة القاهرة ـ وقتها ـ تحتاج68 مليون جنيه وأرسلت تقريرا بذلك الي رئيس الوزراء, ولم أتلق ردا بالموافقة أو بالخفض أو حتي بالرفض!
والحل لمشكلات القاهرة التي يضيق المقام بحصرها, هو إصدار قانون خاص للعاصمة يعطي حرية الحركة للمحافظ وللمجلس المحلي, ويمنح مجلس المحافظة سلطة فرض رسوم لتمويل مشروعات الاصلاح والتنمية وسلطات ادارية لتنفيذ الإزالة للمباني الآيلة للسقوط بشرط إيجاد مساكن بديلة لسكانها, وسلطة عدم السماح بالسكني في أي مبني إلا بترخيص يصدر بعد التأكد من أن هذا المبني تم بترخيص وأنه التزم بحدود الترخيص دون تجاوز وأن فيه جراجا للسيارات, وهذه الشروط تطبق في كثير من بلاد العالم وفي بلاد عربية منها مسقط عاصمة دولة عمان, والرياض عاصمة السعودية, وفي كل امارة من الامارات العربية المتحدة..
والقاهرة توشك علي الانفجار ويلزمها إجراءات ثورية وليس مجرد اصلاحات جزئية, وتوصيات أساتذة وخبراء التخطيط العمراني كثيرة عن تخطيط جديد لكورنيش النيل ليكون متنفسا للترفيه والمتعة وهما من أبسط الحقوق التي حرم منها سكان القاهرة ودول العالم تتنافس في استغلال شواطئ الأنهار وإنشاء الحدائق وتحويل منطقة النهر الي منطقة للترفيه وللأنشطة الثقافية, وخفض حركة النقل, ووضع نظم وقوانين للبناء علي الكورنيش الذي يمثل واجهة المدينة كلها علي النيل, ليكون ملكا للشعب وليس ملكا لأفراد أو لشركات محدودة العدد.
ومن المخجل أن نجد كورنيش النيل مستباحا للورش ومخازن الأخشاب وشون الغلال وتلال النفايات في كل مكان علي شاطئ بولاق وساحل روض الفرج في الشمال, وساحل أثر النبي ومصر القديمة ومن بعد المعادي حتي حلوان, ومنذ إنشاء الكورنيش في الخمسينيات الي اليوم لا يوجد تصور متكامل للتنظيم ولشروط استغلال الأراضي الواقعة علي ضفتي النيل.
والخبراء حذروا كثيرا من أن الأوضاع العمرانية الحالية للقاهرة تدل علي تضارب النسق المعماري وفجاجة الذوق والعشوائية في التخطيط ويجب ألا يترك مسار عمران عاصمة مصر وإفريقيا الي مصير مجهول يتحول فيه الي معرض كرنفالي للمعمار العالمي فاقد الهوية والطابع.